أوقعت إسبانيا نفسها في ورطة عندما قررت استقبال إبراهيم غالي زعيم الحركة الانفصالية “البوليساريو” لمعالجته.
غالي حمل وباءه إلى إسبانيا بجواز سفر مزور واسم منتحل، لا لكي يخفي هويته الحقيقية عن السلطات، ولكن لكي يُمعن، هو والذين أرسلوه، في ممارسة تزييف الحقائق.
الكثير من الدول يصاب بداء الغباء، إلا أن الشريك التجاري الأول للمغرب، آثر التغابي، عندما وفر لغالي ملاذا آمنا، رغم معرفته بأن هذا الرجل يواجه اتهامات بارتكاب جرائم قتل وتعذيب واغتصاب من جانب مواطنين يحملون الجنسية الإسبانية.
أرادت السلطات أن توفر له علاجا من مرضه المعلن، وغطاءً لأمراضه الأخرى. ولتقدم بذلك إشارة تهديد صريحة للمغرب، لا تتوافق مع سجلات الشراكة والتعاون الأمني والتجاري وعلاقات حسن الجوار، التي تم إرساؤها على امتداد عدة عقود من الزمن.
التساؤلات التي شغلت المغاربة، من طنجة إلى العيون، هي: ما الذي يدفع هذا البلد لكي يتصرف بهذا المقدار من الحماقة؟ وما هي الدوافع الخفية من وراء فائض “النزعات الإنسانية” حيال مجرم حرب؟ وما الذي تريد مدريد أن تكسبه من إشارات الاستعداد للتعدّي على وحدة المغرب الترابية؟
إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب منذ العام 2014 إلى اليوم. وعلى الرغم من عمق العلاقات الاقتصادية المغربية مع فرنسا، إلا أن إسبانيا أزاحت فرنسا إلى المرتبة الثانية في تلك الشراكة.
قيمة المبادلات التجارية بين المغرب وإسبانيا تزيد عن 15 مليار دولار سنويا، بينما التبادلات التجارية مع فرنسا، وفقا لإحصاءات العام 2019، تبلغ 13 مليار دولار سنويا. ويستحوذ هذان البلدان وحدهما على 58 في المئة من مجموع التبادل التجاري المغربي مع دول الاتحاد الأوروبي، و66 في المئة من مجموع التبادلات التجارية المغربية مع كل أرجاء العالم.
هذا وضع استثنائي بالفعل. إنما تجاه من دفعت به الحماقة إلى أن يتصرف مع “زبونه” الأول بقدر غير مسبوق من نكران الجميل، وبقدر أعلى من التنكر لحقوق والتزامات الشراكة الأمنية، وليس التجارية وحدها.
المغرب في هذه العلاقات، كما في العلاقة مع الجزائر، يعطي أكثر مما يأخذ، ويفتح من آفاق الشراكة ما يغني عن كل الاعتبارات الصغيرة، التي لم يثبت أنها جديرة بالاعتبار أصلا.
المغاربة، من دون حاجة إلى توجيه من أحد، أرادوا أن يلقنوا الجحود درسا. فتلقنته مدريد عندما اجتاح الآلاف من “المهاجرين” حدود جيب سبتة المحتل، ليقدموا إشارة إلى أن تلك هي أرض مغربية أيضا، وأن التعدي لن يمر مرور الكرام على مشاعر المواطنين، دع عنك سلطاتهم. هذه السلطات غلبتها الحيرة أيضا، حيال شريك لا يتصرف كشريك، وحيال مواطنين يندفعون لتذكير إسبانيا بما ترغب أن تنساه.
إسبانيا التي لم تتجاوز عتبة أزمتين اقتصاديتين خانقتين، كادت أولاهما أن تدفعها إلى الإفلاس في العام 2008، لا تستطيع أن تنكر أن علاقاتها مع المغرب قدمت الإسهام التالي، مباشرة بعد الاتحاد الأوروبي، لإنقاذها من الانهيار. وكان بوسع المغرب أن يقايض الدعم بما يستحق. إلا أنه آثر أن يقدم حسن الجوار أولا. ولم تكن المقايضة في قائمة الخيارات أصلا.
يمكن للدول أن تجحد، بالضبط مثلما يفعل الأفراد، ولكن الهجوم الإعلامي على المغرب كشف عن وجه أكثر قبحا من جانب جار كان قبل زمن قصير يدعوه المغاربة “بو رقعة” لأن مواطنيه الباحثين عن العمل في المغرب، كانوا يرتدون أسمالا مرقعة. ولكنّ شيئا من فقدان الذاكرة، فوق الجحود، هو الذي سمح للكثير من مؤسسات الإعلام الإسبانية أن تسخر وتستهين بالمغرب، بل وأن تتخفى خلف إصبع الحماية الأوروبية للحدود الإسبانية، بما فيها سبتة ومليلية المحتلتين.
وكان من فائض الغطرسة أن استدعت الخارجية الإسبانية سفيرة صاحب الجلالة للحضور إليها خلال “نصف ساعة” وكأن القيامة قامت، مما دفع الخارجية المغربية إلى دعوتها للعودة إلى الرباط فورا.
الرهان في المغرب لا أسرار فيه. إنه مكشوف وصادق مع النفس أيضا. وهو أن إسبانيا يمكنها أن تتكئ على شريك كبير، لكي ترى فيه قيمة أعلى من احتلال هذين الجيبين. إلا أن هذا الرهان لم يأخذ بعين الاعتبار لا الحماقات ولا الجحود ولا فائض الغطرسة، وما يمكنها فعله على علاقات الشراكة وحسن الجوار.
مدريد خافت طبعا. هاجمت وهددت، إلا أنها لم تهدد إلا نفسها، عندما حاولت أن تحشر قضية اجتياز الحدود في قالب غير قالب نزعاتها الإنسانية المفرطة حيال إرهابي، يغتصب بوحشية لو شاء أن يغتصب.
وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، قدم الحيرة كما يحسن أن تُقدم، قائلا لإذاعة “أوروبا 1”، “إنه لا يمكنك التخطيط ضد شريكك في الليل وتطلب منه أن يكون مخلصا في اليوم التالي”. قبل أن يجزم “نحن لسنا حراسا لحدود الغير”. وقدّم من الأدلة ما يكفي على أن بلاده فعلت ما لم يفعله أحد في مجال مكافحة الهجرة غير المشروعة. ومن ذلك أنها “فككت 8000 خلية للاتجار بالبشر، وأحبطت 14 ألف محاولة هجرة غير شرعية، منها ثمانون محاولة تسلل إلى مدينة سبتة”.
بعض الاستدراك يتيح لمدريد الآن، أن تتعافى من إنسانيتها المفرطة، لتقول إن إبراهيم غالي لن يخرج من إسبانيا قبل أن يواجه القضاء بالاتهامات الموجهة له. ولكنها أنكرت دخوله بوثائق مزوّرة.
بقي أن تقدم تفسيرا لكيف أنها استقبلت مطلوبا لقضائها بالذات لتوفر له الحماية والعلاج. كما بقي أن تتعافى من الجحود، وذلك أمر أصعب.
المغرب لا يأخذ شيئا من حقوق أحد عندما يدافع عن وحدة أراضيه. تلك قضية مقدسة لكل من يتنفس الهواء هناك، من طنجة إلى العيون.
واستراتيجية الشراكة الوطيدة على حسن النيّات، تكفي جوابا للجاحدين بأنهم يهددون أنفسهم عندما لا ينظرون إلى حقيقة أن الصحراء مغربية إلى غير رجعة، وأن شيئا لن يغير هذا الواقع، ولو بكل أشكال التضحيات الممكنة. والآلاف الذين اجتاحوا سبتة، يوجد مثلهم مئات الآلاف ممن قد يسبقون الجيش للدفاع عن أرض بلادهم.
اذهب أينما شئت في مدن المغرب، وسترى ذلك بأمّ عينيك، في كل حارة وشارع وسوق.
المغرب ليس قوة إقليمية كبرى في المنطقة فحسب، بما لا يسمح بتجاهل حقوقه الوطنية في أراضيه، ولكنه قوة بناءة أيضا، تأخذ بالخير ما تستطيع أن تأخذه بالقوة.
العلاقات مع الجزائر قائمة على الأساس نفسه. والسؤال الذي بات يتعين على مدريد أن تسأله لنفسها، هو نفسه السؤال الذي يواجه الأشقاء الجزائريين: ما قيمة هذه “البوليساريو” أمام شريك كبير وأخ كبير، يعطي أكثر مما يأخذ؟
علي الصراف
كاتب عراقي