نزار بولحية
ربما التبس الأمر على البعض، وربما اعتقد آخرون أن السياسة كانت واجهة لصراع حضاري دفين بين الجارين المغاربيين، لكن على أي شيء تصارعا منذ أكثر من أربعة عقود بالضبط، هل على ملكية أراض، أم على كسب مواقع نفوذ؟ أم أنهما تنافسا على الاثنين معا؟
من تابع فصول المناورات العلنية والخفية التي جرت بينهما، والسباق المحموم الذي انخرطا فيه لكسب مزيد من الحلفاء والمؤيدين لمواقفهما في أكثر من عاصمة غربية وعالمية معروفة مثل، نيويورك وجنيف وباريس ومدريد وغيرها، أو حتى في أخرى قصية وشبه مجهولة في أدغال افريقيا، أو جزر الكاريبي، سيقول وعلى الفور بأن كل ذلك حدث لسبب واحد لا غير وهو،الصحراء التي تعتبرها المغرب جزء لا يتجزأ من أراضيها، فيما تدعم الجزائر مطالب البوليساريو بالأراضي الصحراوية.
لكن هل صار الملف الصحراوي بمثابة الشجرة التي تحجب غابة كثيفة من الخلافات العميقة والدفينة بينهما، قد تضرب جذورها الفكرية والثقافية في العمق وتوغل في القدم؟ أم أن كل ما يظهر على السطح من توترات وتصدعات في علاقاتهما، ومهما اختلفت أسماؤه، أو تعددت عناوينه، فإنها تعود في الأخير إلى جذر واحد فقط وهو، الصراع بين سياستين متناقضتين ومتعارضتين تماما؟ إن حكاية القمصان الجديدة للمنتخب الجزائري لكرة القدم، التي أنتجتها وعرضتها شركة «أديداس» أواخر الشهر الماضي، ثم وصفتها بأنها «مجموعة تليق بالأناقة الملكية مستوحاة من الثقافة الجزائرية العريقة والتصاميم المعمارية المميزة لقصر المشور في مدينة تلمسان» هي بعد الخلافات السابقة على أصل طبق الكسكسي وأغاني الراي، واحدة من العناصر التي أعادت هذه الأيام ذلك الجدل القديم الجديد إلى السطح. وحسبما قاله محام كلفته وزارة الثقافة المغربية، بتوجيه إنذار قضائي للممثل القانوني للشركة المذكورة، قصد مطالبتها بسحب تلك القمصان من السوق فإنها «استعملت أنماطا من التراث الثقافي المغربي «الزليج المغربي» في تصاميم خاصة بقمصان رياضية، مع نسبتها لبلد آخر- أي الجزائر-» وهو ما يشكل في رأيه «عملية استيلاء ثقافي، ومحاولة السطو على أحد أشكال التراث الثقافي المغربي التقليدي، واستخدامها خارج سياقها، ما يساهم في فقدان أو تشويه هوية وتاريخ هذه العناصر الثقافية» على حد تعبيره. لكن السؤال الذي يطرحه ذلك وبقوة هو، هل أن الأمر كان خارجا عن السياق؟ أم كان عملا إراديا مقصودا هدفه جرّ البلدين إلى افتعال نوع من الصدام والصراع الحضاري والثقافي الموهوم، رغم أنهما وكما يعلم الجميع يشتركان في اللغة والدين والثقافة والحضارة نفسها؟ وهل أنه ولتلك العوامل وغيرها، فإنه ومهما بلغ حجم الخلافات بينهما، فهي لن تخرج وفي كل الأحوال عن نطاق السياسة، بما تعنيه من تدبير وتخطيط لطبيعة العلاقات الرسمية بينهما؟
لقد بدأ الأمر باكرا، ففي السنة التي أعلن فيها عن استقلال الجزائر كان المغاربة يعملون على دعم استقلال آخر لم يكتمل بعد، سبق أن أعلنوه قبلها بست سنوات، ولأن هناك بعض المناطق التي بقيت في تلك الفترة، وحتى بعدها خارج سيطرتهم فقد كانت خطتهم تتطلب طول النفس. ولم يخف العاهل المغربي الراحل محمد الخامس ذلك حين قال في خطاب شهير في محاميد الغزلان في 1958 «سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لاسترجاع صحرائنا، وكل ما هو ثابت لمملكتنا بحكم التاريخ ورغبات السكان، وهكذا نحافظ على الأمانة التي أخذناها على أنفسنا بتأديتها كاملة». ومن الواضح أن تصورهم للطريقة التي سيسترجعون بها سيادتهم على أراضيهم، كان مبنيا على التدرج في مطالبة المستعمر بالجلاء عنها، غير أن الجزائريين الذين وافقوا وبنسبة عالية في الاستفتاء الذي أجري قبل ستين عاما على أن «تصبح الجزائر دولة مستقلة متعاونة مع فرنسا، حسب الشروط المقررة في تصريحات 19 مارس/ آذار 1962» كانوا يرون العكس ورفضوا أكثر من مرة أن يحصلوا على استقلالهم على مراحل، وأن يغادر الفرنسيون أراضيهم بالتقسيط. غير أن الشرخ الحقيقي بين الجارتين بدأ منذ النصف الأول من الخمسينيات، فقد قبل المغاربة في ذلك الوقت مبدأ التفاوض مع الفرنسيين على استقلال بلدهم، قبل أن تقبل باريس مبدأ استقلال الجزائر، وبذلك دقت فرنسا أكبر إسفين بين الجزائر التي أعلنت عن تمسكها بالمقاومة المسلحة للمحتل، والمغرب الذي اختار التفاوض والنضال السياسي للتحرر من الاستعمار، ما أدخلهما لاحقا في نفق مسدود، فكيف يتحرر المغرب، ولا يزال جزء مما يعتبره أراضيه خارج سيطرته، وخاضعا لما كانت تسمى وقتها الجزائر الفرنسية؟ لقد حاول بورقيبة الذي أدرك جيدا ما قد يؤول إليه ذلك، أن يفاوض الفرنسيين على الأراضي التي كان يرى أنها تونسية، رغم وعد الثوار الجزائريين له بأن تحل كل الإشكالات الحدودية بين تونس والجزائر بعد استقلال الأخيرة، لكنه اصطدم برفض ديغول القطعي للفكرة. ويبدو أن المغاربة الذين تلقوا تطمينات جزائرية مماثلة، لم يشكوا أبدا في حسن نوايا جيرانهم، وفي استعدادهم لتسوية الموضوع بشكل يحفظ مصالح الطرفين ويراعي الأواصر التي تجمعهما. غير أن الخلافات والمطالب الحدودية التي لم تحسم باكرا، كانت للأسف هي الوقود الذي أشعل أول مواجهة عسكرية بينهما وهي حرب الرمال، وكانت لاحقا في البقاء سببا مباشرا في تواصل النزاع بينهما، ولو بأشكال أخرى، ما رسخ حالة العداء والقطيعة والجفاء بين البلدين، على امتداد معظم الفترات خلال الأربعين عاما الماضية. لقد رفع الجزائريون شعار التمسك بالحدود الموروثة عن الاستعمار، أي تلك التي خطها المستعمر الفرنسي قبل انسحابه الرسمي من المنطقة، ولكن هل كان رسم الحدود عادلا ومنصفا بالنسبة الجميع؟ أم أنه كان أشبه بكرة اللهب التي ألقتها باريس عن قصد حتى تقسم وتفرق البلدين وتدخلهما في صراعات مفتوحة؟ ما رآه التونسيون والمغاربة في وقت ما على الأقل، هو أن تلك العملية لم تتم بشكل اعتباطي وعفوي، وكان واضحا أن باريس خططت جيدا للمرحلة التي تلت خروجها النظري من المنطقة. ولم تكن تشك في أن المناخ الذي هيأت له وعملت على إيجاده، ولو بشكل ما، كان لا بد له من أن يدفع النظام العسكري الجزائري إلى الدخول في صدام مباشر مع من ظل يعتبره نظاما مغربيا تقليديا معاديا لقيم وشعارات الثورة، التي بنى مشروعيته عليها. لكن هل دفع البلدان والمنطقة من ورائهما ثمن الطموح الامبراطوري للمغرب والحلم القاري للجزائر؟ إن المشكل هو أن الصراع السياسي بينهما توسع وخرج عن الحد وتجاوز ما قد يعد خطوطا حمرا. وبالنسبة للرباط والجزائر فإن ما يفعلانه هو أنهما يستمران في لعب كل أوراقهما للنهاية. وقد لا يهمهما كثيرا في خضم ذلك إن كان هناك من سيفهم أن صراعهما لم يعد سياسيا فقط؟ أم انه سيظل وفي كل الأحوال كذلك.
كاتب وصحافي من تونس