محمد محمد خطابي (*)
عرف ميناء مدينة الحسيمة في الأيام الأخيرة حركة غير عادية للمسافرين من أبناء وبنات جاليتنا المقيمين والمقيمات بالخارج كلّ حسب وجهته ،كان الاكتظاظ على غير العادة بأفواج من العائدين الى بلدان اقامتهم فى الديار الاوربية والقادمين منها الى الوطن الغالي الحبيب …ما فتئت السيارات تتوارد لتأخذ أماكنها فى مدرجات المواقف المخصّصة للمسافرين من وإلى . ..
الزمن أواخر أيام شهر أغسطس 2022 لقد تصادف هذا التاريخ مع قرب نهاية مواسم الصيف والعطل.. الحرارة لا تطاق تحت وهج أشعّة الشمس الملتهبة الحامية الوطيس..هناك مواقف خاصة للدخول الى الباخرة العملاقة التي ترسو على الميناء، وهناك مواقف مخصّصة للخروج منها..الناس فى حيرة من أمرهم الأطفال الصّغار يصرخون ..والآباء يهرولون نحو مكاتب الشرطة والجمارك لختم الجوازات وتنحية تسجيل السيارات الاجنبية من الحواسيب التي لا ترحم..يبدو ان الاجراءات تسير على خير ما يرام لدى رجال الشرطة ،ورجال الجمارك على حدّ سواء ،إنهم يقفون ثم يتحركون..يجولون ويصولون وينظرون نظرات دقيقة نحو هذا وذاك …وهم يرتدون أردية سميكة شبيهة بمعاطف رجال الاطفاء. ..يحمل بعضهم أدوات حديدية دقيقة لفسخ أجزاء وجهات السيارات التي يشكّون فى آمرها.. من لوالب وكمّاشات وملاقط ..السيارات مصطفّة امامهم وهم ينحنون على هذه ويتكئون على تلك ..وهناك من يعاين العجلات المطاطية والكراسي وواقيات التصادم الأمامية والخلفية..هذه العمليات قد تدوم دقائق معدودات، وقد تستغرق اوقاتاً طويلة مضنية .
مردّ هذه العمليات التفتيشبة الدقيقة الى التخوف من تهريب جميع انواع المحظورات والممنوعات من مخدرات وسلع مهربة او أسلحة خفيفة او مفرقعات ..الامور تبدو عادية وروتينية ..ولكنها تتم ّفى اجواء غير مريحة، فبعض رجال الجمارك فى بلادنا السعيدة لا يميلون الى الابتسام ابدا والقليل اليسير منهم يهديك ابتسامة محتشمة ..ويفوز رجال الشرطة بقصب السّبق فى هذا المجال فهم دائموا الابتسام ،وهذا شئ محمود ومريح وجميل يبعث الراحة النفسية والسكينة والهدوء في قلوب المسافرين الذين ما فتئوا ينتظرهم عذاب السفر وأتعاب ومشاقّ قطع المسافات الطويلة امام الطرق السيارة الاسفلتية القارية التي لا ترحم ولا تنتهي.
إنهم ينظرون الى المسافرين بنظرات ثاقبة صارمة ومريبة …افتحوا من فضلكم ابواب السيارات بما فيها مستودعات الحقائب… ينطلق التفتيش الدقيق على أحرّ من الجمر..الكاميرات الخفية لا تتوقف عن تصوير عمليات التفتيش التي تتمّ فى جوٍّ غير مريح نحو المواطنين وكأنهم فعلاً مهربون بالفعل او متواطئون فى التهريب ممّا يسبّب حرجاً مقلقاً لبعض المسافرين …تفضّل فكلّ شئ على ما يرام ..يقول الجمركي ويتقدم المواطن بسيارته نحو مدخل الباخرة وكأنه داخل الى غار مظلم ..فالأضواء فى المرآب العملاق خافتة وباهتة تكاد تكون مظلمة …..على ظهر المركب الاسباني العملاق تبدو الامور فى هذه التواريخ من العام وكأنها غير طبيعية ..ولن نذهب بعيداً فالمركب الذي غادر ميناء الحسيمة فى هذه التواريخ كان شبيهاً ببواخر الهجرات المنظمة وغير المنظمة التي كانت تتمّ خلال اندلاع الحروب أو عند ما تحطّ أوزارها..كان هذا المركب يبدو وكأنه تلك السفن التي تمخر بين الجزر المتناثرة في عباب المحيط الهندي الشاسع المترامي الاطراف..والتي تنهي الينا الاخبار انها غالباً ما تعاني من وعثاء السفر وسط هذه المياة المزبدة المتلاطمة وتنتهي بكوارث نظراً لحمولاتها التي تتجاوز ما يفوق طاقاتها الاستيعابية القانونية ..هكذا كانت تبدو حالة هذا المركب الاسباني غاصّاً بما لا يُعدّ ولا يُحصىَ من البشر من أطفال وشيوخ ونساء وشباب وصبايا ..من أجيال مختلفة متعاقبة ومن أعمار متفاوتة ومتباعدة ..كثير من المسافرين لابدّ انهم دفعوا الثمن القانوني للرحلة لم يجدوا المقاعد للجلوس فكانوا يستلقون ويتمدّدون فى كلّ مكان بالسفينة فى المقاهي وفى باحات الاستراحة والممرات و فى كل مكان بحيث يتعذر المشي بين الاجسام المُنهكة المستلقية على أرضية المركب الكبير…العاملون بالسفينة لا يقولون لهم شيئاً ،وكأنّ هذا التصرّف مباح ومسموح به ..ولا شكّ ان هذا المنظر يفسّر انّ السفينة ربما باعت أكبر قدر من التذاكر يفوق حمولاتها القانونية أيّ انها حملت ازيد ما تطيقه وتتحمله طاقاتها الاستيعابية ..كان ذلك المنظر يقطع نياط الأفئدة والقلوب، مخلوقات آدمية من جميع الأعمار مستلقية على أرضية السفينة فى أوضاع مزرية ومؤلمة مثيرة للشفقة والرحمة والالم والمرارة فى آن واحد..آهٍ على تلك الاجيال الصاعدة من المواطنين الذين يهاجرون ويقطعون البحار والقفار لضمان لقمة عيشهم اليومي..تاركين آباءهم وعوائلهم وأقاربهم وراء البحر .
يتبادر الى الذهن فى تلك الهنيهة وانت تنظر اليهم او تصغي لأحاديثهم ومحاوراتهم السؤال التالي المؤلم ..اي مستقبل ينتظر هؤلاء .؟.سواء فى بلدان مهاجرهم أو في بلدانهم الاصلية …انها مسألة عويصة حقا تعاني منها هجرة المغاربة الى مختلف اطراف المعمور .. انك تشعر في بعض الأحيان وكأنك حديث النزول من برج بابل الأسطوري الذي بلبل الله السنتهم بعد أن حاولوا رمي الشمس بالسّهام والنبال والاقواس…! آباء يتحدثون مع أبنائهم أو أبناء يتحدثوت الى آبائهم بلغات عديدة لا حصر لها فتسمع فى كل لحظة وحين لغو اللغات الهولاندية، والفلامانية، والفرنسية ،والاسبانية، والانجليزية والرّيفية وسواها ممّا لا نعرف مصدرها أوكنهها أوأصلها أو مواطنها ،أما دارجتنا المغربية فهي عندهم تنثال على ألسنتهم في ندرة وقلة وخصَاص .!
*كاتب من المغرب، عضوالاكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم، بوغوتا كولومبيا .