نزار بولحية
على اختلاف الظرف التقى الفرنسيون والإسبان في مسار واحد، ففي الوقت الذي خرجوا فيه من أزمة توغلوا سريعا في أخرى. وبين أزمتين وجدت باريس فرصتها في أن تطلق بالون اختبار تجريبي كانت الغاية منه، الإيحاء بأنها لا تزال تمسك خيوط المشهد الإقليمي. غير أن النتيجة التي حصلت، بعد أن نقل قبل أيام موقع «مغرب أنتلجنس» الإخباري الفرنسي عن مصادر غير معروفة، أن فرنسا ستتقدم خلال الزيارة التي سيؤديها رئيسها غدا الخميس إلى الجزائر، بمقترح وهو تنظيم قمة مصغرة تكون في باريس، أو في مدينة فرنسية أخرى، تجمع بين دبلوماسيين جزائريين وإسبان ومغاربة، من أجل مناقشة الحلول التي يجب تنفيذها لتحسين العلاقات الثنائية بين دول المنطقة، مثلما ذكر الموقع أن الشرخ القائم أصلا بين الجزائر والمغرب ازداد توسعا، لتتهم مصادر إعلامية جزائرية الرباط بالوقوف وراء تسريب الخبر، وتعلق مصادر مغربية بأن الجزائريين الذين باتوا بنظرها في عزلة، صاروا يطلبون الآن توسط ماكرون في خلافهم مع المغرب وإسبانيا.
لكن ما كُشف من تفاصيل حول جدول أعمال زيارة ماكرون، التي قال عنها بيان الإيليزيه السبت الماضي، إنها «ستساهم في تعميق العلاقات الثنائية مستقبلا وتعزيز التعاون الفرنسي الجزائري في مواجهة التحديات الإقليمية، ومواصلة العمل على الذاكرة « لم يحمل أي إشارة إلى أن ذلك الموضوع كان واحدا من أهدافها. وبغض النظر عما إذا كانت فرنسا ترغب بالفعل في أن تلقي ثقلها وراء مبادرة من ذلك النوع أم لا، فإن اللافت هو أنها وجدت نفسها وفي ظرف عام واحد فقط، أمام أزمتين مركبتين مع عاصمتين مغاربيتين مهمتين جدا بالنسبة لها، ولم يكن ذلك بالطبع وليد صدفة. غير أن السؤال هو، هل كانت قادرة فعلا على أن تتفادى الوقوع فيهما؟ أم أنها كانت مدركة أن المضي قدما في لعبة شد الحبال وإرخائها للطرفين سيقود حتما إلى انحدار ملحوظ لعلاقتها بالجزائر في فترة، وهبوط حاد مع المغرب في أخرى؟
لم يكن من المنطقي أن يبادر الفرنسيون إلى خلط الأوراق في منطقة كانوا يعلمون شدة تعقيداتها، وصراعاتها بين أهم قطبين فيها، أي المغرب والجزائر
من الواضح أنه لم يكن من المنطقي أن يبادر الفرنسيون إلى خلط الأوراق في منطقة كانوا أكثر من يعلم شدة تعقيداتها، وما تعج به من نزاعات وصراعات حادة بين أهم قطبين فيها، أي المغرب والجزائر، لكن الملف الصحراوي وهو المدار الأكبر والأهم للخلافات هناك، ظل حاضرا ولو بشكل خفي في مختلف المراحل، ليبقى واحدا من المحددات الأساسية للتوجهات والمسارات التي أخذوها في علاقتهم بالدولتين. وهنا كان يبدو غريبا أن لا يثير رد الفعل الفرنسي الفوري على الاعتراف الأمريكي في ديسمبر 2020 بمغربية الصحراء، غضبا واسعا في الجزائر، عكس ما حصل حين أقر رئيس الوزراء الإسباني في رسالته للعاهل المغربي ربيع العام الجاري، بسيادة الرباط على ما تعتبرها أقاليمها الجنوبية. لقد قلل الجزائريون من أهمية تصريح المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت، الذي قالت فيه إن «فرنسا تؤيد حلا سياسيا عادلا ودائما ومقبولا من الطرفين، ومتوافقا مع قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة»، وإنها تعتبر وعلى ضوء تلك الرؤية «خطة الحكم الذاتي المغربية أساسا لمحادثات جادة وذات مصداقية» لحل النزاع الصحراوي «الذي طال أمده ويمثل مخاطر دائمة باندلاع توتر»، على حد تعبيرها، ولم يكن واردا بالمرة أن يستدعوا السفير الفرنسي المعتمد لديهم ليبلغوه انزعاجهم، أو عدم رضاهم عن تلك الخطوة الفرنسية، لكن هل كانوا يأملون حينها في أن يلتف الفرنسيون لاحقا على مضمون تلك التصريحات، وفضلوا تبعا لذلك، وبتعبير الرئيس الراحل ميتران، أن «يتركوا الوقت للوقت» وأن لا يقطعوا شعرة معاوية مع عاصمة يدركون جيدا، لا فقط أهميتها بالنسبة لهم، بل تأثيرها الواسع في باقي أقطار القارة العجوز أيضا؟ إن أثر الكفة الفرنسية التي بدت حينها وكأنها تميل لصالح المغرب، كان أقل من طموحات الرباط، وأدنى من هواجس الجزائر، لكن ما الذي حمل باريس بعدها بشهور قليلة فقط على استفزاز قصر المرادية، من خلال وصف إحدى برقيات وكالة الأنباء الفرنسية في مايو 2021 لحركة الماك القبائلية التي تعتبرها إرهابية بالـ»المنظمة المؤهلة والمؤيدة للديمقراطية»؟ لقد كان الفرنسيون يدركون جيدا أن التلويح بتلك الورقة ولو بشكل غير رسمي، وعبر وكالة أنبائهم سيكون اختبارا مهما لردة الفعل الجزائرية إزاء هجوم لفظي أعنف وأشد، من قبيل ما بادر بشنه الرئيس الفرنسي وبشكل مفاجئ خريف العام الماضي، خلال لقائه ببعض الشبان من أصل جزائري حين اعتبر وفقا لتسريبات نشرتها صحيفة «لوموند» في ذلك الوقت، أن الرئيس الجزائري يخضع «لتأثير المحيطين به»، وأنه «عالق في نظام قاس للغاية» ثم مضى ليقول، إن التاريخ الرسمي للجزائر «أعيدت كتابته بالكامل، وإنه لا يقوم على الحقائق، بل على خطاب قائم على الكراهية لفرنسا»، قبل أن يشكك أصلا في وجود أمة جزائرية، قبل الاحتلال الفرنسي للبلاد. وكانت باريس تدرك وقتها بالطبع أن السلطات الجزائرية لن تلازم الصمت طويلا، لكنها كانت تعرف أيضا أنها لن تجازف بالقيام بعمل دراماتيكي صادم من قبيل قطع العلاقات معها، لكن ما الذي حصل خلال فترة البرود التي عرفتها العلاقات الفرنسية الجزائرية، والتي دامت تقريبا نحو ثلاثة شهور، وانتهت رسميا بعودة السفير الجزائري مطلع العام الجاري إلى باريس؟ هل انتعشت العلاقات بين فرنسا والمغرب، وقطعت شوطا إضافيا آخر؟ لقد كان المغاربة حينها في خلاف حاد مع الجارة الإسبانية لعب الفرنسيون في بعض الفترات دورا فيه، من خلال التقريب بين الطرفين قبل أن ينتهي مطلع الربيع الماضي، باعتراف إسباني تاريخي بمغربية الصحراء، الذي اعتبرته الجزائر تحولا غير مقبول في الموقف الإيبيري من القضية الصحراوية. لكن الموقف الفرنسي من الصحراء، الذي ظل يتكرر على لسان المسؤولين في الخارجية وهو، أن مقترح الحكم الذاتي يعتبر أساسا جادا وذا مصداقية للنقاش حول المشكل، لم يفتح آفاقا إضافية في علاقة البلدين.
لقد فهم المغاربة أن باريس التي أبدت منذ الصيف الماضي قلقها مما ذكرته مصادر إعلامية من أن أرقام هواتف شخصيات عليا، وفي مقدمها الرئيس الفرنسي نفسه، كانت على قائمة الأهداف المحتملة لبرنامج بيغاسوس للتجسس، الذي استخدمه جهاز أمني تابع لهم، لم ترغب بالمضي بعيدا في اعترافها بمغربية الصحراء. ومع أن الرباط ظلت تتحفظ على ما اعتبرها كثيرون علامات فتور في علاقتها مع باريس، إلا أن خطاب العاهل المغربي السبت الماضي في ذكرى «ثورة الملك والشعب» الذي قال فيه إن «ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات» قد وضع حدا لذلك على ما يبدو. أما كيف ستتصرف فرنسا بعدها؟ وهل أنها ستكون قادرة على أن تعيد بناء علاقات متوازنة مع الجارتين المغاربيتين؟ فذلك هو ومن دون شك أكبر تحد يواجهه ماكرون في رحلته غدا إلى الجزائر.
كاتب وصحافي من تونس