الزعم بوجود نقص في المواد الغذائية بالمتاجر في الجزائر يأتي، بحسب الرئيس عبدالمجيد تبون، من “بعض المتربصين بالجزائر، كأنهم من كوكب آخر، حيث أصبحوا يصوّرونها بسوداوية ويدّعون بأن المواد الغذائية منعدمة على رفوف المتاجر”.
ولا أحد يتربص بالجزائر، في واقع الحال، أكثر من مؤسسة سلطة، لا تعرف ماذا تريد، ولا تعرف ماذا تفعل، سوى أن لديها مؤشرا واحدا تشتغل عليه ليكون هو بوصلة علاقاتها مع الكواكب الأخرى. إنه المغرب. هذا هو “العدو المبين” الذي إذا عطس أحد مواطنيه فذلك مما سوف يعني “مؤامرة” لإصابة الجزائر بنزلة برد.
مع ذلك، فإن أحد أهم “المتربصين” بالجزائر، القادمين من كوكب آخر، هو مجلس الأمة بالذات، الذي قرر مؤخرا “إنشاء لجنة تحقيق برلمانية تعهد إليها مسؤولية التحقيق والتقصي في مشاكل الندرة والاحتكار الذي طال بعض السلع والبضائع من المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع في الجهات الأربع للجمهورية، وفي مختلف الجوانب ذات الصلة”.
هكذا قال النص الرسمي لقرار إنشاء تلك اللجنة. وهو ما يعني أحد أمرين لا لبس فيهما: إما أن يكون مجلس الأمة نفسه متواطئا مع كائنات من كوكب آخر، أو أن يكون الرئيس تبون يعيش في كوكب آخر.
أحد مظاهر العلاقات المشبوهة بالكواكب الأخرى، كان ذلك القرار الذي أصدره وزير التجارة كمال رزيق بمنع القصّر (دون السن القانونية) من شراء زيت المائدة، “بعد اكتشاف أطراف تستعمل الأطفال للمضاربة في المادة”.
هذا كوكب آخر بالفعل. إذ أن المضاربة بمادة غذائية، فضيحة، كما هي فضيحة أن يكون شراؤها على أساس الأعمار. شيء من هذا القبيل، لا يمكن أن يحصل إلا في عالم آخر.
والأمر لا يعدو أن يكون مثالا على حال الفوضى التي تعم بلادا لم تعد تعرف ماذا تفعل. ولكن قادتها يعرفون شيئا آخر: إذا قام المغرب بعمل ما، فإنه سيكون مؤشرا كافيا لهم للقيام بعمل مثله. ربما على أساس الغيرة أو الخشية من أن يُعاب عليهم أنهم لا يفعلون ما يفعله “العدو المبين” لتنميته وازدهاره.
يعقد المغرب صفقة سلاح مع الولايات المتحدة، فتعقد الجزائر مثلها مع روسيا. أو يقوم المغرب ببناء خط أنابيب للغاز مع نيجيريا، فتسرع الجزائر إلى القول إنها أعدت دراسات مماثلة لمد خط غاز آخر مع نيجيريا. وإذا احتضن المغرب لقاء بين مسؤولين ليبيين لتسوية الأزمة في بلادهم، فإن الجزائر لن تتأخر في الإعلان عن ندوة مماثلة. ولو حدث أن أعلن المغرب عن عزمه على إقامة أيّ مشروع، فمما لا شك فيه أن تعلن الجزائر عن مشروع مماثل. وكأن البلاد التي لا زيت فيها كافيا للطهي، لا تعرف من دنياها إلا ملاحقة المغرب أو اتخاذ القرارات على أساس النكاية به.
والمغرب في واد، وثكنة الأزمة في الجزائر في واد آخر.
الثكنة الغارقة في فضائحها لم تكن لتحتاج تسريبات من أحد الضباط المعتقلين ليعرف الجزائريون أنها ثكنة نزاعات ومزاعم.
قرميط بونويرة السكرتير الخاص السابق لقائد أركان الجيش الراحل أحمد قايد صالح كشف جانبا من تلك النكايات التي تسلك مسالك الذرائع ضد المغرب. إذ قال في تسجيل مصور تم تسريبه من سجنه، “إن التحقيقات بشأن تهريب المخدرات التي أجراها قايد صالح في العام 2018، كشفت عن وجود تواطؤ لقيادات عسكرية لتمكين المهربين من العبور مقابل الحصول على عائدات، و”إنّ بعض الأسلحة التي كان يتم الكشف عنها في الصحراء، على أساس أنها عمليات كشف في إطار محاربة الإرهاب، كان يجرى استقدامها من ليبيا وتخزينها في الصحراء ثم تصويرها على أنها اكتشاف من قبل قوات الجيش”.
الشيء نفسه يحصل بتوظيف جماعات البوليساريو. فعدا عن أنها هي التي تمارس أعمال التهريب، فإنها تتعمد القيام باستفزازات عسكرية في محاولة للإيحاء بأنها ما تزال تلعب دورا في تقرير مصير الصحراء المغربية. ومع استئناف المبعوث الدولي الجديد ستيفان دي مستورا لمهمته كمبعوث خاص للأمم المتحدة، فقد أصبح تجديد الاستفزازات العسكرية بضاعة صالحة للمضاربات التي يمارسها مسؤولون لا شغل لهم إلا المغرب. ولو أنهم نافسوا أقرانهم بالمضاربة بالزيت لكانوا في وضع أفضل.
قسط كبير من صراعات الثكنة معروف للجزائريين. والسجون التي تغص بضبّاط من هذا الفريق أو ذاك، تروي قصة الأزمة التي ما انفكت الجزائر تدفع ثمنها إلى اليوم. وهي قصة تعود في أصلها إلى أنهم لا يعرفون ماذا يريدون، أو ما هو السبيل إليه؟
أحد آخر الفصول، كشفه بونويرة أيضا، إذ قال “إن قايد صالح كان يعتزم إحالة (سعيد) شنقريحة (رئيس أركان الجيش الحالي) إلى القضاء العسكري قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في ديسمبر2019، غير أنه فضّل تأخير الأمر إلى ما بعد الانتخابات وعدم التشويش على الاستحقاق الانتخابي، لكن القدر كان أسبق منه حيث توفي قايد صالح في السادس والعشرين من الشهر نفسه”.
وبطبيعة الحال، فإن لكل ضابط كبير ملف يستوجب التحقيق. ولكل ملف “مؤامرة”، والبلاد التي باتت بلا بوصلة، لا تأخذ مسارا إلا وتعود لتجد نفسها على مسار التيه السابق.
وما من شيء في ذلك يمكن اعتباره “سياسة”. إنه نزاعات مصالح صغيرة ونكايات أصغر منها.
الجزائر، هذا البلد عظيم الإمكانيات، الغني بالموارد، الذي يطفح بالخبرات في كل مجالات الإدارة والاقتصاد والمعرفة والثقافة، ما كان من الطبيعي أن يجد نفسه تائها لولا أن نخبة السلطة ظلت تلعب دورها كنوع من عصابة تخوض حربا معلنة أو مضمرة ضد عصابة أخرى تنافسها، ولكنهما تجتمعان على بوصلة عدوّ واحد، لا يريان غيره، بينما الفقر هو العدو، وبينما البطالة والعوز هما العدو، الذي لا يناسب أيّا منهما أن يراه.
الجزائر خير من ذلك. ولو أتيح لشعبها أن يفرض قوله في الإصلاح والتغيير، ما كنا انتهينا إلى فوضى تطال السياسة، والثكنة، ومجلس الأمة، وصولا إلى المتاجر.
ما من شيء يخفى على الرئيس تبون. فهو عندما حاول أن يقدم صورة لأوضاع البلاد، لمواجهة “الإشاعات وخطابات التيئيس” فقد قال عن المنظومة الصحية في البلاد، إنها “ليست الأفضل طبيا، ولكنها ليست في المراتب الأخيرة، كما يحاول البعض الترويج له”.
شيء يعني أن “الإنجاز” المتبقي لهذا البلد العظيم، إنه ليس في المراتب الأخيرة.
اسأل عن أسعار الزيت والسكر. وانظر في طوابير الانتظار أمام المتاجر، وستعرف من أي كوكب يأتي المتربصون بالجزائر.
إنهم أهل حكمها الذين ظلوا يتربصون بها منذ السنوات الأولى للاستقلال، حتى بلغوا بأوضاعها ما لم يكن لأحد أن يتخيله.
علي الصراف
كاتب عراقي