بقلم : اسماعيل الحلوتي
كثيرة هي الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من انتشار فيروس كورونا المستجد المسمى “كوفيد -19″، الوباء الأخطر في القرن الواحد والعشرين، الذي إلى جانب ما خلفه من أضرار جسيمة على عدة مستويات صحية واقتصادية واجتماعية، عرى حقيقة الواقع المر الذي نعيش في أحضانه وأماط اللثام عن الوجوه القبيحة لبعض الانتهازيين، ممن يدفعهم حب المال والمصالح الذاتية إلى استغلال الأزمات والاتجار في مآسي البلاد والعباد، كما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من أباطرة التعليم الخاص .
ففضلا عن موجة السخط والغضب التي خلفتها تلك الرسالة العجيبة الموجهة إلى رئيس الحكومة سعد الدين العثماني من قبل بعض هيئات التعليم الخاص، التي عوض الانخراط في حملة التضامن الوطني والمساهمة في محاربة الوباء الفتاك الذي ما انفك يحصد آلاف الأرواح في مختلف بقاع الأرض، اختارت طلب الاستفادة من دعم الصندوق الخاص بمواجهة جائحة كورونا المحدث بتعليمات ملكية، بدعوى أن القطاع بات هو الآخر متضررا ومهددا بالإفلاس…
وعن رسالة الاعتذار التي فرضتها عليها الانتقادات اللاذعة، مدعية عدم توفقها في صياغة مطالب القطاع الملحة، وأن هدفها الحقيقي لم يكن بدافع استفادة المستثمرين أو مالكي المؤسسات التعليمية من صندوق تدبير جائحة كورونا، وإنما لدعم بعض مستخدمي القطاع إذا ما تبين أن هناك عجزا لدى بعض المؤسسات عن صرف رواتب العاملين بها، مؤكدة على حرصها الدائم على الرفع من مستويات متعلميها، ومساهمتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحديث منظومة التربية والتكوين، باعتبارها شريكا أساسيا في العملية التعليمية وتطوير مخرجاتها، مبدية استعدادها التام للقيام بالواجب الوطني عبر التبرع لفائدة الصندوق ووضع فضاءات المؤسسات رهن إشارة السلطات المعنية كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
فإنه سرعان ما انفضح سر لوبي التعليم الخاص الذي ما إن أشرف شهر أبريل على الانتهاء حتى كشر عن أنيابه، معلنا حربا ضروسا على أمهات وآباء وأولياء التلاميذ، من خلال المطالبة الفورية بتسديد الواجب الشهري، دون مراعاة تراجع مداخيل الكثير من الأسر أو توقفها نهائيا، جراء تفشي الفيروس وإعلان السلطات العمومية منذ 20 مارس 2020 عن حالة الطوارئ الصحية.
حيث أن جل هذه المدارس سارعت إلى مراسلة أسر تلامذتها قصد تسوية ما بذمتها من أقساط شهرية، والأدهى من ذلك أن الأمر لم ينحصر فقط على ما تدعيه من استمرار خدماتها عن بعد لفائدة التلاميذ، التي مهما بذل القائمون عليها من جهود لا ترقى مردوديتها إلى مستوى ما تقدمه الدراسة الحضورية من فوائد، بل منها من طالبت حتى بواجبات النقل المدرسي والإطعام، اللذين لم يعد يستفيد منهما المتعلمون منذ إغلاق أبوابها في 16 مارس 2020، امتثالا لقرار وزارة التربية الوطنية في إطار الإجراءات الاحترازية والوقائية للحفاظ على صحة وسلامة التلاميذ والأطر التربوية والإدارية، القاضي بمواصلة الدراسة عن بعد عبر منصات رقمية وقنوات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة.
ذلك أن عددا من هذه المؤسسات أبت إلا أن تفرض التسديد العاجل، رافضة أي تحويل بنكي أو أي مرونة تجاه الأسر المتضررة، التي أفقدت الجائحة أربابها موارد رزقهم أو أدت إلى توقفهم المؤقت عن العمل، بل منها من عمدت إلى التهديد بعدم إعادة تسجيل أبنائهم خلال الموسم الدراسي القادم، ومنها كذلك من لجأت إلى لغة التصعيد عبر توجيه إنذارات قضائية لهم، متذرعة بما عليها من التزامات مالية إزاء المستخدمين، علما أن الكثيرين منهم استفادوا من دعم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي…
وعلى إثر هذه الاستفزازات التي أشعلت نيران الخلاف الكبير بين أباطرة مؤسسات التعليم الخاص والكثير من أولياء التلاميذ، الذين يرفضون الرضوخ للضغوطات الممارسة عليهم من أجل أداء أقساط شهرية عن فترة يعتبرونها “بيضاء” ومحكومة بحالة الحجر الصحي، لاسيما أن أغلب الآباء والأمهات وجدوا أنفسهم مكرهين على تقمص أدوار المدرسين في تعليم أبنائهم، مما ساهم في مضاعفة معاناتهم ومشاقهم اليومية. وخوفا مما بات يتهدد مسار أبنائهم الدراسي، كان طبيعيا أن يبادروا إلى تشكيل تنسيقيات بشتى أرجاء البلاد وإنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن تظلماتهم، ناهيكم عن الوقفات الاحتجاجية أمام المؤسسات والأكاديميات للمطالبة بالتدخل والإنصاف.
ولأن وزارة التربية الوطنية لا تملك أي سلطة حقيقية في حل مثل هذه النزاعات المادية، باعتبار مؤسسات التعليم الخصوصي مقاولات مستقلة بذاتها في ما يرتبط بالشق المالي، فقد اكتفي الوزير المشرف سعيد أمزازي بدعوة هيئات جمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ إلى القيام بدور الوساطة والعمل على محاولة ردم الهوة الفاصلة بين الطرفين المتناحرين، من أجل إيجاد حل وسط وتوافقي يلبي رغبتيهما، مبديا عزمه الأكيد على التدخل من جانبه لدى السلطات المختصة، لتقديم ما يلزم من دعم مالي لفائدة المتضررين العاملين في القطاع من مربيات وسائقين وطباخين وغيرهم.
إن جائحة “كوفيد 19” عرت عيوب واقع التعليم الخاص وفضحت انتهازية وجشع القائمين عليه، الذين يفتقرون إلى روح المواطنة الصادقة ويستغلون الفراغ القانوني القائم، من حيث انعدام وجود عقود مبرمة بين الأطراف المعنية تضمن حقوقها وواجباتها. فماذا لو أن هؤلاء “الأباطرة” استغنوا عن تلك الشهور الثلاثة أو تركوا المجال مفتوحا أمام الأمهات والآباء، ليؤدي كل واحد حسب إمكاناته المادية، مراعاة لحساسية المرحلة وحفاظا على صورة المدرسة الخصوصية والعلاقات الاجتماعية والمهنية؟.