عبد اللطيف مجدوب
مسرحية ذات نبرة سجالية، تحشد فسيفساء لألوان من فاعلين سياسيين، وفي آن استعراض لآثار الوسائط الاجتماعية في اتخاذ القرارات المركزية.
بعد أن وضعت الحملات الانتخابية أوزارها، وفي خضم اشتداد التنافس الشرس بين عدة مكونات حزبية، جاءت ليلة ظهور شهرزاد لتستأنف حكاياها:
وجوه جديدة، تحث خطوها نحو هيكل السلطة، وأخرى قديمة متهالكة، تخونها أحياناً خطواتها باتجاه الهيكل، غير آبهة لا بالتصفيقات ولا بالحناجر التي تكاد تتمزق أوتارها!
منتخبون جدد وقدامى
تراصوا في وقوفهم إزاء هيكل السلطة، فيما ذهبت أنظارهم بعيدا محملقة في صرحه وشموخه وأسس القواعد التي قام عليها، يتفحصون بوجه خاص بقايا عظام باتت ناتئة في أحد أعمدتها الرخامية، أشبه بأحفوريات بائدة، بيد أن الناخبين القدامى، كما بدت سحناتهم، لم يعيروا كبير اهتمام لهذا الصرح الشاخص أمامهم من فرط معانقتهم له صباح مساء، بل أكثرهم انشغلوا عنه بطرد طنين الذباب الذي كان يشوش على أنظارهم، فيما ذهب آخرون لاختلاس جرعة من “طابا” من بين تلابيبهم، لا ينفكون عن تبادل الهمز واللمز.
فجأة، همدت الأصوات وشخصت الأنظار إلى طلعة شخص ظهر في الباب الخلفي من الهيكل، ممتطيا صهوة جواد بسيف بتار، أخذ لمعانه يلقي بإشعاعاته على هامات الحشود الواقفة، بعد أن تحسس بنظراته سحناتهم وتجول بها إلى صدورهم، زمجر في صوت هدير البحر:
“أعلم مقدار ما تجشمتم من عناء للوصول إلى هنا، فمنكم من كال وعودا سخية، ومنكم من جاء رغبة في عقد قران بالسلطة والمال. ومنكم من جاء متكئا على عكازته ولسان حاله يقول: ما أحلى السلطة حتى ولو اصطحبتنا إلى الدار الآخرة!”.
صوت من الحمام: “دافعنا الأساس، خدمة البلاد والعباد والواجب الوطني.. والسهر.. والضرب بيد من حديد على…”.
صوت من الميزان: “جئنا لنستلم تركة مثقلة بالتمزقات والأعطاب، سنحاول إدخالها “غرفة العناية المركزة”.
صوت من الجرار: “كلنا ثقة في آليات جرارنا الذي يمتلك مواصفات فريدة في شق الأرض وزرعها وحصدها وبأقل التكاليف، سنجعل الأرض تخضر موسمين متتاليين في سنة واحدة!”.
صوت من الوردة: “ما زلنا على ديننا.. وأيادينا ممدودة لكل راغب في التعاون من أجل تعزيز مكتسباتنا”.
لاحظ الفارس أن في جموع الحشود صوتا مهلوسا يريد أن يتكلم فلا تطاوعه حنجرته فتوجه إليه بأعين متفرسة: “من أنت؟ من أية قبيلة حزبية؟ أراك تهذي منذ وقت مبكر، فمن تكون؟”.
“أنا صوت المصباح الذي لم يتبق منه سوى هيكله بعد أن تعرض زجاجه للتشظي العنيف، فذهب شذر مذر”.
الفارس ينزل من على صهوة جواده ويتقدم من صاحب المصباح: “وهل ما زال فيك عرق ينبض بعد الذي أصابك؟ ألم تعد إلى قواعدك لتحاول ترميمها أو بالأحرى فك عراها وتأمل الرياح التي عصفت بمصباحكم في القرى والمدن؟!”.
صوت من الكتاب: “أما نحن.. فما زلنا على وفائنا للشيوعية، لكنها شيوعية مرنة قابلة للتعامل والتعاون مع أي كان، شيطانا أو ملاكا!”
صوت من السبع: “مع الأسف، حتى ولو كان زئيرنا لم يعد مدويا، فما زال لكرامتنا حضور حتى ولو كتب لنا الاكتفاء بحمل كلمة لا إلى قيام الساعة”.
صوت من السنبلة: “حركتنا ما زالت تنبض بالحياة رغم أن شيخوختنا أدركتنا في هرم السلطة”.
صوت من الشعب:
عاد ليختفي مشهد الفارس ليخلفه في الجهة المقابلة والمعتمة صوت أجش متلاحق الأنفاس:
“ولمَ هذه الكثرة في تعداد الألوان الحزبية؟ ألا يعد تخمة يصعب على المواطنين التعامل معها؟ إنها بحق تشرذم سياسي وليس ظاهرة صحية للتبجح بقول إننا في بلد يحترم التعددية السياسية، فالتعددية إذا كانت تتجاوز 30 حزبا انقلبت إلى معاني أخرى من قبيل “التمزق”…”اللاثقة”..”الانشقاق”.. حتى إن معظم أحزابنا الحالية ولدت من رحم أخرى كبيرة أو بالأحرى انشقت عنها. ثم إن تكلفتها الانتخابية تكلف خزينة الدولة المليارات من الدراهم، هذا عدا الدعم المخصص لها… بينما أنشطتها تظل في حالة كمون ولا تنشط إلا في مواسم الانتخابات وتجديد النخب؟”.
الولوج إلى ردهة السلطة
يتحول مشهد الهيكل السياسي إلى ميدان فسيح، لتلجه الجموع تباعا وتصطف كما لو أنها تنتظر حصتها من شهد “السلطة”، فينبري صوت الحمام مجلجلا:
“هذا برنامجنا الحكومي..! مرقم.. ومحين، يضم كل الانتظارات الشعبية ولا يدع للصدفة نصيبا.. فهلموا.. وافتحوا آذانكم وعقولكم”.
تسمع من خلف الستارة قهقهات متسارعة مدوية في كل الأنحاء: “هيهات هيهات.. هنا لا برامج إلا ما توافق مع برنامجنا”، يرد عليه صوت بالكاد هش، لا تسمع له سوى أنفاس متقطعة ولعله صدى صوت المصباح: “هذا ما كنت أود قوله.. فنحن عانينا كثيراً من هذا الجار “النشاز” لا نخطو خطوة إلا إذا صدرت لنا إشارة الضوء الأخضر”.
يعود صوت الشعب مدويا: “ولِمَ قبلتم بوجود هذا الجار النشاز؟ أما كان أليقا بكم إخلاء الساحة وتسليم المفاتيح؟ أم إنكم تعرضتم لإغراءات سحر السلطة ولمعان بقشيشها؟”.
فجأة يظهر صاحب الصولجان، متبخترا على صهوة جواده: “لا..لا.. هيكل السلطة.. ليس في قاموسه كلمة “لا” وإلا كان سمح بالمزج بين حلاوة شهد السلطة وزعاف مالها.. لا..لا.. تقال خارج الهيكل”.
تدافع أصوات لقبائل حزبية
تدافع في شكل غوغاء “لا.. نعم.. وطن.. حق.. ديمق… سع.. انتظ.. اقتص.. من.. لم.. كرا.. دف.. مرق.. دي.. هم..”.
ينهرها الفارس بعقد حاجبيه وتقطيب ناصيته:
“اخرسوا.. اخرسوا..! ولا تهينوا الهيكل.. فهو لا يتحمل غوغاءاتكم..أنتم هنا لتنالوا حصصكم من رضاه وكراماته فالواجب يحتم عليكم الصمت وقارا له.. ستوزع عليكم جبابه وستحملون رمزه طالما كنتم في حضرته وتحت لوائه”.
على حين غرة
تضيء جنيات الهيكل وتنفتح قنوات لدائنية زرقاء لتبث منها خطابات عنيفة ممتزجة بأدخنة حمراء، ذات رنين حاد أشبه بطنين الذباب الهائج:
“..الكلمة للشعب.. لننصت إلى آلامه وتوجعاته.. لا للرهبنة السياسية.. ولا للازدواجية في تدبير الشأن العام.. الشعب ضحى بالغالي والنفيس.. فما جزاؤه؟.. قضايا وملفات شائكة ما زالت تسرح.. لا للاستغلال البشع للسلطة والمال..لا…”.
يسدل الستار
على وجه دميم مكشر الأنياب والشرر يتطاير من نظراته: “..أبعدوا عني كل هذه الأراجيف.. فالهيكل لا يطيق سماع نقيق الضفادع..!!”.