نزار بولحية
لن تحسم على البر فقط ما يراها المغرب حرب استكمال وحدته الترابية. فعلى البحر أيضا قد تدور واحدة من أهم فصول ما قد تتحول إلى أم المعارك المغربية. ومع أن كثيرين لم يلقوا بالاً لحدث قد لا يبدو عاديا في سياق التوترات التي تشهدها العلاقات الجزائرية المغربية، والجزائرية الإسبانية، وهو التقاء عسكريين مغاربة وجزائريين وإسبان الاثنين الماضي، بحضور نظراء لهم من جنسيات أخرى في تونس لخوض تمرين بحري مشترك هناك، ربما لأن ذلك الاجتماع العسكري في عرض البحر كان بنظرهم ذا طابع عملياتي بحت، وبالتالي فإنه لم يكن منتظرا أن تسفر عنه أي اتفاقات، أو مبادرات لكسر الجليد في علاقة الجارات المتوسطيات بعضها ببعض، إلا أن لقاء آخر ترجح مصادر إعلامية، أن يعقد الشهر المقبل في البر لا بين الأطراف الثلاثة، بل بين اثنين منها فقط وهم المغاربة والإسبان قد يجلب اهتماما إقليميا، وربما دوليا واسعا، وقد يكون له أيضا انعكاس مباشر على تلك العلاقة. فهو يكتسي طابعا سياسيا وتقنيا في الوقت نفسه، كما أنه محدد الهدف وغير مقيد بسقف زمني مسبق، لأن مداره البحث في مسألة حساسة ودقيقة قد يستغرق الحسم فيها وقتا غير معلوم، وتتعلق بسيادة كل واحد منهم على جزء من المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، وبالتالي توصلهم لاتفاق نهائي على ترسيم حدودهم البحرية.
ومن المؤكد أن تلك العملية لن تكون بسيطة أو سهلة، كما أنها لن تخلو من العقبات والصعوبات. فعلى الجبهة التي استعادت قبل أسابيع قليلة فقط بعضا من هدوئها واستقرارها بعدما يقرب العام من التصعيد والتوتر، يجد المغاربة أنفسهم أمام واحدة من أقوى وأشرس المعارك الدبلوماسية، التي يتعين عليهم خوضها برباطة جأش كبرى، لكن بحنكة ومهارة أيضا، لأنهم يدركون جيدا أن كسبها لن يقربهم فقط من تحقيق هدفهم في إنهاء الملف الصحراوي بالشكل الذي يريدون، بل سيغير أيضا جزءا كبيرا من المعادلات الموجودة داخل المشهد الإقليمي في الشمال الافريقي.
لقد كانت الرسالة التي بعثها رئيس الوزراء الإسباني إلى العاهل المغربي مفتاح الصفحة الجديدة، التي أشرعت أمام الجارتين لكتابة مستقبل آخر لشعبيهما، لكن الموقف الإيبيري الجديد من القضية الصحراوية، الذي أدى إلى برود وجفاء في العلاقة مع الجزائر، لم يحز على إجماع أو قبول داخلي واسع في مدريد، بل تحول وعلى العكس إلى مادة للمزايدة والتراشق الإعلامي بين الكتل والأحزاب السياسية هناك. وبغض النظر عما يمكن أن تؤول إليه مداولات مجلس النواب الإسباني يوم الأربعاء حول المقترح الذي تقدم به الحزب الشعبي المعارض لمطالبة الحكومة الإسبانية بالتراجع عما أعلنته منتصف مارس الماضي من دعم لمقترح الحكم الذاتي، كحل لمشكلة الصحراء، فإنه سيكون من غير المتوقع أبدا، أن تخطو حكومة بيدرو سانشيز الآن أي خطوة إلى الوراء، أو أن تدير ظهرها كما يتمنى البعض لما أقرته في تلك الرسالة. والمفارقة هي أن تلك الحكومة تجد نفسها بين نار أخرى، فهي اليوم أمام تحد ثان لا يقل ثقلا وأهمية عن الأول، إذ أن المغاربة الذين رحبوا في وقت ما بـ”المواقف الإيجابية والالتزامات البناءة لإسبانيا بخصوص قضية الصحراء المغربية” حسبما جاء حينها في بيان للخارجية المغربية، ورأوا وفقا للبيان نفسه أن “العبارات الواردة في الرسالة تتيح وضع تصور لخريطة طريق واضحة وطموحة، بهدف الانخراط بشكل مستدام في شراكة ثنائية، في إطار الأسس والمحددات الجديدة التي تمت الإشارة إليها في الخطاب الملكي في 20 أغسطس الماضي”، التي تمثلت في “الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات”، لا يبدو أنهم سيكتفون بذلك الاعتراف الإسباني اللفظي بحقهم في الصحراء. فهم يرغبون وبلا شك في أن تتقدم الحكومة الإسبانية إلى الأمام وتترجم أقوالها إلى أفعال حقيقية على الأرض. وما يعنيه ذلك وبوضوح تام هو ليس فقط أن تفتح قنصلية في المناطق الصحراوية، بل أن تتخلى بالأساس عن السيطرة الجوية التي فرضتها في وقت سابق على حركة الطيران المدني في الصحراء، التي كانت قد أقرت في ظرف محدد ولأسباب معلومة وبالاتفاق التام مع الرباط.
كما أن النقطة الأهم على ذلك الصعيد قد تكون قبولها ترسيم حدودها البحرية مع المغرب، بما فيها تلك التي تحاذي الصحراء وفقا لما قامت به الرباط بشكل منفرد قبل عامين، حين صادق برلمانها على قانون يقضي بضبط الحدود البحرية المغربية على مسافة مئتي كيلومتر داخل البحر. ومتى تأكدت المعلومات حول التاريخ الجديد للقائهم، فإنها لن تكون المرة الأولى التي يسعى فيها المغاربة والإسبان للوصول إلى اتفاق حول تلك المسألة، فقد سبق لهم أن تداولوا فيها قبل نحو خمسة عشر عاما من الآن، من دون أن تسفر المفاوضات التي جرت بينهما عن نتيجة. ولا شك في أن أشياء عديدة تغيرت في السنوات التي فصلت بين ذلك التاريخ، والموعد الذي يفترض أن تعقد فيه الجولة الجديدة من اللقاءات المغربية الإسبانية. فالجميع يذكر ما قاله وزير الخارجية المغربي العام الماضي في عز خلاف بلاده مع مدريد، من أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، ما يعني أنه بات على إسبانيا تبعا لذلك أن “تقوم بتحيين نظرتها للمغرب” كما جاء في تصريحه في ذلك الوقت. ولا شك بأن الإسبان يدركون جيدا أن زمن العجرفة واستعراض القوة مع جارتهم الجنوبية قد ولّى، وأنه لم يعد بوسعهم، حتى إن حافظوا على تفوقهم العسكري، أن يستهينوا بقدرة المغاربة على الرد بشكل قاس ومؤلم، على أي تصرف أو إجراء منفرد أو مغامرة قد يقدمون عليها في المنطقة. لكن الموازنة الصعبة التي ستوضع أمامهم هي في الحفاظ على طموحاتهم ومصالحهم في الشمال الافريقي، والتحسب في الوقت نفسه لتبعات ما قد يسببه ما قد يعتبرونه رضوخا أو تنازلا للمغرب من تأثير في ميزان القوى الإقليمي بشكل يمس علاقاتهم بالجزائر، ويعطي إشارات قد تشجع الرباط على التمادي في توسيع دائرة طلباتها، لتشمل لاحقا فتح باقي الملفات التي لا يزالون رافضين وبشدة أن توضع على الطاولة، وفي مقدمتها مسألة احتلالهم لبلدتي سبتة ومليلية، ولأكثر من عشرين صخرة وجزيرة مغربية. ومع أن الإسبان قد يقبلون في النهاية بسيادة المغرب لا فقط على المياه الإقليمية المتاخمة للصحراء، بل حتى في ما يسمح به القانون الدولي بعد ذلك، أي ما يعرف بالمياه المتاخمة والمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، وبالتالي ما بات معروفا بجبل تروبيك الغني بالموارد الطبيعية، مقابل حصولهم على امتيازات ما، إلا أن العملية لن تكون سهلة في مواضع أخرى، خصوصا في البحر المتوسط. يبقى أن أي اتفاق قد يحصل بين الجانبين قد لا ينهي بالضرورة تلك الحرب، لكنه سيكون بالتأكيد عاملا حاسما في تحديد نتائجها.
*كاتب وصحافي من تونس