ليس الكذب من الأشياء التي يجب المرور عليها دون اكتراث، بل هو سلوك يتوجب الوقوف عليه كظاهرة اجتماعية وسمت سلوك البشرية منذ الأزل، وتطور هذا الفعل ليصل درجة الأذية وإلحاق الضرر، وإقرار الكذب كونه حقائق وجب تصديقها. الكذب بهذا المعنى سلاح فتاك يدمر القيم الإنسانية. والكذب نجده عند الأطفال للتباهي أو لفت انتباه من حولهم، أو لإثبات الذات، وما إلى ذلك من الحالات التي تناولتها علوم التربية وعلم النفس بشكل مستفيض. ثم يكون الكذب متفاقما ليصبح حالة مرضية يستعصي علاجها، إن لم نقل يستحيل ذلك. والكذب مستويات، أرقاه من يحترف الكذب ويحدث ويخطب في الناس أو يكتب ويؤلف كتبا، أو ينشر الأكاذيب عبر الصحف والمجلات والكتب المؤلفة. إنها الاحترافية في الكذب، من أجل تغليط الرأي العام وتضليله، أو توجيهه الوجهة التي يريده أن ينهجها. وهذا أخطر أنواع الكذب. لهذا تجد أقلاما مسخرة لهذا الغرض، وهم الموسومون بالمثقفين المزيفين. لأنه رغم ما أوتوا من نباهة وعلم ومعرفة، وفكر ثاقب، تجدهم برعون في التضليل واتباع الأهواء وخذلان الحق وإعلاء الباطل. إنهم الأفاكون. يدافعون عن قضية ما، ويعمدون لإقناع الآخر بفعاليتها وصدقها وحقيقتها. ويتم ذلك بواسطة أساليب مختلفة، حسب القضايا والمواقف، منها مجال إنتاج المسلسلات الكاذبة، والأفلام السينمائية المزيفة. بريطانيا وأمريكا برعوا في صناعة أفلام ومسلسلات تبخس الهنود الحمر، فصورتهم متوحشين، وصوروا أنفسهم متفوقين عن بقية شعوب العالم، وبرروا بالأكاذيب استعمارهم لبلدان المعمور، وصنعوا الرؤساء، وأقنعوا العالم بالأمراض والحروب والأوبئة، وصنعوا اللقاحات … وخلف هذا تجد ثلة من المثقفين المزيفين، كما أسماهم Pascal Boniface. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يكشف هذه النخبة من المثقفين الذين لا يمكن المساس بهم، لأن هناك الأسياد الذي يحمونهم، يطلون علينا كل يوم عبر شاشات التلفزيون، وأثير الإذاعة، وأعمدة الصحافة … ومنهم رجال الدين الذين أغرقوا العالم بأكاذيبهم. يكفي أن هؤلاء المزورين يخترقون جميع المجالات بما فيها الرياضة. وعملهم هذا هو تدميري وتخريبي، لخدمة مصالح فئة تتحكم في العالم وشعوبه وثرواته.
- انعدام النزاهة الفكرية ..
يسجل بونيفاس، في كتابه هذا ملاحظات ذات أهمية بالغة، تستمد مشروعيتها الفكرية من جرأة طرحها، وكذا من مصادرها، بإلقاء الضوء على التحول الذي يشهده المجتمع الآن، على مستوى الأدوار التي ظل يضطلع بها المثقفون من عيار باندا وسارتر، والتي كان أمثال هؤلاء يخصون أفكارهم بمؤلفات ترصد قضايا المجتمع وفق السياقات السائدة. أما الآن فالملاحظ عن مثقفي فرنسا أنهم انخرطوا في اللقاءات التلفزيونية لشرح أفكارهم، بمعنى أنه أضحى لهم حضور إعلامي كبير، فالبعض منهم يفضل الحضور عبر وسائل الإعلام بدل تقديم إنتاج فكري. يسوق آراء حول الموضوع، منها رأي الفيلسوف الفرنسي Régis Debray (ولد سنة 1940م). له عدة مؤلفات، منها “السلطة الفكرية في فرنسا”، يستعرض فيه دور وسائل الإعلام، واتجاهها نحو ما هو شخصي، مبتعدة ما هو جماع، متجهة نحو الأحاسيس مجانبة للعقل. نحو الفردي وليس الكوني. هذه هي صور الإعلام الجديد كما وصفها Régis Debray، وهي التي تحدد طبيعة الخطاب السائد وبروفايل حامل. عمر البرامج التلفزيونية قصير جدا، فمعدوا البرامج الذين يستضيفون شخصيات فكرية أو سياسية، يوجهون خطاباتها من حيث لا تدري، منها “ضغط” المساحة الزمنية للبرنامج، بمعنى أن الضيف على التلفزيون يتوجب عليه الإدلاء بأفكاره والدفاع عنها، وتوضيحها وفق شروط محدد مسبقا. ويسوق الكاتب هنا مثلا، عن استضافة الإعلامي برنار بيفو للمستشرق ماكسيم رودنسون في برنامج تلفزيوني، وقبل نهاية البرنامج ببضع ثواني، طلب الإعلامي من الضيف رأيه في الدين الإسلامي في ثلاثين ثانية.
ماذا نستخلص من هذا؟ هيمنة الصورة أمام اللغة، لأنه الصورة أضحت مفضلة، أو أريد لها أن تكون كذلك. يكفي أن تكون مهذبا وأنيقا، وتجيد التعبير، لتكون المفضل عمن يفكر بشكل سليم ومتسق. إنها المظاهر التي هزت أركان الهرم الفكري. نتساءل إن كان آرون وسارتر سيحظيان بالمكانة مفضلة في زمن التلفزيون؟ هل كانت مؤلفاتهما ستخترق حاجر السمعي-البصري؟ لقد حل، حسب ريجيس دوبري، من يسمون “مثقفو” وسائل الإعلام محل المثقفين. وبالتالي، هل يمكن للمثقف أن يكون مثقفا وسوقا إعلاميا؟ طبعا هنا استحالة للجمع بين التفكير والتعبير؟ أليس من الفضل أن تكون فوطوجينيك من أن تكون ذكيا؟ يمكن المساواة بين وقت الظهور الإعلامي وبين وقت التفكير؟ الظهور على شاشة التلفاز يطلب التجمل، أما المثقف الحقيقي فيعيش حالة التفكير؟
إن الثورة التي يهدها مجال الإعلام تستلزم الاعتماد على خبراء في المجال لإضفاء المصداقية على العمل الصحفي. الحديث هنا عن الصحفيين الذين يتوجب عليهم توضيح الخطاب للجمهور وإقناعه والضغط على الرأي العام وتوجيهه. يبقى التلفزيون الوسيلة الأكثر استقطابا للجمهور مقابل الصحافة المكتوبة التي هي في طريق الانهيار، خاصة أمام وسائل التواصل والثورة التكنولوجية التي لا تنتهي. إنها وسائل تعمل على إشباع فضول المشاهدين ورغبتهم في الفهم. الناس لا يمتلكون وقتا للقراءة. الناس لا يحبون القراءة. يفضلون الخبر الجاهز والسريع. لهذا فالتلفزيون يشبع هذه الرغبة لديهم. بناء على ما سلف، نتساءل، ما الذي يمنع التلفزيون من احترام الجمهور ونقل الحقائق، وبالتالي استخدامه بطريقة صحيحة؟
وسائل الإعلام تعمل على توجيه الرأي العام وتشكيله، فتبقيه في خانة الجهل، وتجعل من مرشح فائزا في الانتخابات، وتنسف آخر، وتوجه القضاء أو تضغط عليه. لهذا انتشرت بين الجمهور فكرة العدوانية والمؤامرة الإعلامية، وفي هذا الصدد أصدر Laurent Joffrin، المدير السابق لصحيفة Libération، كتابا، سنة 2009، موسوما ب”Média-paranoïa”، يظهر فيه الريبة والخوف تجاه التلفزيون والراديو والصحف، وما نجم عن ذلك من فكرة العدوانية والمؤامرة، وانتشارها بين الجمهور، بمعنى أن منظومة الأعلام هي مجال للتلاعب لصالج جهة غير واضحة تمثل الشر. مجال تتحكم في خيوطه السلطة وأصحاب القرار والنفوذ، أي أنه لا يتمتع بأي استقلالية ولو تبدى الأمر في كثير من الأحيان عكس ذلك. هناك مبالغة في الأمر بطبيعة الحال. فهناك عدة أطراف تتدخل في العملية الإعلامية، منهما نفوذ أصحاب الأسهم، ومدير التحرير، والصحفيين، وانتقادات الجمهور، وهي أطراف تصطدم فيما بينها في كثير من الأحيان. مطاردة المعلومة تؤدي أحيانا إلى إهمال الحقيقة في كثير من الأحيان، وعدم التحقق من المصادر، والاهتمام بالجانب التشويقي والقشور، بدل العمق والجوهر، وبالتالي لا يتم التمييز بين الوقائع وبين التعاليق التي تم إسقاطها على هذه الوقائع. السؤال الذي يمكن اعتباره إشكاليا، هو، هل وسائل الإعلام تعمل على إعلام الرأي العام أم تسعى للتأثير عليه؟ لا نعتقد أن الأمر ينال كثير الاهتمام، بقد ما يتم الاستخفاف به أو عدم الانتباه إليه.
يضرب الكاتب مثلا عن هذا العبث عبر سلوك Laurent Joffrin نفسه، المدير السابق لصحيفة Libération، حيث سمح هذا الأخير لشخص مثل Bernard-Henri Lévy بالتموقع داخل الصحيفة والدخول إلى رأسمالها، وفسح له المجال كي يعبر على هواه على أعمدة ليبراسيون، وهو يعلم أن بيرنار ليفي كاذب. ربما فعل ذلك لأنه كان في حاجة لإنقاذ الصحيفة، لكن هذا لا يبرر التضليل والأكاذيب.
“المزيفون”(بكسر الياء) يأخذون اماكنهم على الشاشات، ويقولون للجمهور أشاء كان مستعدا لسماعها، أو كان ينوق لسماعها. من هنا ينال المزيف مصداقيته المزيفة، ويمضي في التضليل والدفاع عن الأكاذيب لكي يضمن مكانته وسط وسائل الإعلام.
- خدعة الأخلاق الزائفة ..
ظلت القضايا الديبلوماسية والسياسات الخارجية بعيدة عن اهتمامات الشعوب لردح من الزمن. لكن تبدلت الأحوال في الآونة الأخيرة لتتحول الشعوب نحو إسماع صوتها، فلم تعد القضايا الدبلوماسية حكرا على الدوائر المهتمة، وتلك النخب الضيقة. فكان نتيجة هذا الاهتمام أن طفحت الأخلاق بشكل قوي على مستوى الأجندة الدولية. بمعنى أنه أصبح هناك رأي عام يجب اعتباره وكسبه، وهو أمر ليس جديدا، بل فاقمته وسائل الاتصال وما عرفته من تطور كبير، وهو في نفس الوقت صعود موازي للتضليل الإعلامي. لهذا نعيش اليوم معركة الرأي العام، بحيث يضطلع المثقفون والخبراء بدور أساس يتلقون عنه تعويضات مادية وامتيازات، وهذا النوع من المثقفين يصل إلى الجمهور من أجل التأثير عليه وتوجيهه لفائدة الداعمين والممونين، هؤلاء هم المثقفون المزيفون الذين يعملون على استخدام الجمهور وليس خدمته.
إنه الصعود القوي للأخلاق التي تظهر وتختفي عندما تكون الأهداف غير نبيلة، حيث يتم استخدام وسائل غير أخلاقية من أجل امتلاك القوة. الحكومات مثلا، لم تعد تبرر سياساتها بالمصلحة الوطنية، فهي تفتعل المبررات لسياساتها الخارجية. أمريكا مثلا، تدخلت في كوبا العام 1898م بمبرر مساعدة الشعب الكوبي على التخلص من الاستعمار، وفي العراق العام 2003، وهكذا كل مرة، وعند كل تدخل للهيمنة وبسط النفوذ واستعباد الشعوب. دائما هنا مبررات يصنعها الخبراء ويروجونها. إنها الأخبار الزائفة صادرة عن إعلاميين مزيفين، ويسمونها “أسباب مشروعة”. هناك دائما استخدام الخلاق لشرعنة التدخل العسكري الأمريكي في بلد ما.
في هذا السياق، وهو ما لم يعرض له الكاتب، لابد من التذكير بالخراب الذي تسببت فيه دول أوروبا ببلدان شمال إفريقيا حين أقدمت على احتلالها ونهب خيراتها وتقتيل شعوبها، وإخضاعها للتبعية. طبعا مهما كانت موضوعية الكاتب، فالملاحظ أنه يتغاضى عن أخلاق فرنسا، ويسهب في الحديث عن صدام حسين رئيس العراق كونه ديكتاتورا، وكذا نظام بنعلي في تونس، ومبارك في مصر، … لكن لا يتحدث بنفس التوجه عن فرنسا وغيرها من الدول ذات التاريخ الاستعماري. أليست هذه ديكتاتورية في زي آخر؟
يستعرض الكاتب ما حدث خلال الحرب الباردة والحرب التي تم شنها على الشيوعية، وما قدمه الأوروبيون من دعم للأنظمة الديكتاتورية، منها بينوشي وموبوتو، ودعمهم للأبارتايد في جنوب إفريقيا، وسوموزا العنصري الذي قال عنه الرئيس روزفلت “أنه ابن عاهرة، لكنها عاهرة تابعة لنا”. وبالتالي، فالأمر يتعلق بالدوافع الحقيقية للذين يدافعون عن قضية ما وهم يعلمون أنها كاذبة، فيتبنونها ويروجون لها إعلاميا، ويكتبون عنها المؤلفات، ويجعلون منها أمرا واقعا لا محالة. كل هذا تحت مظلة الأخلاق. فنعت رئيس دولة ما بالديكتاتوري لا يقوم على قمعه لشعبه، بل لرضوخه أو عكس ذلك للقوة المهيمنة ومعارضة مصالحها، فيسمى ديكتاتورا ويتم تجنيد الخبراء المثقفون المزيون لتوجيه الرأي العام، وبالتالي التدخل العسكري للقضاء على الديكتاتور واحتلال بلده بمبرر تحرير شعب ذلك البلد. كما حدث في كوبا، والعراق، وليبيا، وتقوم أمريكا بحشد الحلفاء من أروبا، خاصة بريطانيا وفرنسا، بينما تتحرك إسرائيل خلف الستار(هذا قولنا وليس قول الكاتب). ولنا مثال، حسب رأينا، في سوريا وما لحقها من دمار، إذ الرئيس دمرا بلدا بكامله، شعبا وأردا لتبقيه القوى المهينة رئيسا لم توصله صناديق الاقتراع، وإنما نصب نفسه رئيسا بعد وفات والده، أليس هذا ديكتاتورا مستبدا قاتلا؟ طبعا هناك خلفية أكبر، وهي المخطط الإسرائيلي في المنطقة، والتقسيم الجيوسياسي لها، وكذا ضرب معقل الحضارة الإنسانية وهيمنة الدول اللقيطة…(يتبع)
د. محمد حماس
(كاتب من المملكة المغربية)