إيهاب الحضري
السبت:
تستند الخطابات على الحائط بدون ترتيب، أنهكها الانتظار داخل لوحة مُخصّصة فى الأصل لتثبيت أى إعلانات خاصة بشئون عمارتنا. اليوم فقط انتابتنى الرغبة فى تأمّلها. معظمها من بنوك مختلفة، بما يعنى أنها تضم إشعارات حساب.
بينها خطاب وحيد يبدو أقدم نسبيًا، من إحدى المدارس لولى أمر، غالبا يتضمن استدعاء يخص ابنه المشاغب.
الأظْرُف تكتسى بصبغة رسمية تمنحها مذاقا موحّدا، بعد أن كان كل منها قبل سنوات طويلة يتميّز بنكهة خاصة، يستمدّها من شكل الخط ونوعية الورق وطوابع تحمل روائح بلدان المرسلين.
لو كان للأوراق ذاكرة لبكتْ عصرا احتفى بها، واحتلتْ فيه كلمة «بوسطة» مكانة خاصة، لدى كثيرين انتظروا سماعها من ساعى البريد، ترقّبا لرسالة من شخص عزيز، اضطّرته الظروف أن يعيش غربة مؤقتة من أجل لُقمة العيش.
أنتبه إلى أن صناديق البريد اختفتْ من بناياتنا الحديثة. أصبحتْ نادرة لا أصادفها إلا كل زيارة لبيت العائلة، لكنها تعانى من الإهمال ويغطّيها التراب، وربما ضاعت مفاتيحها دون أن يلاحظ أحد.
أشعر بالإشفاق عليها، فقد صادقتُها لسنوات طويلة، وكثيرا ما شعرتُ بالسعادة كلما رأيتُ خطابا حلّ ضيفا عليها.
فى ثمانينيات القرن الماضى عشتُ المرحلة الثالثة من علاقتى بالخطابات، هواية المراسلة تنتشر بصورة مُبالغ فيها، وخصصتْ لها المجلات أبوابا اجتذبتْ أبناء جيلى، كما تأسّستْ منظمات أوروبية للترويج لها.
وقتها انطلقتْ تحذيرات معتادة من استهداف غربى مُمنهج للشباب العربى. تجاهلتُ المؤامرة وانطلقتُ أبحث عن أصدقاء من كل أنحاء العالم، أخاطبهم عادة بإنجليزية ركيكة، لكنها كافية لتوصيل المعانى، وكان طبيعيا أن تلتهم طوابع البريد الجزء الأكبر من مصروفى، بعد أن طافت رسائلى القارات كلها.
ارتباطنا بالخطابات لم ينشأ من فراغ، فجيلنا عاش فى طفولته مرحلة الهجرات المتصاعدة إلى الدول العربية، وكانت هى الوسيلة الوحيدة للتواصل عن بُعد. التليفون الأرضى لم يكُن منتشرا، والهواتف الذكية كانت فى علم الغيب، لهذا عاش البريد فترة تألّقه، أما فاكهة التواصل فتمثّلت فى شريط كاسيت قادم من بعيد، يحمل مشاعر صادقة تتناقلها أصواتنا، ونختتمه عادة بأغنية تشبه النشيد الوطنى للمُغتربين، هى» يا حبايبى يا غايبين» لفريد الأطرش، تمنح الأحاسيس دفئا يفوق قدرة الكلمات، رغم أن الأخيرة كانت بدورها موصّلة جيدة للحنين.
سنة أولى جوابات
كنتُ فى الرابعة من عمرى، عندما تفتّح وعيى على لهفة والديّ مع وصول أية رسالة جديدة. على بعد آلاف الكيلومترات من مصر، عشتُ طفولتى الأولى فى الجزائر.
اعتقدتُ وقتها أن الخطاب يبوح بأسرار من أرسله حتى لو خلا من الكلمات. من هنا تحديدا توصلتُ إلى القرار المهم، وأخذتُ أبعث خطابا يوميا لابنة الجيران التى تصغرنى بشهور. لم أكن أكتب ولا هى تعرف القراءة، لكن فى بيتنا عشرات الخطابات سابقة التجهيز وردتْ من جدى، أختار واحدا منها يوميا وأصعد للطابق الأعلى من البناية، وأُمرّر المظروف من تحت باب شقتها، كعادة سعاة البريد فى الجزائر.
فوجئتْ أمها بسيْل الرسائل التى تصلهم وبها كل أسرار أسرتى. بعد مراقبة دقيقة حدّدت السيدة الموعد اليومى الذى أتقمص فيه شخصية البوسطجى، وترصّدتنى خلف باب شقّتهم. دسستُ المظروف كعادتى وفوجئتُ بالباب ينفتح فانطلقتُ هاربا. جمّعت الجارة الخطابات وأعادتها لوالدتى، وتعلمتُ أنا الدرس جيدا..
اعترفتُ لصديقتى الصغيرة بأحاسيسى شفويا، كى لا يتم ضبطى من جديد، متلبّسا بإفشاء أسرار عائلتى!
كوارث مُنتهية الصلاحية!
أعترف بالدوْر المُهم للصُدفة فى العديد من مسارات حياتنا، لكنها بالتأكيد ليست المسئولة هذه المرة عن اهتمامى المفاجئ بالخطابات المهجورة فى مدخل عمارتنا، ولا حنينى لذلك الزمان الذى ارتبطتُ فيه بمحتويات المظاريف المُغلقة. الموضوع يشغلنى منذ عدة أيام سابقة. تحديدا عندما شاركتُ فى ندوة بمعرض الكتاب عن» البوسطجى». تلك الرواية القصيرة التى كتبها المبدع الكبير يحيى حقى فى ثلاثينيات القرن الماضى، وتحوّلت إلى فيلم عام 1968. يبدو العملان فى عصرنا وكأنهما يرصدان تاريخا سحيقا، بعد أن انقرض ساعى البريد تقريبا، وتراجعت القيمة المعنوية للخطابات لأدنى مُعدّلاتها، لدرجة أن الجيل الحالى قد لا يستوعب عُقدة الرواية والفيلم.
تسبّب خطأ البوسطجى الفضولى فى مقْتل فتاة، لأنه أوقف انسياب الخطابات بينها وبين حبيبها، فانقطعت المعلومات نهائيا، ولم يتمكن الحبيب من التدخل لإنقاذها من فضيحة تسبّب فيها. لم تعرف أن عنوانه تغيّر لأن رسالته لم تصلها، لهذا لم يتمكن من استلام رسالتها «خليل.. الحقني». فى حياتنا المعاصرة يُمكن تخطى هذه العقبة برسالة مجانية على «واتس آب»، وقبل سنوات كان يمكن لرسالة نصية ببضعة قروش أن تمنع جريمة الشرف التى انتهى بها الفيلم. الأمر نفسه يمتد إلى العديد من الأعمال الفنية القديمة، التى صدّرت لنا ساعات من الكآبة، لأن التواصل بين العاشقين انقطع نتيجة سبب ما، يبدو شديد التفاهة فى عصرنا، وهو ما يجعل الكثير من القصص غير قابلة لإعادة طرحها فى زمننا، إلا بعد ابتكار مشكلات أخرى، يحتاج تصاعدها إلى حل درامى مغاير، قد يتمثّل فى إصابة الإنترنت بالشلل المؤقت، أو معاناة منصات التواصل الاجتماعى من سكتة إلكترونية تمتد عدة أيام، أما الخطابات وكوارثها فأصبحت خارج نطاق الخدمة!
فى سياق كهذا، يتحول واقع عشناه إلى تاريخ، وتُصبح هواية جمع الطوابع ماضيا والخطابات ذكرى. هل هو زمن يُلملم أوراقه، أم أننا جيل يحاول التعايش مع الواقع عبر نقل ذكرياته إلى منصات التواصل؟ مجرد نظرة عابرة للمنشورات الإلكترونية تؤكد أن الفجوة بين الأجيال واسعة، يكتب الكبار على «فيس بوك» بأسلوب الخطابات التقليدية الدسمة، بينما يتعامل الصغار بكلمات تشبه ركاكة الوجبات سريعة التجهيز!
غرام «الدباديب»
الاثنين:
تتوالى منشورات التهانى بعيد الحب. ذلك العيد القديم الذى جذب اهتمامنا فى الأعوام الأخيرة فقط، ربما بفعل آلة دعائية قوية تسعى باحترافية لتسليع كل شىء، وتلتهم سنويا ملايين الدولارات عالميا، مقابل هدايا تتفاوت حسب ثراء أصحابها.
لا أعرف تحديدا نوعية وقيمة تلك التى يتبادلها المليونيرات، وأتابع سطوة «الدباديب» على «حبّيبة» الطبقة المتوسطة، رغم أن الدب حسبما سمعتُ يهجر حبيبته بعد أسابيع، تاركا لها أبناء العشق العابر لترعاهم! ربما أراد مُبتكر هذه الهدية أن يُرسل تحذيرا ضمنيا للعشاق، من أن معظم العلاقات أصبحت مؤقتة.
الكثيرون لم يفهموا التحذير، لهذا عانوا من نتائجه واقعيا، فالغرام بدوره أصبح مثل الوجبات السريعة ذات المذاق الحار، ممتع رغم ما يتسم به من لذوعة لكنه لا يُشبع صاحبه، وسرعان ما يبحث بعدها عن طعام آخر يسدّ جوع عاطفته.
استخدام ضمير المُذكّر لا يعنى استئثار الرجال بترف لا يدّعونه وتهمة لا ينكرونها، إنها فقط اللغة ذات ملامح ذكورية غير أن دلالاتها تمتد إلى الجنسين. أذكر نُكتة تم تداولها يوم العيد، عن فتاة دخلت إلى محل هدايا وسألت العامل: «عندك كروت عليها عبارة.. انت حبى الوحيد».
أكد لها أن طلبها موجود، وعلى الفور اشترت عشرين بطاقة!!
شاب خبيث هو من ابتدع هذه النُكتة، وغالبا ستتداولها الفتيات بعد تغيير جنس المشترى. لكنى أعتقد أن هذا لا يعنى بالضرورة أن هناك استهتارا بقيمة الحب، فمن الممكن تبريره بأن قلوب البعض أصبحت «مساكن شعبية» لا تشعر بالدفء إذا احتلها ساكن واحد!
هلاوس عاطفية
الثلاثاء:
من الإذاعة ينبعث صوت الست، بعد مقدمة موسيقية مليئة بالشجن، تُجهّز أرواح المستمعين لاجترار أحزانهم: «أروح لمين؟.. وأقول يا مين ينصفنى منك؟ ماهو انت فرحى.. وإنت جرحى.. وكله منك»!! حالة عاطفية تحتاج إلى تحليل نفسى، لأنها تُعبّر عن نزعة مازوخية، تجعل صاحبها يستعذب الألم. أظنّ أنه موروث عربى بحت، امتد عبر قرون من قصص الحب المُجهضة بالفراق..
أو الزواج!
ظل عنترة بن شداد يتغزل بعبلة وعندما تحقق حلمه وارتبط بها انقطع تيار الشعر..
أو هكذا أزعم أنا.
مات قيس بن الملوح مجنونا بليلى التى منعته التقاليد من الارتباط بها، بينما كان قيس بن ذريح أسعد حظا، فقد أحبّ لبنى وكتب لها قصائد خالدة، ومنح القدر حبّه -على غير العادة- نهاية سعيدة، تزوّج حبيبته وتوقفت قصائده لأنه اقتنع أن الفترة التالية تتطلّب رجل أفعال لا أقوال!
ثم بدأت أمه «شُغل الحموات» ووقع الطلاق، وعلى الفور بدأ تعبئة مشاعره فى قصائد حنين للحبيبة المُطلّقة!
يمكن ترجمتها بلغة أكثر عصرية بعبارات: «وكان مُنايا يدوم هنايا.. ما دامش ليه؟ لوّعنى حبك واليوم فى بعدك بيدوم سنين»!!
لن أدعى أن هذا «التلبّك العاطفى» قاصر علينا، فكثير من الأدباء على مستوى العالم عاشوا مشاعر مُضطربة تنمّ عن خلل سلوكى حقيقى، وهو توصيف علمىّ رجّحه متخصصون أستراليون مؤخرا، الأمر الذى يجعل توصيف الحب أمرا صعبا، هناك من اعتبره مصدرا أبديا للسعادة، بينما رأى آخرون أنه حالة عابرة من المُتعة يعقبها ألم مزمن..
أو مؤقت، وأكد نزار قبانى أن الحب فى الأرض بعض من تخيُلنا، لو لم نجده عليها لاخترعناه، وشخصيا أعتقد أنه حالة من الوجع اللذيذ، يعيش خلالها العاشق حيرته: «ما بين ماضي ماهوش راضى ينسّيني وينساني..
وبين حاضر ماهوش قادر يسلينى فى حرمانى».. انشغلنا بالتشخيص، بينما خرج التُجار مستفيدين من بيع الهدايا وقت تأجج المشاعر، وتسويق المناديل فى لحظات البكاء على الأطلال!
إيهاب الحضري: مدير نشر “الأخبار” المصرية