أحمد عصيد
صدر عن قيادة جماعة “العدل والإحسان” في شخص أمينها العام تصريح يقول فيه إنّ “الأوبئة جند من جنود الله (…) تغضب لله وتنتقم له (…) يسخرها الله ليؤدب بها الإنسان ليرجع إلى مولاه”. أي ليمارس وظيفته الحقيقية حسب هذا التيار والتي هي العبادة.
طبعا جماعة “العدل والإحسان” ليست جماعة محض دينية، بل هي منظمة دعوية ـ سياسية تطمح إلى الوصول إلى السلطة عبر نقض أسس النظام القائم، وهي بذلك تدخل في إطار المعارضة الراديكالية لنظام الحكم بالمغرب، وحديثها في هذا السياق الدقيق لا يكون إلا بحساب سياسي ذي أهداف ومرام محدّدة سياسيا.
ونحن نعتبر أن الساحة الوطنية تتسع للجميع، وأن المعارضة سواء كانت إصلاحية أو راديكالية لها مكانتها في المجال السياسي سواء قبلت السلطة بذلك أم لم تقبل، وقد كنا دائما نتجنب توجيه انتقاداتنا لهذه الجماعة بسبب ما تتعرض له من تضييق وحصار من طرف السلطات، لكن عندما تتجاوز أخطاؤها حدا معينا ينعكس سلبا على النضال الديمقراطي أو الوعي المواطن في بلادنا، يصبح من مسؤوليتنا التنبيه إلى تلك الأخطاء ونقدها، ليس بغرض الدحض والتحطيم، بل بهدف الحدّ من أضرار المواقف المتشدّدة على الرأي العام والمجتمع المغربي.
إنّ الاعتقاد بأن الأوبئة والكوارث الطبيعية غضب من الآلهة على البشر وانتقام منهم، عقيدة ضاربة بجذورها في أعماق الماضي الإنساني، ويُرجعها الأنثروبولوجيون إلى مرحلة التفكير الماـ قبل علمي، أي التفكير السحري ـ الأسطوري القديم الذي أنتجته الجماعات البشرية منذ ما قبل بدء الحضارة، ولهذا نجد هذا الاعتقاد نفسه مستمرا مع الحضارات الأولى ببلاد الرافدين ومصر القديمة وآسيا، وهو اعتقاد ارتبط بظاهرتين بقيتا مستمرتين بأشكال مختلفة إلى اليوم:
ـ التضحية وتقديم القرابين، وذلك بهدف اتقاء غضب الآلهة واسترضائها.
ـ الطقوس السحرية والتعبدية التي كان يشرف عليها الكهنة والعرافون والسحرة.
وإذا كانت القرابين قد تطورت بالتدريج مع نمو الوعي البشري من القرابين البشرية إلى القرابين الحيوانية والرمزية، فإن الطقوس السحرية والتعبدية بدورها قد خضعت لتطورات عديدة، حتى انتهت إلى شكلها الحالي في الديانات الثلاث المسماة “إبراهيمية”. لكن العنصر المشترك بين الأمس واليوم يظلّ هو الاعتقاد بأن الأضرار الناجمة عن الظواهر الطبيعية كالزلازل والفيضانات والأوبئة والمجاعات والجفاف إنما هي تعبير عن غضب الله وانتقامه من البشر “جراء ما يرتكبه الإنسان من ظلم وفجور” كما قال أمين عام “الجماعة.”
وإذا نحن تتبعنا منطق “الجماعة” وأمينها العام، وطرحنا أسئلة على ضوء ذلك الاعتقاد الذي عبروا عنه، فسوف يفضي بنا إلى النقاش التالي:
ـ هل يمكن الجمع بين غضب الله واحتياطات اليقظة الوبائية ؟ طبعا لا ، إلا إذا كان للإنسان عقلان متناقضان يستعملهما في نفس الوقت، فالاعتقاد في أن الوباء غضب من الله لا يسمح بمواجهته، إذ لا طاقة للبشر في مواجهة غضب الله عبر الاحتياطات والخطط الدنيوية، ولكن البشر يستطيعون بلا شك مواجهة ظاهرة واقعية ذات أسباب موضوعية معروفة لديهم علميا، كما هو حال الفيروس الحالي، بدليل انتصار الصين عليه في بضعة أسابيع، وهي البلد الذي لا يستحضر مطلقا أية اعتبارات ميتافيزيقة.
ومعنى هذا أن ما قامت به “العدل والإحسان” في عز الأزمة وحالة الاستنفار يضعنا أمام المشكل التالي: اعتبار الفيروس غضبا من الله وانتقاما يجعل الناس ـ في حالة إذا ما صدقوا الجماعة واتبعوها ـ يعتبرون لا جدوى المقاومة واتخاذ الاحتياطات، فغضب الله لا يزول إلا بالصلوات والأدعية والتضرع إليه، وليس بأنواع التدابير العلمية والطبية.
ـ من جهة أخرى إذا اتبعنا منطق الجماعة فالأبحاث التي تجري حاليا على قدم وساق في مختبرات العالم المتقدم، في تنافس كبير نحو اكتشاف اللقاح الضروري، هي مجرد جهود ضائعة، كما أنها تحدي سافر للإرادة الإلهية، واستخفاف بغضب الله علينا ورغبته في الانتقام منا.
ـ إن الكثير من أعضاء الجماعة هم من أساتذة العلوم الدقيقة كالرياضيات والعلوم الطبيعية الفيزيائية والبيولوجية، غير أنهم لا يبدو لتكوينهم العلمي أي أثر على فكر الجماعة، فنحن أمام ظاهرة وبائية قابلة للدراسة، وقد صارت حاليا معروفة بكل دقة في التحليلات المختبرية، وقبل هذا الفيروس تمّ القضاء على أكثر الأوبئة الخطيرة فتكا مثل الطاعون الأسود والكوليرا والتيفوس والجذري والحمى الصفراء والسلّ وغيرها، وكانت تقتل ما يقرب من 100 مليون نسمة عبر العالم، فقد قتل الطاعون خلال القرن الثامن عشر أغلبية سكان المغرب بمن فيهم السلطان نفسه ولم يبق إلا ما يقرب من مليون ونصف نسمة لا غير. اليوم بفضل العلم أصيب 200 ألف نسمة بكورونا ولم يمت منهم إلا بضعة آلاف. ماذا لو اعتبرت كل دول العالم بأن الوباء غضب من الله وانتقام منه واعتكفوا في دور العبادة للدعاء والصلوات ؟
ـ لكن يبدو أن البشر لا يتعلمون من دروس التاريخ، فرغم أنهم نجحوا بفضل العلم في القضاء على كثير من الأوبئة الفتاكة حتى وصل عدد البشر لأول مرة إلى أزيد من 7 ملايير نسمة، لكنهم لم يفكروا في تدبير وجودهم على الأرض من أجل التعايش في سلام، ولهذا ما زالت قوى الشر الكامنة فيهم بسبب الليبرالية المتوحشة والنزعات الفاشستية كاليمين المتطرف والإسلام السياسي وغيرها من الإيديولوجيات الفتاكة تتربص بالعالم وتهدّد استقراره بتوترات لا تنتهي.
ـ تعتبر الجماعة نفسها بديلا للسلطة القائمة، والحال أنها أمام معضلة حقيقية تتجسّد فيما يلي: في الوقت الذي نادى فيه النظام باتخاذ الاحتياطات الاحترازية وتدابير الوقاية والعلاج وخصص لذلك ميزانية استثنائية، وأعلن حالة استنفار وقام بحملات تحسيس للمواطنين، مع محدودية الإمكانيات التي يتوفر عليها مقارنة بالدول العظمى، تردّ الجماعة بأن الوباء غضب من الله وانتقام، لا يزول إلا بالدعاء والصلوات.
ـ إن من حق الجماعة أن تؤمن بما تشاء، كالرؤى والأحلام مثلا، وبأن شخصا ما يمرّ عبر الجدران ويداوي الأبرص والأعمى والمقعد، ويمشي فوق الماء أو يطير في الهواء، وبأن الخلافة ستعود على منهاج النبوة، إلى غير ذلك من الاعتقادات، إذ يدخل ذلك في الحق في الإيمان سواء بالأديان أو بالخرافات والأساطير أو بالروحانيات الصوفية، لكن موضوع الساعة مختلف تماما، لأنه يتعلق قبل كل شيء بمصلحة الوطن وبسلامة الشعب المغربي وباقي شعوب الأرض.
ـ إن توجيه الجماعة نداء لأتباعها عبر موقعها بغرض الإكثار من الأدعية والصلوات هو سلوك مضاد للمواطنة وللوطنية معا، حيث لا يخلو من معنيين: إما أن الجماعة تعتبر أتباعها وحدهم المؤمنين الذين سيتقبل الله دعاواهم فيرفع عنا هذا البلاء، وإما أنها تعتبر أنهم وحدهم الذين يستحقون أن يقربهم الله إليه فيؤثرهم برحمته دون بقية المواطنين، الذين سينزل عليهم بأنواع العقاب والغضب الإلهيينّ. وفي الحالتين معا فما تفتقر إليه الفكرة هو الحسّ الإنساني الذي تحتاج إليه شعوب العالم في السياق الراهن.
ـ لقد كنت دائما أقول إن الإسلام السياسي أشبه بالجوارح وأكلة الجيف، حيثما كان الموت والخوف تجدهم يحومون بحثا عن غنيمة، وغنيمتهم استقطاب المزيد من المريدين، الناس منشغلون بالوباء وبكيفية مواجهته وبحملة التحسيس الوطنية وهم يعتبرون الأمر محسوما في السماء، ولا يتبقى للبشر إلى الأدعية والابتهالات والبكاء في الصلوات، إن نداء “الجماعة” كمن يقول للناس: “تعالوا إليّ أنا منقذكم من الخوف والموت !”، إنها نفس العقلية التي سادت في أوروبا خلال عصور ظلماتها، حيث كانت الكنيسة تعتبر الأوبئة والمجاعات فرصتها الذهبية لتجعل الناس يتجمهرون تحت وصايتها، ويصبحون أكثر خضوعا وعبودية، هذه الوصاية التي لا تعني فقط سلطة رمزية، بل الكثير من المكاسب المادية والكثير من السلطة الزمنية كذلك.
ـ إن المزايدة على السلطة في هذا الظرف العصيب بهذا الأسلوب الخرافي بعيدا عن الواقع والحسّ المواطن هو خطأ لا شك فيه، إذ المطلوب في مثل هذه الظروف التوحّد على موقف جامع لمواجهة الخطر المحدق بالجميع، وذلك عبر اتخاذ التدابير الحازمة لتطويق الفيروس ومنع العدوى، مع ما يقتضيه ذلك من التآزر والتضامن بين كل المغاربة، ليس بحسّ الطائفة أو “الجماعة” بل بشعور وطني وإنساني.
ـ إن تجربة جمهورية الصين الشعبية مع هذا الفيروس درس عظيم للمسلمين، درس في المثابرة والنظام والتضامن والالتزام الوطني، فيا معشر المغاربة، حصنوا أنفسكم بالعلم والوقاية الطبية، وعلموا أبناءكم قواعد التفكير المنطقي والعلمي، وكيفيات البحث والاستقصاء لمعرفة أسباب الظواهر، فإن ذلك أساس الانتماء إلى عصرنا الحالي، وإنه لمعضلة حقيقية أن نتواجد بأجسامنا في سنة 2020، وبأدمغتنا في عصر آخر بعيد عنا بقرون طويلة !
على قوى التنوير والديمقراطية أن تعمل بجانب مؤسسات الدولة على تحسيس المواطنين بمخاطر المرض وجذوره وأسبابه الموضوعية واحتياطات التعامل مع الآخرين، وعلى المواطنين أن يعملوا عبر مواقع التواصل الاجتماعي على شحذ اليقظة المواطِنة وتبادل الخبرات والتجارب حتى تنقشع هذه الغمة، ومتمنياتي للجميع بالسلامة وطول العمر.
يوسف أبومحمودمنذ 5 سنوات
#الرد_على_مغالطات_عصيد_في_حق_جماعة_العدل_والإحسان
بقلم الاستاذ الباحث في العلوم الاجتماعية فؤاد هراجة
بسم الله الرحمان الرحيم
وجه أحمد عصيد ما أسماه “تنبيها ونقدا” لجماعة العدل والإحسان في شخص أمينها العام الأستاذ محمد عبادي، من خلال مقال صدر له تحت عنوان “الوباء والدعاء”، كاشفا أن هذا الفعل يأتي في سياق قيامه بمسؤوليته. والقارئ المتفحص لهذا المقال سيلاحظ لا محالة بعد انتهائه من القراءة أن الكاتب لم يُحِلْهُ على مصدر التصريح الذي شيد عليه صاحب المقال جملة انتقاداته. وهو أمر يدعو للاستغراب، وكأن صاحب المقال يعتقد جزما أن كل من اطلع على مقاله من داخل الوطن أو خارجه سيعرف ضمنا وحتما مصدر القول الذي سماه تصريحا. وهذا السكوت عن المصدر أعتبره متعمدا خصوصا مع الانتقائية الفجة والمقصودة لكلام الأستاذ محمد عبادي في شريط نشره على صفحته في الفيسبوك، وتناقلته مواقع الجماعة وثلة من المواقع الأخرى. فمن شريط مصور مدته 24 دقيقة اكتفى عصيد بانتقاء عبارتين وهما : «الأوبئة جند من جنود الله (…) تغضب لله وتنتقم (…) يسخرها الله ليؤدب بها الإنسان ليرجع إلى مولاه» ثم عبارة « جراء ما يرتكبه الإنسان من ظلم وفجور». وهذه الانتقائية الفجة كفيلة أن تخرجنا من مربع الشك إلى دائرة اليقين على أننا أمام عملية اصطياد للأدلة وَلَيٍّ لأعناق الجمل عوض التعامل معها بأمانة ومسؤولية، وأننا كذلك أمام سوء تقدير لوعي القارئ، وتعمد التدليس عليه. وأمام هذا التوظيف المشين لشريط الأستاذ محمد عبادي سأدلل في هذا المقال عن تهافت ما طرحه عصيد من قضايا، وكل قصدي في هذا العمل هو التضايف وليس التصادم أي تنمية المعرفة بالإضافة والتراكم والبيان والتبيين. كما سأحاول في هذا المقال أن أجمع بين العمق والسهولة والاختصار حتى يجد المتخصص والمثقف والسياسي فيه ذاته. وعليه سأتعامل مع نص مقال عصيد من خلال استحضار منطق القضايا والمحمولات الذي ينظر في صدق صورة القضايا، ثم المنطق الطبيعي الذي يعتمد الجدل والحجاج بهدف الإقناع. ثم سأعتمد على علم الاجتماع وسأستدعي السوسيولوجي والانثروبولوجي والفيلسوف ماكس فيبر ليجيب عصيد من داخل فكر الحداثة عن تساؤلاته التي تؤرقه! ثم سأضع القارئ أمام ما ورد في شريط محمد عبادي ليتسنى له المقارنة بين ما ادعاه عصيد وما قاله حقا الأستاذ محمد عبادي، ومن تم يمتلك القدرة على الحكم.
1- نقدي لمقال عصيد من داخل علم المنطق:
قد تتساءل معي عزيزي القارئ لماذا اللجوء إلى المنطق؟ لأنه كفيل بصون العقل عن الخطأ، ولأن الأدلة تبنى على القضايا، واكتشاف صدق القضايا من عدمها يؤدي لزوما إلى صدق الأدلة من عدمها. وعلى هذا الأساس أشير أن معظم القضايا التي ساقها عصيد في مقاله هي قضايا شرطية؛ أي جمل يضع فيها التلازم أو عدمه بين قضيتين،وإما يضع التنافي أو عدمه بين قضيتين. ومثال ذلك قوله: جماعة العدل والإحسان هي جماعة- دعوية سياسية إذن -حسب قول عصيد- فإن حديثها عن وباء فيروس كورونا يندرج في الحساب السياسي أي له أهداف ومرامٍ محددة سياسيا! وهنا أقول لماذا لا يستنتج من خلال تعريفه للجماعة أن كلام الأمين العام يندرج ضمن الخطاب الدعوي الذي أثلته الجماعة. أليست الجماعة حسب تعريفك با عصيد “جماعة دعوية-سياسية”، فلماذا انتقيت السياسي وتركت الدعوي؟ لقد كان من الأليق بك أن تجنح إلى النقد الدعوي ما دمت قد انتقيت عبارات وعظية من الشريط.
– جاء في كلام عصيد تلازم وشرط متصل بين تجنبه انتقاد الجماعة وما تتعرض له من تضييق وحصار من طرف السلطات، ثم تلازم بين تجاوز أخطاء الجماعة حدا معينا ومسؤوليته عن التنبيه وانتقاد تلك الأخطاء. وهذا التلازم يبدو متهافتا، فلا التضييق والحصار انتفى ولا تجنبك للانتقاد حصل، بل كلاهما قائم، سواء فعل السلطة القمعي أوفعل السلطة الناعم.
– ثم إن عبارة عصيد ” لكن عندما تتجاوز أخطاؤها حدا معينا(…) يصبح من مسؤوليتنا” تذكرني بعبارة وزير الداخلية السابق شكيب بنموسى حين قال: ” إن جماعة العدل والإحسان لما كثفت من أنشطتها فقد وضعت نفسها خارج القانون”؛ أليس ثمة تماثل واضح بين العبارتين حيث حضور النَّفَس السلطوي!
– بعدها تكبد عصيد معاناة وهو يستحضر التفسير المادي للتاريخ ليقنعنا بالتلازم بين ما تحمله جماعة العدل والإحسان من تصور للغيب والفكر الأسطوري الضارب حسب زعمه في تاريخ ما قبل الحضارة وما بعد الحضارة. وأنا أُقَصِّر عليك المسافة والزمن وأقول لك أن ما تعتقد جماعة العدل والإحسان تمتحه من القرآن الكريم والسنة النبوية مع استحضار تطور الواقع ومتطلباته، وأنها تعتز بذلك ولا تتستر عليه.
– حاول عصيد أن يقنعنا بحكم التنافي بين الاعتقاد أن الفيروسات جند من جنود الله، والسعي إلى مواجهتها واتخاذ التدابير العلمية والطبية لمقاومتها. وزعم أن الاعتقاد في أن الوباء غضب من الله لا يسمح بمواجهته، وهذه لعمري قضية “كاذبة” بلغة المناطقة؛ وهنا أستعير مفهوم ” الماصدق” لأجيبك أن الواقع الموجود خارج دلالات ألفاظك يكذب ما تقول، ذلك أن جماعة العدل والإحسان أوقفت كل أنشطتها احترازا من الوباء ودعت أعضاءها للانخراط في كل المبادرات الداعية لخدمة الوطن والمواطنين، بل قامت بحملات إعلامية تدعو إلى التفاعل والتطاوع والتضامن، ووعي دعوة تحفل بهل كل مواقع التواصل الاجتماعي وتعج بها . ضف على ذلك أن جل المغاربة يصبحون ويمسون على الأدعية والتوجه إلى اللهن ومع ذلك فجلهم منخرط في مواجهة الوباء عمليا. إذن، هذا التنافي بين الاعتقاد والفعل لا يوجد إلا في ذهنك يا عصيد! أما الواقع فيؤكد بما لا يترك شكا أن الجمع بين الإيمان الغيبي والسعي في الأرض واتخاذ الأسباب أمر قائم وواقع في حياة عامة المغاربة.وكأني بعصيد في هذه الحالة يحاول عبثا إقناع الناس أن شخصا ما عندما يُطعَنُ بسكين ويعتقد أن فلانا هو الذي طعنه، سيدفعه حتما هذا الاعتقاد إلى القعود عن الاستشفاء وطلب الدواء، وسيترك جرحه ينزف بسب اعتقاده أن الفعل خارج عن ذاته! إن هذا المنطق أخرق يا عصيد! إن ما يؤكده لنا الواقع بالبداهة أن كل عاقل سيقع في هذه النازلة وله نفس المعتقد، سيسرع إلى اتخاذ الأسباب والتدابير اللازمة. فكون المؤمن يعتقد أن البلاء من ربه لا يعني حتما وضرورة يا عصيد أنه سيستلم للبلاء.
2 – نقدي لمقال عصيد من داخل فكر الحداثة:
تساءل عصيد قائلا: “هل يمكن الجمع بين غضب الله واحتياطات اليقظة الوبائية؟ وأجاب على الفور قائلا “طبعا لا”. وهنا أستدعي السوسيولوجي والانثروبولوجي والفيلسوف ماكس فيبر ليجيب عصيد عما ضاقت حويصلته على استيعابه وجمعه!
ذهب ماكس فيبر في تأسيسه لنظرية الفعل الاجتماعي أنه توجد أربع بواعث للفعل الاجتماعي:
✓ فعل اجتماعي باعثه عقلي يحدد الغايات والوسائل التي تحققها.
✓ فعل اجتماعي باعثه قيمي؛ أي توجهه قيمة مطلقة إما دينية أو أخلاقية أو جمالية…
✓ فعل اجتماعي باعثه عاطفي، وهو سلوك صادر عن حالات شعورية خاصة يعيشها الفاعل.
✓ فعل اجتماعي باعثه تقليدي، وهو سلوك تمليه العادات والتقاليد والمعتقدات.
ويؤكد فيبر في كتابه”مقالات مجمعة حول علم الاجتماع الديني” الجزء الأول، ومن خلال نظرية الفعل الاجتماعي، أن الفاعل الاجتماعي وهو الفرد يمكن أن يتوجه بعدة بواعث في آن واحد، ويسوق مثالا قائلا: فمثلا لو أخذنا حالة أستاذ جامعي يمتنع عن التدخين ثم يتبين لنا أنه أقدم على هذا الامتناع لعدة بواعث:
– باعث عقلي لأن التدخين مضر بالصحة.
– باعث قيمي لأنه بريد أن يحقق في شخصه مفهوم القدوة لطلبته.
– باعث عاطفي لأنه يحب زوجته وهذه الأخيرة تكره رائحة السجائر.
– باعث تقليدي لأن التقاليد والأعراف الأكاديمية تمج هذا الفعل في رحاب الجامعة ولا ترحب به.
وبناء عليه لماذا لا تقبل من جماعة العدل والإحسان أن تجمع بين كل هذه البواعث في تعاملها مع وباء كورونا؛ أي الجمع بين القيم الدينية والعقلية والعاطفية والعرفية؟ هل لأن عصيد قد استعصى عليه الجمع بين باعثي العقل والدين، بله أن يجمع بين البواعث الأربع المذكورة؟
ثم نعود إلى «منطق» عصيد الذي يعتبر أن التصديق بما زعمه كون الجماعة تدعو إلى الاستغناء عن اتخاذ الأسباب وتطتفي بالإيمان الغيبي، لأُذَكِّرَهُ بما ورد بالفعل في كلمة الأمين العام لجماعة العدل والإحسان وهو ما يناقض تماما أقواله، لعله يذَّكر ويصحح ما نثره من مواقف متهافتة حول الجماعة في مقاله دون تَبَيُّنٍ يذكر، وسأركز على الخطوط العريضة ملخصا الكلام في عناوين جامعة:
✓ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لِيُكْرِمَهُ.
✓ أن الله سبحانه وتعالى جعل الطبيعة في أصلها طَيِّعَةً ومسخرة للإنسان.
✓ أن الطبيعة قد تخرج بأمر من الله عن القاعدة الأصلية المتمثلة في خدمة الإنسان، إلى الانتقام لناموس الله وقوانينه الكونية حفاظا على صلاح الأرض.
✓ أن انقلاب الظواهر الكونية صغيرها أو كبيرها على الإنسان يحدث وفق انتهاك أسباب قبلية تتمثل في المس بصلاح توازن الأرض بإلحاق الفساد على وجهها ( مثال تلويث البيئة وتسببه في انتشار الأمراض والأوبئة والجفاف) مصداقا لقوله تعالى ” ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس”
✓ أن التوبة المقصودة التي ذَكَّر بها الأستاذ محمد عبادي هي تغيير أحوال الإنسان القلبية وأحواله الاجتماعية، عملا بقوله تعالى ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وقد جلي الأمين العام معاني هذا التغيير حين أشار إلى وجوب رد المظالم، والصلح بين الناس، ورحمة الأغنياء بالفقراء، ثم عقب الأمين العام قائلا ثم بعدها يدعو العبد الله أن يرفع عنه البلاء؛ فإذا ما غيرنا ما بأنفسنا بهذا الشكل سيغير الله ما بنا. هكذا يتجلى الفهم السليم للدين حيث الجمع بين اتخاذ الأسباب المادية والمعنوية المقرونة بالرجاء في الله.
✓ أننا عندما نقول، أن ما يقع من وباء مَرَدُّهُ إلى ما جَنَتهُ يد الإنسان هو إقرار واضح بعالم الأسباب، المتمثل في وجود سبب ومسبب ونتيجة أي أننا أمام قانون السببية والعلية وليس نفي عالم الأسباب كما استنتجه عمدا عصيد!
✓ أن قولنا بالتوبة والدعاء ليس فيه أي تعال على المغاربة كما تزعم، فلو أنك كلفت نفسك 24 دقيقة واستمعت للشريط لاستحييت أن تكتب ما كتبته. لقد أكد الأمين العام أن أول من يتوجب عليه أن يتوب هم أعضاء الجماعة بإرجاع اللوم إلى أنفسهم ومحاسبتها على التقصير، ومشددا عليهم في الآن ذاته ألا يتهموا الناس، مذكرا إياهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من قال هلك الناس فهو أهلكهم”.
✓ أن إيماننا بالغيب واستحضارنا لفعل الله سبحانه في الكون لا يتعارض وسعينا لاتخاذ الإجراءات الوقائية بل يمنحنا الإرادة والحماس لتحقيق ذلك، أَوَلَمْ يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: “إن الله أنزل الداء وأنزل الدواء فتداووا عباد الله”، فلماذا سنكتفي على حد فهم عصيد ب : “إن الله أنزل الداء” فنستسلم لأننا لا نستطيع على حد قوله قهر ما أنزله الله .
✓ أن الدعاء الذي حث عليه ديننا وذَكَّرَ به الأمين العام يجب ألا يطال المؤمنين فقط بل يجب أن يعم كل إخواننا في البشرية، معتبرا أن كل البشرية اليوم تنتمي لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يتوجب علينا أن نهتم بأنفسنا وبإخواننا في البشرية. وهذا الباعث العاطفي والقيمي يفند كل مزاعم العنصرية والكراهية والتعالي والتمييز التي حاول عصيد رسمها كلوحة قاتمة على جماعة العدل والإحسان، هذه الجماعة التي تفتح أفقها على البشرية جمعاء وتجعل قِبلتها العالم كله.
وختاما أقول،
– إن تركيز عصيد على الاستنتاجات السياسوية في كل القضايا الشرطية التي طرحها، لَيُؤكد أن بواعثه وخلفياته لم تكن مجرد تنبيه ونقد، بقدر ما هي مطية لممارسة هوايته المفضلة متمثلة في جلد ما يسميه هو “الإسلام السياسي” كلما سنحت له الفرصة، وها هو ينعت المنتمين إليه ب “أشبه بالجوارح وأكلة الجيف”، وهو موقف يُنِمُ أن عصيد متشبع بقيم الإنسانية وغارق حتى النخاع في احترام حرية التفكير والتعبير والمعتقد… !
– إن اعتبار عصيد تصريح الأمين العام مزايدة على السلطة وأنه بعيد عن الواقع والحس المواطن، هو خطاب تحريضي ضد الجماعة التي ادَّعَى زورا “أن الساحة الوطنية تتسع للجميع” وهو الذي لم تتسع حويصلة عقله حتى للأفكار التي تخالفه.
– إن تقييم عصيد للإيمان بالغيب والتوبة والدعاء المقرونة باتخاذ الأسباب المادية بأنها تجاوز للحد من الأخطاء المسموح بها لجماعة العدل والإحسان، وأنها مواقف متشددة تضر بالرأي العام والمجتمع المغربي، لَأَمْرٌ يجعلنا نتساءل عن أي مجتمع مغربي يتحدث؟ أما المجتمع المغربي الذي نحن جزء منه ونعيش وسطه، مجتمع مسلم ومؤمن بالغيب، مهووس بالدعاء، دائم التوبة إلى الله، وهذا معطى واقعي لا يختلف حوله مغربيان عاقلان. فكن متأكدا يا عصيد أن الشعب والمجتمع المغربي الذي تحاول عبثا تمثيله بخطاب غريب عنه، هو مجتمع مسلم بالفطرة، يعرف ربه، ويعرف نبيه صلى الله عليه وسلم. وهو مجتمع لم ولن يقبل ما تردده أنت عن كون الدين أسطورة وخرافة ومجرد تطور حدث في التصورات البشرية.
ولا يفوتني يا عصيد أن أُذَكِّرَكَ وأُعلِمُ سائر المغاربة بسلوكك الغارق في المدنية واحترام الدولة والمواطنة والقانون الذي قمت به وأنت تعقد زواجك مع مليكة مزان وفق إله الأمازيغ ياكوش (مع كامل التقدير لكل أمازيغي حر)، فهلا أخبرتنا عن مغزى هذا السلوك وهل فيه دعوة للخروج عن قوانين الدولة المعتمدة في مدونة الأسرة، وهل هي دعوة إلى التمرد على الدستور الذي ينصص أن دين الدولة هو الإسلام. وبمنطقك يا عصيد هل يمكن الجمع بين الحداثة العقلانية التقدمية المادية والزواج وَفق الشريعة الياكوشية الضاربة في العصر ما قبل ظهور الدين حسب تحقيبك المادي. أوليس ما فعلته باسم الإله ياكوش هو عين التطرف، وهو محض الخرافة والأسطورة. وما أظن ما أنت فيه من خبل في المنطق إلا لعنة من لعنات ياكوش لأنك لم تف بوعدك معه. إن فعلك هذا يا عصيد يتجاوز مرحلة ظهور الدولة ويحط بنا حسب تقسيماتك في مرحلة الطبيعة والمشاع، فما أراك أهلا للحديث عن المدنية والمواطنة، ولا أرى لك مصداقية لتنبيه الناس ونقدهم في معتقداتهم ودينهم حتى وان كنت صادقا، بله وأنت تفتري عليهم وتقذفهم زورا وكذبا.
– أما نحن في جماعة العدل والإحسان فسنظل رغم كل الضغوطات المتلونة تارة في السلطة القمعية وتارة في السلطة الناعمة، أوفياء للمنهاج النبوي الذي يُعَلِّمُنَا أن نتفحص وجودنا بعينين؛ عين على الغيب نستمطر بها رحمة الله على قلوبنا، وعين على الواقع نستقي بها الحكمة لعقولنا!
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”
صدق الله العظيم.