حياة جبروني
لم يكتب لهذا الشعب المسكين الذي يقبع تحت الفساد والمحسوبية والزبونية أن يعيش لحظات ارتياح حتى لو جاء ضيفا خفيفا ظريفا يدق فضاءنا الكئيب الذي أراد الله أن يشرق نوره من ظلمة القهر والغبن والروتين، ويتذوق طعم السعادة والفرحة كباقي الخلق. فبعد فوز مشرف حققه أسود الأطلس في مونديال 2022 تم فيه إسقاط أقوى الفرق الأوروبية، بلجيكا واسبانيا والبرتغال لم يسبقهم فيه أي بلد افريقي وعربي، والذي لا يمكن أن ينسى بسهولة، لأن كرة القدم تعدت كونها مجرد لعبة توفر المتعة المفقودة كما يقال، إلى استحضار للتاريخ والهوية والوطنية والدين والقيم الانسانية. فقد حقق اللاعبون المغاربة شعبية واسعة تجاوزت الحدود وألّفت القلوب ووحدت الإحساس والشعور. وكأن التاريخ توقف بُرهة ليحظى العالم بفرصة الإثارة والفُرجة والاستمتاع بعد سنوات عجاف رتيبة مضت، والمغرب غارقا في القلق والخوف. بل يمكن الجزم بكل ثقة أن كرة القدم المغربية تحولت إلى عشق وشغف وجداني يُستثمر لتحقيق الانسانية وتعزيز قيم المواطنة الحقة.
نعم بكل فخر واعتزاز، نجح أسود الأطلس في تحقيق ما عجز عنه الناخبون والسياسيون والهيئآت الحقوقية وغير الحقوقية…. في قدرتهم على التأثير في حياة كل بيت مغربي، عربي وغربي، كبير وصغير. فبمجرد تسجيل الهدف، كان ينفجر الإعجاب والحماس في الشوارع المغربية والعربية على وجه الخصوص بكل عفوية حباَ وتقديراً لبلد المغرب ملكا وشعبا. فقد أصبح الإنجاز الكروي المغربي الباهر قُدوة ورمزا يُحتذى به، شعاره “العمل والنية”، وهو ما يعني استحضار قوي للوازع الديني الذي بدا واضحا منذ بداية أول مبارة من خلال صور مؤثرة من اللاعبين المغاربة كالتشهد والسجود والدعاء ناهيك عن تصريف قضايا وطنية وقومية وعربية بالغة الأهمية خلقت حالة من السعادة والتسامح والارتياح، سحروا العالم بأخلاقهم وبَسالتهم ومواقفهم، كذلك تم دمج حقيقي للقيم والفضائل والتعاليم الانسانية الصحيحة.
ورغم إقصائه في دور نصف النهائي من كأس العالم، إلا أنه بإجماع الأغلبية الجماهيرية، حطم كل الأرقام القياسية في خطف مبالاة وإعجاب العالم.
فالحلم المغربي لم يتبخر في الفوز بكأس العالم لأنه فاز بقلوب العالم وتربع على عرش ضمير ومشاعر الملايين من المحيط إلى الخليج.
نعم هذا ما فعله ويفعله مواطن عادي أو فقير، قد لا يحظى بفرصة إكمال دراسته لقصور ذات اليد وعدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية الحياتية، وربما عانى وقاسى ما يقاسيه جل الشباب المغربي من ريع ومحسوبية وانعدام تكافؤ الفرص، ففضل الهروب أو الهجرة للبحث عن أي قشة أمل أو متنفس بديل ينتشله من الحرمان واليأس… ومع ذلك أول ما إن يحتاجه بلده لتمثيله وتشريفه يلبي النداء دون تردد ويجند نفسه لتحقيق حلم الشعب المغربي بأن يتبوأ المكانة اللائقة به.
وللأمانة فالمغرب لم يعرف أي انتصار وفرحة بعد الاستقلال والمسيرة الخضراء حتى عرفها وعاشها من خلال لعبة كرة القدم المغربية التي سترت عيوب وعورات البرلمانيين والسياسيين والأحزاب والمؤسسات والهيئات والإدارات. وللأمانة أكثر أن أسس ودعائم بلدنا العظيم تتمثل في ملك عظيم حكيم ومخزن قوي وشديد يسهر على أمننا وحياتنا، وشعب رغم انكساره وعدم إنصافه ومكابداته اليومية، لكنه حاضر بقوة لتعزيز وتشريف مكانة مملكتنا، أما ما بين الرفوف فهو مجرد عالة وعِلّة ومعلول، يشارك فقط في جمع الغنائم” والفم حارك والدراع بارك” يقصف كل من خالفهم أو احتج عليهم بأوصاف خادشة وحاطة (مداويخ، قطيع…).
هؤلاء القوم استخسروا فينا لحظات من المتعة والتغيير. حمل أفْقَهُهم وأعْدَلهم يا حسرتاه عصا ومطرقة فوق رؤوسنا لتُعيدنا إلى رشدنا وحقيقتنا بفضيحة مدوية سببها غياب الضمير السياسي والحزبي.
فبعد أن أكدت أحداث المباراة الكروية المغربية أن سيرورة التغيير الحقيقي ممكن وقريب، وأن حلمنا بالعدالة الاجتماعية والمجالية ممكن، سارع أعداء السعادة والنجاح والانتصار إلى تقديم شهادة وفاة مشروعنا بعد أن أُجهضت كل محاولات دعمه وإخراجه إلى حيز الحياة. أصبح المغرب محط قيل وقال وغمز ولمز وتنمر بطلها شخصية سياسية نافذة يتبجح أمام العالم بثروته الفاحشة التي راكمها من دماء وضرائب المواطنين والتي تمنح الأولوية والأحقية لابنه ومن على شاكلته في احتلال المناصب وفي العيش الرغيد. وكأنه يقول للمواطن العادي، لا حق لك في التعليم، لا حق لك في الوظيفة، لا حق لك في العدل، لا حق لك، لا حق لك…. كأنه يقول أن الحياة الكريمة وكل الامتيازات هي حكر على الاغنياء فقط.
تصريح أقل ما يقال عنه جارح وغير مسؤول ولا معقول، مجرد من العدل والانصاف والقيم الانسانية.
فبعد أن كانت شوارع المغرب تعج بالزغاريد والهتافات والموسيقى اعتزازا بمغربيتنا، أصبحت تعج بالاحتجاجات وبيانات استنكارية تشجب ما تم وصفه بالفساد الذي طال نتائج مباراة المحاماة المعيبة والمفضوحة تجاوزت الشوهة، الاعلام المحلي والوطني إلى إعلام وقنوات عالمية والتي كانت تثني بالأمس القريب على المغرب، اليوم تنشر غسيلنا بوساختها وبقعها السوداء دون الاستعانة بماء جافيل لستر ما يمكن ستره.
اليوم ودع المواطنون حلمهم وسعادتهم. اليوم يعيشون اليأس والخيبة والبكاء على مستقبلهم الضبابي، بسبب عائلات اعتنقت المصالح الشخصية واحتلت البرلمان بشتى الطرق لضمان تقاعد وحصانة وأجور سمينة تسد عين الشمس. تعددت الأحزاب والمصالح واحدة.
فلا يحق لك أيها المواطن أن تحلم بالنعيم تحت وطأة كوابيس الفساد والظلم…
لا يحق لك أن تحلم بحياة منصفة في ظل غياب العدل واستحواذ عقلية الريع والتوريث السياسي.