وشم بالكلمة:
في حاجة إلى سقراط جديد
يحيى عمارة
يسأل المرء نفسه اليوم سؤالا وجوديا وسياسيا وفكريا ينطلق من عملية اندهاشه إزاء الأوضاع السياسية والفكرية المتردية ، التي أصبحت تغزو الكائنات والعوالم ، بدءا من العنف مرورا بالبلادة ووصولا عند التشتت والتفرقة. ويبقى حائرا في سؤاله، حيث لا يجد جوابا عند فرد واحد أو مؤسسة واحدة ، الأمر الذي يجعله ينخرط دون أن يدري في ترسيخ أسباب السؤال وترك جهود البحث عن جواب. لكن هذا أدى بنا إلى خوض هذه الحال ،لأول مرة، حيث ليس من عادتنا أن نكتب في أشياء يراقبها حراس الحال، ولا يعترفون بما جاء فيها من أفكار، إلا لمن زكى ونطق بأم اللسان، ما قاله هؤلاء لا يمكن أن يصل إليه إنسان. ومعنى الوصول هنا، ما تحدده مقاصد التأويل والتفسير والأفق. وقبل مقاربة الجواب. نقول لك أيها القارئ العزيز لهذا المقال، أن من أسباب معالجة السؤال، هو أن حراس الحال نجعلهم سببا مباشرا في طرح السؤال. أليست الحيوات اليوم في حاجة إلى سقراط جديد، يرفع من شأو العقل الناقد ويناصر الإنسان المقهور في ثقافته ومعرفته ووجوده وحلمه؟ أليست السلطة السياسية والدينية والاجتماعية أصبحت لعبة بين يدي السفسطائيين الذين يتحكمون في القرارات الحاسمة والاستراتيجيات الكبرى ، والذين يتكلمون كثيرا، ويفعلون قليلا؟ أليس ما أصاب اليونان قبل سقراط أصبح سائدا اليوم بكل مظاهره وأحلامه ودروسه؟ ألم يلاحظ المتتبع للشأن التواصلي السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي بأن السفسطة أصبحت وسيلة لقضاء مآرب حراس الحال، ومن ثمة، كثر الكلام وقُضِي المنال، وبقي الناس في غيهم وسباتهم نائمين، ألا يناسب هذا قول جان بيير فرنان “لم يكن مفهوم الفعل بالنسبة إلى أثينا القرن الخامس قبل الميلاد يعني صناعة الأشياء أو تحويل الطبيعة؛ بل كان يعني بالأحرى التحكم في الناس وغلبتهم والسيطرة عليهم؛ ففي إطار الحاضرة كانت الأداة الضرورية للفعل، الأداة التي تمكن من السيطرة على الآخر هي الكلام” ؟ حينما فكر سقراط في حياة اليونانيين، وجدها مؤسطرة ومؤد لجة بالخطاب البلاغي المنمق الجبار ذي السلطة الكبرى، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فاختار منهجه العقلاني، حيث حرص فيه كل الحرص والرواية من لسان أفلاطون على تحديد الألفاظ والمعاني التي تحتويها، خلافا لأدعياء العلم الذين كان عدم التحديد يتيح لهم الفرصة للانحراف في المغالطة والتشكيك في الحقائق. وكان بذلك مثالا للمواطن الصالح الذي يريد أن يرقى بأمته إلى حيث يرجو لها من خير ومعرفة. فهو إنسان صادق كان يسير بين مواطنيه سيرة نقية صالحة، فارتفع عن الصغائر وتنزه عن الشر؛ لم يؤذ أحدا بل لقد أحسن إلى الناس جميعا بما قدم إليهم من نصح وبما أورثهم من هدى. فقد تناول سقراط جواهر الحياة الإنسانية وطرح مجموعة من الأسئلة الوجيهة: ما هي الميزة التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات؟ ما هو نوع الحياة الجدير بالإنسان أن يحياها؟ ما هي العدالة؟ وما هو الحق؟ ما معنى القانون؟ وهو فضلا عن ذلك فيلسوف عميق بعيد النظر. إنه من أولئك الأفذاذ الذين يفاخر بهم الفكر العالمي على اختلاف العصور وتباين أجيال الناس وتفاوت حظوظ هذه الأجيال من الحضارة ورقي الشعور. فالتخريب ليس من طبعه، والتشكيك الهدام لا يستقيم مع سمو نفسه ومعدن الخير الذي قدت منه روحه. فقال في شذرته الفلسفية الخالدة “أيها الإنسان أعرف نفسك بنفسك”، معنى تأمل ذاتك قبل فوات الأوان، واستخدم عقلك الذي تتميز به عن الحيوان، ولا تكترث بكلام البلاغيين الأجوف، وقم بتأويل ذاتك في الاتجاه الصحيح، كي تتمكن من تطوير حياتك إزاء الأحسن والأعدل والأجمل. بيد أن ما يقع اليوم، من نشر الخرافة والبلادة والتهافت على الفراغ، سياسيا واجتماعيا وفكريا، يجعل المتتبع يحلم بعودة سقراط لكي يرفع شعاره من جديد، ويعقلن الحياة السياسية وينشر ثقافة الديمقراطية في الفكر والنفس والتيار، وينتفض في وجه الإنسان المتطرف والمغشوش والدجال الذي يعمل على نشر ثقافة الهدم بدل البناء،ليصبح نظيرا مناسبا للسوفسطائي الذي هو الإنسان المخادع؛ الإنسان الكاذب بكل ما في الكلمة من معنى، الذي يفتقر كليا إلى أي إحساس بالصدق. مقدما إليه نصائح التفلسف المنبني على طرح السؤال تلو السؤال، والبحث عن الحقيقة في الواقع لا في الخيال. فالأكيد أن السؤال السقراطي يزعج أهل السفسطة الذين تعمدوا في العشرية الأخيرة نشر ثقافة الإشاعة والرداءة والبلادة بعيدا عن جوهر الكائن الذي يسعى إلى التشبع بروح النقد المستلهم من ثقافة العقل ليس إلا…