اللغة الجامعة ضرورة للنهوض والخروج من شرنقة التجاذب الهوياتي. إذ كثيرا ما نصطدم في الندوات والملتقيات بالعديد من الردود والفهوم الخاصة حين استعمالنا مفهوم «اللغة الجامعة» الذي نحتناه من التجربة الميدانية والأكاديمية للخروج من حالة التشظي الهوياتي والوجداني التي تعتمل داخل الذات الوطنية. فلقد آن الأوان للوعي بأن الاعتراف بالتعدد الثقافي والهوياتي ليس انقلابا على قيم الوحدة والتآلف، بقدر ما هو آلية ضرورية للمصالحة مع الطبيعة الإنسانية والتطور التاريخي للجماعات البشرية. وفي هذا السياق يمكننا قراءة مسار التنوع الثقافي في الغرب من خلال محاولة للمصالحة مع الذات وتقديم فهم جديد للمواطنة، وصل حد اعتبار التعدد هو الأصل، وليس الوحدة، كما يرى جان كالفي في رفضه أسطورة بابل التي رأت في التنوع عقابا إلهيا. ولا يشكل المغرب استثناء في ما يعتمل داخل المجتمعات الإنسانية من تغيرات بنيوية وأفقية لا تقف عند تغيير شكل التدبير السياسي، وإنما تتجاوزه إلى تغيير جوهر الانتماء وبوصلته. لكن دور الدولة في هذا المجال هو البحث عن سبل تدبير الاختلاف في إطار قيم الوحدة والمشترك. وهنا يأتي دور السياسة اللغوية.
ومن أجل الخروج من منطق التشظي الهوياتي الذي يهدد النسيج الاجتماعي المغربي، والعربي في أقطار مشابهة، نتصور أن احترام التعددية اللغوية والنهوض باللغات الوطنية يكون من خلال التمييز بين ثلاثة أنسقة لغوية تحدد لها وظائفها الرسمية والتواصلية: لغة جامعة ولغة (أو لغات) الهوية، ولغة (أو لغات) الانفتاح. إذ تمثل اللغة الجامعة المرتكز المشترك بين أفراد المجتمع وفق تراكمات حضارية وبنيوية، حيث تتوفر فيها مقومات الاستجابة لأسئلة الهوية والتنمية والاستراتيجية.
هذا دون إغفال الأدوار المسندة إلى اللغات الوطنية والأجنبية التي ينبغي إيلاؤها الأهمية اللازمة والمعتبرة داخل النسيج الوطني. فالعديد من الدول اختارت الاحتماء بلغة المستعمر للتداول الرسمي، خاصة في إفريقيا وآسيا، لكنها وجدت نفسها بعد عقود تعيد إنتاج التخلف بأشكاله الاقتصادية والمعرفية، لأن «وجود لغة جامعة وموحدة يساهم في رفع مستوى دخل أفراد أي مجتمع. وهذا لن يتأتى دون أن تكون هذه اللغة هي لغة التدريس كما هو الشأن في الدول المتقدمة»، كما يقول تقرير «لغة التدريس» الذي أنجزته أحد المراكز البحثية. فإذا كانت الغاية من إدارة الشأن العام هي الحفاظ على الجماعة ودرء عناصر التشظي السياسي والهوياتي التي تهدد التماسك الاجتماعي، فإن تمثل ذلك لغويا لا يكون إلا من خلال وحدة لغوية ترسخ الانتماء المشترك. ومن اللازم في اللغة الجامعة أن تتجاوز التعبير الأحادي عن المعرفة بتمثلاتها العلمية والتقنية، أو عن الهوية منفردة بتمثلاتها الحضارية والوجدانية، بل ينبغي أن تكون جامعة للأبعاد الثلاثة المؤسسة للمشترك المجتمعي؛ الهوياتي والمعرفي والاستراتيجي.
وهذا ما تفتقر إليه اللغات الأجنبية التي بالرغم من الصورة الحداثية التي تقدم بها واعتبارها آلية التعبير العلمي والتقني، تظل على هامش الهوية والتعبير عن الوجدان الجماعي الوطني، وتفتقر إلى إمكانية النهوض الحضاري. فاللغة الأجنبية تنقل المعرفة ولا توطنها. كما أن اللغة قد تكون معبرة عن الهوية والانتماء الثقافي، لكنها تظل قاصرة عن التعبير العلمي والمعرفي. لذا، فأحادية التعبير عن الهوية تضيق مجال الاستخدام العلمي، وفي المقابل، لا تستطيع اللغة المتخصصة نشر المعرفة وتوطينها في المجتمع لأنها غير مرتبطة بهويته وفضائه. وتؤكّد الأبحاث أن أساس التنمية قائم على تعميم الثقافة العلمية والتقنية بين شرائح المجتمع كافة، وعدم حصرها في فئة قليلة، وهذا لا يكون إلا باللغة الوطنية. وفي الحالة المغربية، يترسخ يوميا الاعتقاد باستحالة تحقيق التنمية المنشودة دون اعتماد اللغة العربية. وأخيرا، فإن نقاش الهوية الناتج ليس عن غياب وضوح ثقافي مجتمعي، بقدر ما هو نتاج أزمة الثقة في الذات والانسياق مع مجرى نهر التاريخ دون تحديد الوجهة أو مقومات السير، ويؤسس للانغلاق على الذات، يظل نقاشا حقوقيا دفاعيا وليس بنائيا تنمويا. كما أن البحث عن الخلاص من التخلف باسم لغة العلم والتقدم يدفع نحو الارتباط القيمي والحضاري بالآخر دون توطين المعارف والتقنيات. وحين الجمع بين البعدين، والبحث في مقاييس القوة الاستراتيجية الثابتة التي تتوفر عليها الأمة وتتحدد معطياتها في ثوابت الجغرافيا والتاريخ وعدد السكان والثقافة، نكون قد استوعبنا أن اللغة الجامعة لها جذور حضارية وانتماء إلى الأرض والتاريخ والإنسان، مستشرفة آفاق المعرفة المنتظرة.