نزار بولحية
قد لا يمسكون بكل المفاتيح لكنهم يدركون جيدا أنه لن يستخدم أي واحد منها من دون علمهم، وربما يستطيع الإسرائيليون الآن أن يفركوا أيديهم من الغبطة. فبغض النظر عما إذا كانوا قد حققوا أم لا، كل أهدافهم من وراء العدوان الأخير على غزة، فإنهم كسبوا، على الأقل شيئا ربما يحجب بعض خيباتهم، وهو دق إسفين جديد في العلاقات العربية العربية عموما، وفي علاقة الغريمين المغاربيين أي المغرب والجزائر بوجه خاص.
بالنسبة للإسرائيليين، النزاع حول الصحراء ظل بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، ولأجل ذلك ظلوا حريصين مثل عدة أطراف أخرى على استدامته واستمراره
فرغم أن كلا الجارتين لم تتخلفا عن إدانة ما حصل في غزة، وأكدتا في بيانين منفصلين عن دعمهما لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، إلا أن تركيز البعض على وجود علاقات دبلوماسية بين الرباط وتل أبيب حرف الموضوع الأصلي تماما، وحوله إلى مزايدة شكلية حول من منهما يدعم الفلسطينيين أكثر من الآخر؟ فهل هي الرباط بوصفها ترأس لجنة القدس؟ أم الجزائر على اعتبارها تتزعم جبهة مناهضة التطبيع في المغرب العربي؟
ومن الواضح أن إثارة مثل ذلك الجدل الموهوم والمغلوط كانت مطلوبة، فلم يكن خافيا أبداً أن تصوير ما يظهر انقساما في المواقف بينهما، ولو بالإيهام بأنهما قد صارا على طرفي نقيض في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أمر دأب الإسرائيليون، ومن قبل الإعلان أواخر عام 2020 عن إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهم وبين المغرب، على العمل الحثيث على تحقيقه، لكن ما الذي يهمهم في الأخير وبالدرجة الأولى من ذلك الجزء من العالم؟ هل هو أن يوسعوا نطاق نفوذهم ودائرة علاقاتهم هناك؟ أم أن يبيعوا أسلحتهم ويروجوا سلعهم ومنتجاتهم؟ أم أن يبقوا نيران أكبر نزاع إقليمي في الشمال الافريقي مضطرمة ومشتعلة، بشكل يحول دون تحقيق أي تقارب، أو وحدة، أو اندماج فعلي بين أقطاره؟ إن واحدة من الأوهام العديدة التي ربما تدور في أذهان البعض هي أنهم جاؤوا للوقوف مع طرف على حساب الآخر، فحتى إن قالوا منتصف يونيو الماضي وعلى لسان وزيرة داخليتهم، خلال زيارتها الأخيرة للمغرب، إنهم يؤكدون دعمهم لسيادتها على الصحراء، فليس ثابتا بعد أنهم يفضلون خرق قاعدة تعودوا اتباعها في تعاملهم مع النزاعات والأزمات العربية العربية وهي، أن يتركوا منفذا ولو صغيرا، أو محدودا للمناورة، وأن لا يسرعوا أبداً إلى وضع كل بيضهم في سلة واحدة، لكن هل كانوا قبلها هم من رعى البعبع، الذي باتوا الآن يحذرون منه؟ ليس جديدا عليهم ولا مستغربا منهم أن يفعلوا ذلك، غير أن كل ما ظل يقدم عادة حول نشأة جبهة البوليساريو هو أن العقيد الليبي الراحل القذافي، كان أول من موّل وسلح التنظيم، الذي ظهر في البداية كحركة تناهض الاحتلال الإسباني للصحراء، قبل أن يحرف بوصلته في منتصف السبعينيات نحو المغرب، ورغم أنه لم تظهر إلى الآن أي علامات، أو بصمات تدل على أن تل أبيب كانت وراء تلك الولادة، فإن ذلك لن يعني بالضرورة أنها كانت غائبة تماما في باقي المراحل. وبالنسبة للإسرائيليين، فإن النزاع حول الصحراء ظل بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا، ولأجل ذلك فإنهم كانوا حريصين جدا مثل عدة أطراف أخرى على استدامته واستمراره، فالاحتكاك والتصادم والصراع بين أكبر بلدين مغاربيين وبقاء علاقتهما، إما مقطوعة، أو مجمدة، أو منخفضة لأدنى حد في أفضل الأحوال كان ولا يزال هدفا استراتيجيا بالغ الأهمية بالنسبة لمشاريعهم ومخططاتهم في الشمال الافريقي. ولا شك في أن معرفتهم بكل المعطيات واطلاعهم بشكل جيد ودقيق على كل ما يتعلق بالمنطقة، جعلهم يدركون منذ وقت مبكر أن تحقيق ذلك الهدف يعني الحفاظ على ورقة البوليساريو، لأنه في غيابها ستصبح احتمالات التقارب، أو الاتفاق بين الجارتين المغاربيتين على حل، أو تسوية ما للمشكلة الصحراوية أعلى بكثير من أي وقت سابق. لكن ما الذي فعله الإسرائيليون لأجل ذلك؟ هل أعطوا مثلا بعض الإشارات لقوى إقليمية ودولية مهتمة بالملف الصحراوي قد تدل على نواياهم وتوجهاتهم؟ ليس مستبعدا أن يكونوا قد مارسوا بعض الضغط على حلفائهم في هذا الاتجاه أو ذاك، لكن وفي تحقيق بثته القناة الإسرائيلية «أي 24 نيوز» في فبراير الماضي، لم تتورع عن وصف جبهة البوليساريو بأنها «حركة انفصالية هددت في نوفمبر 2021 المغرب بتنفيذ هجمات على أرضه بدعم من الجزائر»، مضيفة أنها أي الجبهة «تقوم بتحركات جهادية في منطقة الساحل»، ومقدمة ما قالت عنه، إنه وثائق حصرية تدل على أن «الجبهة تضم إرهابيين من إيران وحزب الله». وبالطبع لم يكن ذلك بالأمر العفوي أبدا، فقد كان مثل ذلك الانعطاف الحاد في الموقف الإسرائيلي غير الرسمي من التنظيم، مفهوما إلى حد كبير في سياق حرب المواقع، التي احتدمت في المنطقة بين الإسرائيليين والإيرانيين. والسؤال الذي أثير ساعتها وبقوة هو، هل كان ذلك مؤشرا على أن تل أبيب باتت تعتبر البوليساريو عدوا لها، وأنها صارت مستعدة للقيام بعمل ما ضده؟ حتى إن تردد أنها قامت في وقت سابق بتقديم أسلحة أو تقنيات عسكرية متطورة للمغرب مكنته من القيام بعدة عمليات نوعية، خصوصا بعد إعلان الجبهة في نوفمبر 2020 أنها صارت في حل من الاتفاق الأممي لوقف إطلاق النار في الصحراء، بعد التدخل المغربي في الكركرات، فإن ذلك لم يكن يعني أبدا أنها كانت ترغب في الدخول بشكل مباشر في النزاع، أو أنها باتت تعتبر أن الجبهة يمكن أن تشكل لها تهديدا، أو خطرا لا يمكن الاستهانة به أو تجاهله. ولا شك في أن الجانب المغربي كان يدرك ذلك جيدا، ولأجل ذلك فهو لم يرغب أيضا في أن يفسح المجال أمام الإسرائيليين لأن يظهروا وكأنهم طرف مباشر في الحرب الطويلة التي يخوضها لأجل تكريس ما يراه حقه المشروع في وحدة أراضيه. وما جعله يبدو أكثر حساسية للأمر هو أنه كان يعلم أن الإسرائيليين ظلوا وعلى مدى أكثر من أربعين عاما من عمر النزاع على الصحراء يتنقلون بشكل زئبقي وسريع من جانب إلى آخر، ويحاولون قدر ما أمكنهم أن يستثمروا في الوضع الذي تسبب به ذلك المشكل لتوطيد أقدامهم في المنطقة، وتحقيق غاياتهم ومشاريعهم قبل أي شيء آخر. ومن الواضح أن الرباط تعمل على الاستفادة وللحد الأقصى من علاقاتها مع تل أبيب، لحسم ما تراه نزاعا مفتعلا على الصحراء. لكن التعقيد الإضافي الذي حمله ذلك هو أن دخول الإسرائيليين على الخط، جعل من تحقيق انفراجة قريبة في علاقة الجارتين المغاربيتين يزداد صعوبة. ولعل الأمر بات يشبه بعض الشيء قصة البيضة والدجاجة، وأيهما تسبق الأخرى. فهل إن تطبيع العلاقات المغربية الجزائرية لن يتم إلا بقطع العلاقات المغربية الإسرائيلية؟ أم إن بقاء تلك العلاقات سوف يعني استمرار القطيعة بين الجارتين؟ في كل الأحوال لتل أبيب أكثر من مبرر الآن لان تغتبط من الوضع الحالي في الشمال الافريقي.
كاتب وصحافي من تونس