- الكاتب والكتاب ..
القاص المغربي علي عبدوس، أستاذ، ومؤطر تربوي متقاعد، يهتم بالكتابة السردية. له 5 مجموعات قصصية:
1) قرية أبريل 1999
2) قرية أبريل والفراشة 2005
3) فاكهة النون 2011
4) الاستبداد الناعم 2012
5) ابتسم، 2021
ومنها مجموعة “ابتسم” التي نقدم قراءة فيها، على مستوى المكان، من حيث هو فضاء جغرافي، وشعري، ونفسي، …. يزينها غلاف بألوان مختلفة مفتوحة، وصورة للمؤلف … بين دفتي كتاب من الحجم المتوسط، في 100 صفحة. الصدرة عن جامعة المبدعين المغاربة. مطبعة وراقة بلال، فاس.
نصوص قصصية قصيرة، تتميز بتكثيف الأحداث والشخصيات. لغتها سلسة. قراءتها تحقق متعة لدى المتلقي. يميزها التكثيف بشكل مارق، يقوم على احترافية مقرونة بإحساس قوي بصدى كل كلمة، وما يمكن أن تزخر به من دلالات، فأبدع الصور الجميلة والمعاني العميقة.
لا يمكن حصر المكان في أبعاده الهندسية، بقدر ما يجب التعامل معه كونه مكانا عاش فيه أناس، بشكل موضوعي، ونحن ننجذب نحوه لأنه يكشف الوجود وفق حدود نشعر معها بالحماية، بمعنى أن الارتباط بالمكان يتجاوز ما هو محسوس، إلى الخيال الذي يلامس الوجدان، والمشاعر والأحاسيس الت نحملها معنا مهما تقدم بنا العمر وانتقلنا من مكان لآخر. فكان طبيعيا أن يحمل كل منا شحنة ثقيلة من المشاعر عبارة عن ذكريات وأحداث ووقائع عشناها في مكان معين، نستحضرها دائما حتى الممات. فتشكل حنينا يتدفق بشكل دائم، يعطي سرا للوجود. والمكان بهذا المعنى لا يعني الماضي والذكريات فقط، بقدر ما يعني الحاضر أيضا. نحب المكان ونحن نقيم فيه، لا نبرحه خلال رحلة الحياة. من هنا فإن المكان يتغير حسب هذه المتغيرات التي تخضع لما هو اجتماعي، ونفسي وربما تاريخي وسياسي.
المكان في التجربة الإبداعية، أدبية أو فنية، يتدخل فيه الخيال ليضفي عليه صبغة خاصة من الجمال. فالمبدع يمكنه نقل تجربة خاصة من خلال ارتباطه، أو مروره بمكان معين في زمن ما. ليعود ويستحضر تلك التجربة بما تزخر به من آلام وأفراح وأتراح.
يعتبر الكاتب، القاص، علي عبدوس من جيل الستينيات الذين عاشوا حياة متقلبة بسبب ما شهدته تلك المرحلة التاريخية من أحداث يمكن اختزالها في التخلص من الاستعمار العسكري والتبعية لبلدان الشمال، منها فرنسا، وإسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا … باعتبار أن الشمال الإفريقي، والقارة الإفريقية كلها، كان مسرحا لمآسي ومجازر، وتقتيل لساكنتها، واستعباد مواطنيها، واستغلال خيراتها، واستنزاف ثرواتها إلى الزمن الراهن. لا شك أن هذه الوقائع سيحملها الكاتب معه ويترجمها عبر أعماله بشكل من الأشكال. وهذا في حد ذاته سيشل ذلك الارتباط بالمكان كوجدان حمل كل تلك المشاهد المريبة. مشاهد لم تقصي تسرب ذكريات الطفولة والشباب، خاصة وأن الكاتب نشأ بقرية صغيرة، يصر داخل مجموعته على استحضارها، وهي قرية “مستكمر”، الأمازيغية، الواقعة بشرق المملكة المغربية، مستحضرا بذلك أصوله ولسانه الأمازيغيين. امتهن التدريس، وهو يذر ذلك في نص “خريف القراءة”، ونصوص أخرى، لأنه عمل بقطاع التدريس ثم التأطير والمراقبة التربوية لأربعة عقود.
هكذا نجد الاهتمام بالمكان، انطلاقا من هذا المفهوم، عند الكتاب، من شعراء تغنوا بالأطلال، وأدباء أبدعوا القصص الجميلة، وروائيين نقلوا أحداث أعمالهم والشخصيات عبر وصف الأمكنة، فتبدو تلك الشخصيات والأحداث مكونا أساسا للعمل الإبداعي.
يتحدث عن الأمكنة، في قصصه، ويستحضر التفاصيل، والأشخاص، والأحداث، بكل حنين وعفوية، فتحس الصدقة في بوحه، كما تحس جرأة في كلامه .. يسترجع ذكريات الأيام الخوالي … يبدو متعلقا بالأمكنة، فيتحول إلى جزء منها، أو يخاطبها وكأنها شخص يصاحبه، أو أناه الأخرى. تحس وأنت تقرأ القصص بوجود حلقة مفقودة في كلام الراوي، وكأنه يفتقد تلك الأمكنة كلها، من مسقط رأسه بقرية “مستكمر” إلى باريس، ووجدة، ومدن كثيرة داخل المغرب وخارجه.
معلوم أن المكان يتم إدراكه حسيا، لكن هنا في المجموعة القصصية “ابتسم”، يبدو المكان جزء من كيان الكاتب … المكان تجربة معاشة، وتفاعل مع المكان كتجربة إنسانية. تتجلى من خلال نقل هذه التجربة في واقية البعد الجغرافي الذي ينقله الكاتب من عالم الواقع، يستعرض من خلاله شخصيات عبر تحديد كينونتها. هكذا يحضر المكان ذو الأشكال الهندسية من خلال التوصيف، إذ يبرع الكاتب في الوقوف عند التفاصيل الهندسية والأبعاد التي لا يتسنى للجميع ‘دراكها، إذ تشكل بالنسبة للكاتب نقطة تركيز على شخصية أو حدث، أو قد يرتبط بذلك المكان بشكل مختل يغرق في توصيفه بما أوتي من معجم وصور. بهذا يتحول توصيف المكان إلى تعبير عن حالة نفسية عالقة لدى الكاتب، أو يعكس نفسية الشخصيات داخل النص القصصي. يتجلى هذا التوصيف للمكان ذي الارتباط بالمشاعر النفسية لبطل أحد النصوص، وهو “محسن”، حيث يروي معاناته بسبب الانتقال من بيت الأسرة إلى مدينة قريبة، لتواجهه عدة مشاكل، منها السكن، حيث سوف يستقر ب”الخيرية”، وهي دار للعجز. الالتحاق ب”الخيرية” بعد مباركة “الحاج” المكلف بتسييرها، مع جيش من العجزة تتفاوت أعمارهم، وأصولهم، وأسباب شقائهم، وأمة من القمل والبراغيث والحشرات الضارة …”. هكذا وجد “محسن” المراهق نفسه في مكان لم يستطع تقبله. عجزة وأوساخ… ليبحث أهله عن حل بديل، ربما هو أسوأ من دار العجزة، ليستقر عند أحد الأقرباء، وتبدأ المعاناة مع الجوع، والإهانات التي لا حد لها، خاصة من زوجة قريبه. “حين تجتمع العائلة حول “الطعام” يجد مكانا في الدائرة بصعوبة، ويحصل على لقمة مغموسة في نقد زبيدة الذي لا ينتهي وكأمه ينتزعها من عش الزنابير …”زبيدة هي زوجة قريبه التي ظلت توبخه وتكلفه بالأشغال الشاقة، منها ملء قناني الماء. لعل اختيار إسم زبيدة من لدن الكاتب لم يكن صدفة بقدر ما كان فيه إيحاء لمعاناة نبي الله يوسف مع زوجة العزيز التي نكلت به … هكذا يبدو المكان مرتبطا بشكل وثيق بالحالة الشعورية للكاتب، أو بالشخصية التي تكون محور أحداث النص القصصي، حيث يرتبط الإحساس بالمكان بما هو عاطفي، ليشعر بآلامه، بمعنى أن المكان يرتبط بالإنسان، في حالات ألمه، وحزنه، واستحضاره لماضيه وحاضره، ومستقبله. المكان شبكة من العالقات والرؤيات، ووجهات النظر التي تتضامن.
المكان إذن، يعبر عن شخصية الكاتب، وشخصيات النصوص القصصية، وعن حالاتها النفسية من خلال تواجدها في عدد من الأمكنة. فنجد الكاتب يقف عند التشكيل الهندسي للأمكنة، من حيث الأحجام والزخرفات، والتفاصيل، والفراغات، والصور المعلقة، وهذا ما يقدم عليه الكاتب حين يغرق في عملية التوصيف، مستعينا باللغة والذاكرة. هكذا نجد هذا الحضور في نص “مشروع”، حيث المكان بمدينة بلجيكية، هي بروكسيل، التي تنعش ذاكرة الكاتب لاستحضار فضاءات مراكش المغربية، يثريه خيال خصب، فيصف المكان بشكل يثير الكاتب نفسه والمتلقي معا رغم ابتعاده عنه. بمعنى ان المكان الحاضر يجعله يعيش تفاصيل وذكريات مكان آخر في ومن بعيد أو قريب، وفي مساحة جغرافية مختلفة. في نص “مشروع” يقول الكاتب: “في حي (مغربي)، في بروكسيل، جلست في مقهى شعبي فأحسست كأني في مراكش …”. حتى الشخصيات هناك لا تختلف عن تلك التي في مراكش، متحلقة حول كؤوس الشاي … يتحدثون في أمور مختلفة باللهجة الأمازيغية، وبعض المصطلحات العربية النادرة”.
معلوم أن المكان تتعدد أبعاده بين جغرافي، وهندسي، ونفسي، وفيزيائي، …. أما الذي يهمنا منه داخل هذه المجموعة القصصية هو البعدين، الاجتماعي والنفسي، بشكل خاص، لأن الكاتب هنا يسترجع ذكريات ولت، ومن خلالها أمكنة وشخصيات، وعلاقات، وحميمية، ودفء مشاعر. ففي المكان تعيش الجماعات البشرية وتتطور وتضع قوانينها ولغتها وأعرافها وتقاليدها
استطاع الكاتب، من خلال نصوص المجموع، أن يشتغل على فضاءات مرتبطة بشخصيات النصوص، تحمل عددا من الدلالات والرموز، والمناظر التي تشكل خلفية النص السردي، ومنها يشكل المشاهد القصصية، فيتحول النص إلى ركح مسرحي تؤثث مساحاته شخصيات القصة بكل ما تحمله من خصوصيات، ومركبات نفسية وسيكولوجية، يتم تمريرها عبر وقائع معاشة يغذيه خيال الكاتب.
ثم إننا لن نبالغ إذا قلنا عن الكاتب أنه استطاع استنطاق الأمكنة، وكأنه يحمل عدسة تصوير تلتقط أدق التفاصيل، لأنها تفاصيل حياتية، تزخر بها الذاكرة، حيث يلمس القارئ تلك الشحنة من العواطف الإنسانية، لأن ميزة المكان التصاقه بالإنسان، لأنه يجعله يشعر بوجوده المنفرد أو وسط الجماعة. فالأشياء تنعكس في الأنسان، والإنسان ينعكس فيها. تتجلى تلك العلاقة بين الإنسان والمكان، داخل المجموعة القصصية عبر عدد من النصوص، نستحضر منها نص “الذباب”: “… بحثت في كل مكان في الغرفة، لا أثر للذباب ولا أدنى ضجة أو حركة في المنزل … أغلقت النافذة، عدت إلى مكاني، حاولت أن أغمض عيني لأنام، خضني الأزيز مرة أخرى …”، النص عبار عن توصيف للمكان لذي ينام فيه الكاتب، وصراعه مع الذباب الذي حرمه النوم، تفقده لأرجاء الغرفة، والإغلاق النوافذ وفتحها. إنه صراع داخل مكان ضيق، من أجل النوم، الشيء الذي أثار غضبه، وحرمه الراحة. كلها وقائع تعكس ارتباط الكاتب بالمكان وانعكاس ما يجري على نفسيته …
ويمكن الحديث هنا عن المكان الذهني، والذي يكون منفتحا لا تحكمه حدود، “وكأنه يتجه إلى مختلف الأماكن، دون صعوبة، ويتحرك نحو أزمنة أخرى وعلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة”. وتأتي هذه الأمكنة إما منفتحة أو منغلقة. نقف هنا عند نص “الجولف”، الذي يجعل الكاتب يتمثل المكان مساحات واسعة للعبة الكولف، والحفر هناك، رغم أنه لم يرها يوما، فقط ما شهده عبر شاشة التلفاز أو الصور، “… أعرف ما اختزنته ذاكرتي من لقطات على شاشة السينما، امتداد هذه العاب على هكتارات عشب خضراء، أشجار شامخة، هضبات، منعرجات، وأغنياء يلبسون لباسا أبيض ناصعا …”، هكذا يقوم بتوصيف أمكنة يحملها في ذهنه، ويضفي عليها من خياله الواسع. وتأتي المشاهد، من خلال الأمكنة، داخلية وخارجية، مغلقة أو مفتوحة، أو الانتقال بينهما.
هكذا تأتي مرحلة الوقوف عند الأبعاد الدلالية للأمكنة، وهو ما نلحظه في الأعمال السينمائية أو اللوحات الزيتية، والصور الفوتوغرافية الفنية. أما عن المكان في القصة القصيرة، فهو تصوير للواقع وطبيعته الخاصة، المرجعية والمتميزة، فهو مكان مصاغ من ألفاظ لا من موجودات.
تأتي الأمكنة متنوعة ومتعدد، ذات خصائص تميزها، منها أمكنة التواصل، وتكون عامة، كالسوق، والحمام، ومحطات السفر، والمستشفيات، ومحلات العبادة، والمؤسسات التعليمية …، حيث يتواصل الناس، ومنها المقهى، حيث يقف الكاتب في نص “مقهى الهلال” على هذا المعنى، إذ من الهين التواصل والانسجام مع أناس لا نعرفهم، ولم يسبق أن التقينا بهم، وقد لا نلتقي بهم مرة أخرى، فقط جمعنا المكان بكل ما له من حميمية وخصوصية، لأن الأمكنة ثابتة، فالأنسان هو الذي ينتقل بينها، فيصادف اناسا آخرين، قد تمتد علاقته بهم، وغالبا ما تنقطع مع نهاية لحظة اللقاء.
جاءت المجموعة القصصية الخامسة، “ابتسم”، لتؤكد الحضور الواعي بقيمة السرد عند القاص علي عبدوس، وتشكل انتقالا في الكتابة، على مستوى الاختلاف والخصوصية مقارنة مع المجموعات السابقة. نستكشف من خلال نصوصها القصيرة، عوالم واسعة، لا تقف عند حدود. لهذا شكل المكان ركنا أساسا في البناء القصصي عند الكاتب، من حيث ارتباطه بكل الأمكنة التي مر بها، يقف عند تفاصيلها، ومدى ارتباطه بها، وانعكاسها على نفسيته، وكيف بقيت موشومة في ذاكرته رغم تقدمه في العمر، وكأنه يحي من خلالها حياة ثانية.
د. محمد حماس
باحث، كاتب وقاص من المغرب
علي عبدوسمنذ 3 سنوات
شكرا د. محمد حماس على التشجيع والمؤازرة، وكل تقديري لإدارة ريسبريس، على نشر المقال، والتعريف بالمجموعة القصصية.
تحياتي.