إيهاب الحضري
أشعر بالضيق من ضعف عاشق يبكى من لا يستحق، ويبدو كمتسوّل يستجدى التعاطف. أُحكم الغطاء حوْلى لأقاوم برْدا يغزو أطرافى، وأنام على أمل أن تكون الأحلام أكثر دفئا!!
وقائع سطو مُعلن!
الأحد:
مر الوقت، وبعد أيام سيكتمل الأسبوعان دون نتيجة تبث الطمأنينة فى قلوب أفراد عائلتي. وقائع عديدة سابقة جعلتهم يستعينون بباب حديدى يتصدى للمتسللين، بعد أن أثبت الخشب عجزه عن الحماية. ظلّ استخدام الأبواب الحديدية قاصرا على مسافرين يرغبون فى مواجهة أطماع لصوص مُتربصين، لكن حتى المقيمين فى منازلهم لجأوا لها قبل سنوات، بعد أن تزايدت «بجاحة» السارقين، وهاهو الباب نفسه يتعرض للسطو فى وضح النهار، دون أن يشعر المقيمون بالشقة ولا سكان العمارة كلها!
هنا تتراجع القيمة المادية للباب، أمام دلالات رمزية تبعث الفزع من مكمنه. باب الحماية يُسرق! نُكتة تشبه خبرا عن سرقة يتعرض لها ضابط شُرطة. كلها أمور مطروحة، غير أن رد الفعل يبقى الفيصل، وعندما تُظهر كاميرات المراقبة وجه اللص يبدو هناك أمل فى الإيقاع به، خاصة أنه يتحدى الجميع ولا يهتم حتى بإخفاء وجهه.
اهتمامى بالجريمة نابع من دوافع شخصية بالتأكيد، لكنه ينطلق لفضاء أبعد، يتعلّق بحق المواطنين فى الشعور بالطمأنينة فى بيوتهم. قد تبدو سرقة باب مجرد جريمة تافهة، مقارنة بعبء هائل يقع على عاتق رجال شرطة قسم الدقى. إنه أمر حقيقي، لكن تجاهله يُمكن أن يُفرز توابع أشد وطأة.
سوف يُصبح اللص أكثر جرأة، وغالبا سيواصل ممارساته ويبعث الجرأة فى قلوب آخرين، وعندما تتزايد رُقعة الجرائم البسيطة تتزايد احتمالات الخطر.
ربما يفاجأ أحد اللصوص مثلا بمن يواجهه، وتتحول المواجهة إلى جريمة قتل، كان يمكن تفاديها لو لم تتم الاستهانة بالجريمة الصغيرة، والمثل العربى القديم يقول: مُعظم النار من مُستصغر الشرر.
54 عاما.. على حافة الرضا!
الاثنين:
حفرتْ قصة أوديب فى أذهاننا ذلك اللغز، الذى تسبب فى مقتل كثيرين فشلوا فى حله، عن مخلوق يزحف فى الصباح على أربع، ثم يمشى على اثنين وينتهى به الحال إلى السير مساء على ثلاث! أصبح الحل معروفا لملايين البشر ممن قرأوا الأسطورة. إنه الإنسان يحبو بعد مولده بشهور على قدميه ويديه، وعندما ينمو يسير على رجلين، وفى شيخوخته يعتمد على عصا تحفظ له توازنه، فيبدو وكأنه يمشى على ثلاثة أطراف.
تذكّرتُ القصة وأنا أتابع التهانى بعيد ميلادي. ها أنا قد أكملتُ أربعة وخمسين عاما، والحمد لله لا زلتُ أمضى على اثنين، أحمل أثقالى مع باقة من الأمراض المُزمنة، وهى نعمة حقيقية فى زمن شهد تراجع دور العصا، لأن الكثيرين لم يجدوا الفرصة للاستعانة بها، بعد تزايد نشاط موت الفجأة، الذى يخطف الأرواح خلال السير والنوم، وأحيانا دون أعراض ظاهرة.
فجأة أكتشف أن هناك حلا أكثر عصرية للغز أوديب، فكل منا يبدأ حياته يحبو وهو محمل بالأحلام، واثقا بأن الزمن كفيل بتحقيق معظمها، وفى منتصف العُمر يدخل مرحلة الرضا بما هو متاح، ثم ينتقل إلى المرحلة الأخيرة سائرا على قدميه، وبدلا من العصا تلعب الذكريات دور الطرف الثالث. قد تمنح الذكريات الإنسان نشوة مؤقتة، وفى المقابل ربما تجعل عصاه مبتورة وعاجزة عن حمل بعض أوزانه، إذا اكتشف أنه ضيّع فى الأوهام عمره! فى شبابى حلمتُ بالانتشار المهنى والسفر حول العالم، وساهمتْ أحلام اليقظة فى تحليق أحلامى إلى فضاءات أرحب، وبعد فترة علّمتُ نفسى أن الأحلام قد تكون ممتعة فى وقتها، غير أنها مُوصّل جيد للإحباط، فالواقع يخسر دائما فى أى مقارنة مع الخيال، وهكذا رضيتُ ببضع سفريات تقل بكثير عما كنتُ أستهدفه، أقتنص منها قصصا مُكررة توحى بأننى لم أترك بقعة فى العالم دون زيارة! ومع الوقت أيضا رضيتُ بانتشار محدود فى محيطى الضيق، بعد أن فقدت الكتابة قُدرتها على تصنيع الشهرة، تدريجيا أقنعتُ نفسى بأن الشهرة نفسها محض وهم، ورضيتُ بمتعة نشر بضعة كتب، والفرح بردود أفعال قليلة، لقرّاء نادرين لكنهم كافون لمنحى شعورا بجدوى ما أفعل، حتى لو رأى كثير من المحيطين بى أن رهانى خاسر، وأن ما أفعله لا يُسمن ولا يُغنى من جوع، عموما لم أنم يوما جائعا، وحققتُ لأسرتى الصغيرة بعض الضمانات وفقا لقدراتى التى قد تبدو متواضعة، مقارنة بآخرين حصدوا المناصب والأموال. رأيتُ أن ما تحقّق كاف طالما احتفظتُ باحترامى لذاتي.. لكن الاحترام نسبي، وقد يرى آخرون أنه حجة العاجز للوصول إلى قناعة مُزيّفة!
أقرّ وأعترف بأننى استمتعتُ بحياتي، حتى مع تحقيق فُتات أهداف ظلّت بقيتها محض أحلام، لكن المحصّلة النهائية تقف على حافة الرضا، إما عن اقتناع حقيقي، أو من باب خداع النفس هربا من دوائر الإحباط!
أيام زاهى حواس
الثلاثاء:
أخيرا تسلّمتُ الكتاب. إنه واحد من كُتب قليلة أضعها على قوائم ترقّب الوصول، انتظارا لقراءتها بشغف. هذا العام يمر ربع قرن على بداية معرفتى بمؤلفه. رحلة طويلة بدأتْ بالعمل ثم تحولتْ إلى صداقة وثيقة، رغم اضطرابات شابتْها لفترات مُتقطّعة، عاصرتُ خلالها الكثير مما ورد فى كتاب» الحارس.. أيام زاهى حواس»، لكن قراءة الأحداث تمنحها مزيدا من المتعة، كما تُعيد ذكريات قديمة، بعضها من وجهة نظر مغايرة، لوقائع وقفنا خلالها فى منطقتين متناقضتين، بحكم كونه مسئولا وبوصفى صحفيا يميل تلقائيا للمعارضة البنّاءة.
الكتاب يقدم للقارئ وجبة متكاملة، لأنه لا يتضمن فقط لمحات خاطفة من مسيرة ثرية للدكتور حواس، بل يُلقى الضوء سريعا على عصور مختلفة، كما يمنح الشباب درسا مهما، خاصة عند حديث» الحارس» عن مرحلة بداياته، التى حاول خلالها الهروب من العمل بالآثار بوسائل عديدة! لكن القدر أفسد كل محاولاته، ولو لم يحدث ذلك لخسرنا عالما حلّقت شهرته عالميا.
حاول العمل فى الفن والسياحة والخارجية، وفشلتْ مساعيه فى كل مرة لحُسن الحظ! وهكذا مارس العمل فى الآثار بإيقاع روتيني، يُدهش من عرفوه فى مراحل تالية من عمره عاشقا للتاريخ والحضارة المصرية، لكن الحب من أول نظرة قادر على صناعة المعجزات. حدث ذلك ظهيرة يوم خميس، حينما مضى دون حماس إلى مقبرة فى منطقة كوم أبوبللو الأثرية، وبدأ تنظيف تمثال تم العثور عليه، اتضحت التفاصيل تدريجيا، ليكتشف أن التمثال يجمع ربات الجمال فى ثلاث حضارات هن أفروديت وحاتحور وفينوس، وفجأة وجد الأثرى الشاب نفسه يردد:» لقد عثرتُ على حبي»!
أعوام من الإنجازات يصعب جمعها فى مجلد، كما أن تلخيصها فى سطور أمر مستحيل، لكن الإشارات الخاطفة قادرة على فتح شهية القرّاء، خاصة عندما يكشف العالم الكبير بعض ما أخفته الكواليس، مثل مكالمة تلقاها من الرئيس الراحل مبارك، سأله فيها عن تفاصيل شكوى ضده من الرئيس الفرنسي، وقصة الأحداث العجيبة التى واكبت إجراء المسح بالأشعة لمومياء توت عنخ آمون، ومواجهته مع النائب الحديدى الذى حاول إقناع البرلمان فى 2010 بعدم تجريم تجارة الآثار! وتفاصيل ما تعرضت له ثروتنا الحضارية خلال ثورتى 25 يناير و30 يونيو..
القراءة تجعلنى أستدعى العديد من الذكريات لأكتشف أنه حتى كتاب الدكتور حواس يتآمر ضدى ويُذكّرنى بأن العُمر يمضى لحد التآكل!
«خليكوا شاهدين»
الأربعاء:
البرد يُهاجم بضراوة، تتزايد عندما يتحدّ فصل الشتاء مع خريف المشاعر. الأمر لا يعنينى بالتأكيد، فلا تزال أحاسيسى تعيش ربيعا متجددا! كل ما فى الأمر أن المجاز السابق تسلّل إلى أفكارى مع انسياب اللحن الشجى من مكان ما بالخارج.
الشوارع الخالية تقريبا جعلتْه واضحا، واعتمدتُ على ذاكرتى فى استكمال ما يفوتنى من كلمات الأغنية.» خليكوا شاهدين على حبايبنا..
بيدوروا عاللى يتعبنا خليكوا شاهدين». شكوى مُرّة من الشاعر سيد مرسى حوّلتها نغمات المبدع الكبير محمد سلطان إلى نزيف لا يتوقف:» جرحونا الأحباب جرحونا..
ورضينا بجرحنا وفاتونا.. ولا منهم عايزين يداوونا.. ولا خدْنا م الحب نصيبنا». مرثية لقصة حب تذبل بفعل الغدر، تنضم إلى قوائم ممتدة من البكائيات على الأطلال، التى سيطرت على تراثنا الغنائى العربى المُرهق بالهجر والفراق. الأغنية تكبرنى بثلاث سنوات، والعاشق الذى استدعى الأغنية فى مثل سنى غالبا، فلا أعتقد أن شابا يُمكن أن يستحضرها، بعد أن تغيّرت لغة الحب فى هذا الزمان. أتعجب من عبقرية الملحن الذى مزج الشجن بإيقاع راقص يبعث على تفاؤل، يُجهضه الخجل من حزن تُفجّره الحروف.
أعترف أننى اكتشفت محمد سلطان متأخرا، وزاحم فى قلبى حبى لبليغ حمدي، بعد أن اكتشفتُ قدرته على التلاعب بمشاعري. تُواصل فايزة أحمد:» هنستنى ونستنى لحد ما يسألوا عنا؟ هنستنى ونستنى .. يا ريت العمر يستنى..
وبقالنا سنين فى الهوى دايبين.. ما احناش عارفين نرتاح مع مين.. وهنشكى لمين غير حبايبنا.. دول سايبينا». أشعر بالضيق من ضعف عاشق يبكى من لا يستحق، ويبدو كمتسوّل يستجدى التعاطف. أُحكم الغطاء حوْلى لأقاوم برْدا يغزو أطرافي، وأنام على أمل أن تكون الأحلام أكثر دفئا!!
إيهاب الحضري.. كاتب و صحفي مصري مدير تحرير أخبار اليوم المصرية