نزار بولحية
لن يختلف اثنان في أنها الحليف الأكبر لموسكو في الشمال الافريقي. وفي الظرف الحالي لن يعني ذلك أنه سيكون مطلوبا أو منتظرا من الجزائر أن تدعم الروس في حربهم مع كييف، لكن ما لفت انتباه الكثيرين هو أنها اختارت ومع بداية الحرب الروسية أن تطرق باب البراغماتية بشكل مخالف للتوقعات.
ففيما لم تصدر أي بيان تضامني مع حليفها العسكري الأول، ولم تؤيد اعترافه باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك عن دولة أوكرانيا، أسوة بما فعله النظام السوري مثلا، أو تعارض فرض «عقوبات غير قانونية تضر بمصالحه وحقوقه المشروعة» مثلما عبرت عن ذلك الصين، فانها قدمت بالمقابل عرضا تجاريا في الظاهر لا يخلو في العمق من رسائل طمأنة ودعم سياسي قوي وصريح للجيران الأوروبيين، في مواجهتهم مع الروس. لقد حصل ذلك من خلال تصريح أدلى به الأحد الماضي المدير التنفيذي لشركة سونطراك الحكومية، وهي التي تشرف على قطاع الغاز والبترول في الجزائر، لصحيفة «ليبريتي» المحلية الناطقة بالفرنسية وقال فيه، إن بلاده مستعدة لتزويد أوروبا بكميات إضافية من الغاز عبر الأنبوب الرابط بين الجزائر وإيطاليا، والعابر لتونس في حال تقلصت الصادرات الروسية إليها بسبب الحرب الأخيرة.
لكن ما الذي دفع الجزائريين لأن يعلنوا عن تلك الخطوة؟ هل أرادوا اغتنام الفرصة والاستفادة من أزمة الطاقة التي قد تواجهها القارة العجوز، ليضاعفوا مكاسبهم وإيراداتهم المالية؟ أم أنهم كانوا يتطلعون من وراء ذلك لما هو أبعد من الكسب المادي، وهو إعادة ترتيب تحالفاتهم على ضوء النتائج التي قد تفضي إليها الحرب الروسية؟ إن ما قاله مسؤول أمريكي بارز الاثنين الماضي لرويتز، من أن «استراتيجيتنا هي جعل الاقتصاد الروسي يتراجع، ما دام بوتين يواصل حملته العسكرية في أوكرانيا» لم يكن كشفا لسر من الأسرار العسكرية الخطيرة، فالعالم كله كان يعرف منذ الساعات الأولى للعملية الروسية في أوكرانيا، أن الغرب كان سيستخدم ذلك الأسلوب، ولم يكن ليجازف إلا في حالات قصوى بالدخول في مواجهة عسكرية مع الدب الروسي. لكن السؤال الذي ظل عالقا هو، ما الذي سيحدث إن حصل وتراجع اقتصاد الروس؟ ألن يجرف معه اقتصادات أخرى إلى القاع نفسه؟ إن مجرد الخوف من نشوب حرب روسية أوكرانية، جعل أسعار برميل النفط تقفز قبل أسابيع إلى أعلى مستوى لها منذ سبعة أعوام. أما الآن وقد صارت تلك الحرب حقيقة، فإن أسعار سلع كالغاز والقمح بالخصوص ستحلق بدورها عاليا في السماء. وهذا سيشكل ضغطا كبيرا على اقتصاديات عدة دول في العالم، ولن يكون المغاربيون مثل غيرهم بمنأى عن تداعيات ذلك، غير أن هؤلاء لا يقفون على ما يبدو على الخط نفسه، فمع أنهم بدؤوا، وبعد مضي ما يقرب من أسبوع من بدء حرب تدور بعيدا عنهم آلاف الكيلومترات، بتحسس مقدار الهشاشة والضعف في اقتصاداتهم، إلا أن قدرتهم على تحمل آثارها وانعكاساتها المحتملة عليهم تبدو متفاوتة ومختلفة، حتى إن أجمعوا كلهم تقريبا على أنهم ليسوا قلقين من احتمال ارتفاع سعر القمح الأوكراني أو الروسي، الذي يتزودون به، أو من اضطراب وانقطاع وصوله إليهم، غير أن علاقاتهم بروسيا وأوكرانيا تتقاطع بالضرورة مع علاقاتهم بأكبر شريك تجاري واقتصادي وحتى سياسي لهم وهو الاتحاد الأوروبي. وما يحصل الآن أن ذلك الاتحاد يضخ أموالا ضخمة وعتادا مهولا، وربما حتى مقاتلين إلى أوكرانيا، والمفارقة التي تحدثت عنها صحيفة «نيويورك تايمز» الاثنين الماضي، هي أن «الدول الأوروبية التي قاومت لسنوات استقبال لاجئين فروا من الحروب في سوريا والعراق وأفغانستان، خلال العقد الماضي تفتح أبوابها الآن أمام الأوكرانيين وترحب بهم». قد يكون ذلك مفهوما إن نظرنا للأمر بلغة المصالح، لكن هل سيتذكر الأوروبيون في زحمة انشغالهم وتركيزهم على الرد على ما يعتبرونه تهديدا لخاصرتهم الشرقية، أن هناك مخاطر أخرى قد يتسبب بها الهجوم الروسي على الجارة الأوكرانية، وقد تصدر من الضفة الجنوبية للمتوسط؟
فرض الأوروبيون عقوبات على روسيا ولم يفكروا بتبعات ذلك على جيرانهم في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط
يومان قبل الاجتياح الروسي فرض الاتحاد الأوروبي حزمة عقوبات على موسكو رداً على اعترافها بمنطقتين انفصاليتين شرق أوكرانيا، وإرسالها قوات إليهما. وعندما خرج وزير خارجية الاتحاد جوزيف بوريل ليشرح للصحافيين أبعاد تلك العقوبات، لم يتردد في القول إنها «ستكون موجعة جدا لروسيا» مقرا في الوقت ذاته بأن «العقوبات ليست لها تأثيرات خارقة، لكنها تسبب أضرارا اقتصادية وتوجع المتضررين منها» قبل أن يشير إلى أن الدول الأعضاء في الاتحاد «قررت الاحتفاظ بذخائر أخرى.. للرد على تحركات روسيا، لأن الأمر لم ينته». وبالفعل فلم ينته بعدها التدخل الروسي ولم تتوقف العقوبات الأوروبية والغربية ضد الروس، فبعد الحزمة الأولى والثانية، وعد وزير الخارجية الفرنسي الاثنين الماضي بحزمة ثالثة من العقوبات في غضون يومين، لكن السؤال هو من عاقب الأوروبيون في الواقع؟ مبدئيا كان هدفهم روسيا، غير أنه سيكون من الصعب جدا أن يكونوا قد فكروا بأي تبعات محتملة لقراراتهم على دول أخرى، لا ناقة لها ولا جمل بالصراع الجاري الآن؟ إنهم لا يأبهون إن كانوا يعاقبون بذلك أم لا، وبطريقة ما جيرانهم في الضفة الجنوبية للمتوسط، فآخر ما سيشغلهم هو ما إذا كانت هناك انعكاسات سلبية لقراراتهم على أولئك الجيران، الذين لطالما نظروا إليهم رغم كل الشعارات والوعود والاتفاقات، على أنهم مصدر إزعاج لهم لا أكثر ولا أقل. ولأن الموازين مختلة بالكامل، فلا تجد الدول الاوروبية التي تربطها شراكة وثيقة بالمنطقة المغاربية حرجا، في أن تفرض عقوبات على دولة أخرى هي روسيا من دون أن تنسق، أو في أدنى الأحوال تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن ينجر عن ذلك من تأثيرات وتداعيات سلبية على تلك المنطقة، فهي تعلم وبلا شك أنها لا تخاطب كتلة واحدة، بل دولا مفصولة عن بعضها بعضا، وحتى متناحرة في ما بينها، كما أنها تدرك جيدا أن خيارات تلك الدول ضيقة ومحدودة للغاية، لكن كيف سيكون المشهد في حال ما إذا تكبد الرئيس الروسي هزيمة نكراء في أوكرانيا؟ هل ستترسخ الهيمنة الأوروبية هناك أكثر؟ وما الذي سيحصل إن غادر الروس مربعهم الأخير في ليبيا والجزائر؟ لا شك في أن الآثار التي قد تنجم عن ذلك ستكون واسعة المدى. غير أن الأهم في تلك الحالة هو هل سيؤدي ذلك إلى عودة الدفء إلى العلاقات الجزائرية المغربية، ثم إلى تسوية نهائية وشاملة للمعضلة الصحراوية؟ ليس عبثا أن البيان المغربي الذي صدر السبت الماضي حول الحرب الروسية، أعاد التأكيد على أن المملكة «تجدد دعمها للوحدة الترابية والوطنية لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة». ولعل الروح البراغماتية التي أبداها الجزائريون بعرضهم تصدير كميات إضافية من الغاز إلى أوروبا، قد تسمح بتحريك الأمور في اتجاه تسوية ما، متى تأكد بالطبع وبشكل قطعي تعثر بوتين وسقوطه في الوحل الأوكراني.
كاتب وصحافي من تونس