خيرالله خيرالله
ما لم يحصل في ضوء نهاية الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي، سيحصل حتما بعد انتهاء الحرب على وباء كورونا. إنّها حرب يبدو أنّها ستطول أشهرا أخرى، على حد تعبير رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي كان يعتقد أن المسألة مسألة أسابيع ويعود كلّ شيء إلى حاله.
بعد سقوط جدار برلين في خريف 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي رسميا في مطلع العام 1992، ساد انطباع أن العالم دخل مرحلة جديدة لا علاقة لها بتلك التي سادت بين مؤتمر يالطا في 1945 وتحطيم الألمان لجدار برلين. انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة، لكنّ انتصارها لم يكن من النوع الحاسم، إذ تبيّن أن قوى أخرى ستبرز، وسيكون لها تأثيرها في مناطق معيّنة.
في الواقع، تحرّرت دول أوروبا الشرقية التي انضمت دولها إلى الاتحاد الأوروبي. الواحدة تلو الأخرى لكنّ تحكّم الولايات المتحدة بمصير العالم بشكل كلّي لم يستمرّ طويلا، خصوصا مع صعود نجم فلاديمير بوتين الذي ما زال يحلم باستعادة روسيا لأمجاد الاتحاد السوفياتي ودوره العالمي.
إذا كان من كلمة حقّ تقال، فهي أن بوتين، أو القيصر الروسي الجديد، نجح في ذلك جزئيا بعدما أثبت أن روسيا ما زالت قوّة عسكرية لا يمكن الاستهانة بها. ظهر ذلك بوضوح من خلال استعادة شبه جزيرة القرم، ذات الأهمّية الإستراتيجية للأسطول الروسي، من أوكرانيا. شبه جزيرة القرم هي في الأصل أرض روسية كان تخلّى عنها نيكيتا خروشوف لأوكرانيا التي كان المسؤول الحزبي عنها، قبل أن يخلف جوزيف ستالين في موقع الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي. لم يكن مهمّا، وقتذاك، أن تكون شبه جزيرة القرم أوكرانية ما دامت أوكرانيا جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي.
جاءت بعد ذلك الصين التي تحوّلت إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والتي باتت تمتلك إستراتيجية دولية خاصة بها، خصوصا بعد نجاح نظامها في قمع الثورة الشعبية التي ترافقت مع انهيار الاتحاد السوفياتي. كان أهمّ تعبير عن مدى قدرة النظام الصيني على الذهاب في القمع، أحداث ساحة تيين ـ آن- مين في بيجينغ في العام 1989. استطاعت الآلة القمعية للنظام الصيني إخماد ثورة شعبية عارمة حاول من خلالها الصينيون تقليد الألمان الشرقيين الذين كانوا في طريقهم إلى الانتهاء من جدار العار الذي قسّم برلين طويلا.
في عصر ما بعد كورونا، سيكون هناك نظام دولي جديد قائم على فكرة اهتمام كلّ دولة من دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، بتطوير نظامها الصحّي. سيتوجب على كلّ دولة التأقلم مع احتمال انتشار أوبئة من نوع جديد بعدما أخذ فايروس كورونا العالم على حين غرّة، وانتشر بالطريقة التي انتشر بها، خصوصا في أوروبا والولايات المتحدة.
اكتشفت أوروبا أنّها لا تستطيع أن تكون كيانا موحّدا حقيقيا. مع مجيء كورونا، وجدت إيطاليا نفسها في وضع من لا يستطيع الاتكال على الاتحاد الأوروبي. كان على نظامها الصحّي الذي انهار فجأة التعاطي مع كارثة لم تتصور يوما أنّها ستحلّ بها، كما ستحلّ بإسبانيا وحتّى بفرنسا. لا شكّ أن حال الفوضى السياسية التي مرّت فيها إيطاليا في السنوات الأخيرة لعبت دورها في وصول النظام الصحّي إلى ما وصل إليه. من دولة تمتلك أحزابا قديمة تتنافس في ما بينها على السلطة، إذا بإيطاليا ضحية تجاذبات بين هواة في السياسة ينتمون إلى أحزاب يمينية متطرّفة، أو انفصالية لا برامج سياسية أو اقتصادية واضحة بالنسبة إليها. حصل ذلك فيما الاتحاد الأوروبي يعيش في ظل تجاذبات داخلية تعود إلى أسباب عدّة. من بين تلك الأسباب توسيع الاتحاد ليضمّ دولا فقيرة ذات اقتصاد هشّ من جهة، وخروج بريطانيا من جهة أخرى. لعبت بريطانيا دورها في تخريب الاتحاد الأوروبي من الداخل عبر توسيعه، وذلك كي يخفّ نفوذ الثنائي الألماني – الفرنسي، وما لبثت أن خرجت منه في ظروف غامضة إلى حدّ كبير… لأسباب لا تزال واهية!
في كلّ الأحوال، ستتغيّر العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي في اتجاه مزيد من الاستقلالية، الأكيد أنّه لن يكون هناك خطوات جديدة نحو مزيد من التكامل بين دول الاتحاد الأوربي. حلم أوروبا الواحدة الموحدة صار اليوم أبعد بكثير مما يُعتقد. ستظل الولايات المتحدة الاقتصاد الأكبر والأكثر تطورا في العالم، لكنّ أسئلة كثيرة ستطرح فيها عن القدرة على مواجهة تحدّيات جديدة. تبيّن بكل بساطة أن الولايات المتحدة، القوّة العظمى الوحيدة على الكرة الأرضية، عاجزة عن مواجهة كورونا. أكثر من ذلك، يستطيع كورونا شلّ قسم من الجيش الأميركي…
استطاع العلماء الأميركيون تفكيك جينات الإنسان وطلاسمها، والإقدام على فتوحات جديدة في عالم الطب والذهاب بعيدا في تطوير الذكاء الاصطناعي. تحققت في أميركا قفزات كبيرة في مجال العلم… إلى أن واجهت كورونا. هذه عودة إلى نقطة البداية تفرض مراجعة كلّ الإنجازات التي تحققت والبحث عن إنجازات جديدة من نوع آخر، بغية تحقيق انتصار على وباء تبيّن أن مصدره الصين.
أي نظام جديد سينشأ بعد كورونا؟ الأكيد أنّه لن يكون فيه مكان لدول مثل إيران التي نخرها كورونا، فيما لا تزال مقتنعة بأنّها ستتحكّم بمصير المنطقة كلّها معتمدة على نظريات ذات طابع غيبي وعلى ميليشيات مذهبية في حاجة إلى تمويل مستمرّ!
ما هو أكيد أيضا أنّ قيما كثيرة ستتبدل. سيتوجب على كل دولة الاهتمام بأمنها الداخلي وانضباط الناس وبشؤون مرتبطة بنظامها الصحّي، أكانت هذه الدولة صغيرة أو كبيرة. لكنّ ما هو أهمّ من ذلك كلّه أن الإنسان العادي سيعرف أكثر قيمة الحياة. سيتعرّف على قيمة الحياة مجدّدا، وعلى أن لا شيء يحميه من كارثة مثل كارثة كورونا يمكن أن تحدث في أيّ لحظة. استطاعت الولايات المتحدة إرسال إنسان إلى سطح القمر. تحاول الآن معرفة أسرار المرّيخ… لكنها تقف عاجزة أمام وباء كورونا. صار مفروضا على دونالد ترامب الظهور يوميا للإجابة عن أسئلة الأميركيين وطمأنتهم إلى أنّه يقود الحرب على كورونا، وذلك كي يضمن ولاية رئاسية ثانية.
تغيّرت هموم الأميركيين إلى درجة أن معركة الرئاسة الأميركية صارت مرتبطة بكورونا، لا بالاقتصاد ولا بالسياسة، ولا بالعلاقات مع الدول الأخرى. هل من دليل أكبر من هذا الدليل على أن نظاما عالميا جديدا سيولد من رحم كورونا!