نزار بولحية
وما الغريب في ذلك؟ قد يقول البعض، أليس من عادة الدول أن تدعم الوسطاء والمبعوثين الأمميين، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنهم ينجحون دائما في ما كلفوا به؟ لكن المفارقة في النزاع الصحراوي الذي طوى ما يقارب النصف قرن قد تكون جديرة بالاعتبار، ففيما تؤكد جل دول العالم إن لم يكن كلها على دعمها للمبعوث الأممي المكلف بالملف، فإنه لا يزال عاجزا إلى اليوم عن تحقيق أي تقدم ولو شكلي أو بسيط فيه.
ومبدئيا فإن هناك واحدا من احتمالين، فإما أن تكون الإمكانات الموضوعة تحت تصرفه شحيحة ومحدودة للغاية، أو أن إرادة الدول التي تدعمه ضعيفة وغير موجودة، وفي كلتا الحالتين فإن الصورة تبدو الآن على هذا النحو، فجميع أطراف النزاع الصحراوي، وبلا استثناء ومع كل التباينات والاختلافات العديدة الموجودة بينها تتفق كلها على الجملة الآتية: «دعم جهود المبعوث الأممي للصحراء من أجل التوصل إلى حل سياسي واقعي وعملي ودائم ومتوافق عليه للمشكل الصحراوي». وليس هناك من أحد لا في الشرق ولا في الغرب عبّر عن رفضه أو معارضته لمضمونها، أو وضع سطرا صغيرا تحت عبارة الجهود وأبدى تحفظه عليها، وطرح بعض نقاط الاستفهام حول قدرة أي مبعوث أممي في الظرف الحالي على الأقل، على بلوغ الهدف المنشود. وقد يقول قائل أليس مثل ذلك الاتفاق المبدئي وفي حد ذاته إنجازا؟ لنتصور ما الذي كان سيحدث في غياب إجماع واسع على الفكرة؟ ألن يكون المجتمع الدولي قد شرع ساعتها في استخدام القوة وأعطى الضوء الأخضر للحرب؟ لكن ماذا لو عكسنا الآية وتساءلنا أيضا عما فعله ذلك المجتمع بالمقابل على مدى العقود الماضية من خلال تمترسه خلف تلك الجملة الغامضة؟ هل تراه شرع حقا للسلام، وفتح الباب له وأعطى الضوء الأحمر لمنع أي مواجهة عسكرية محتملة بين المتنازعين؟ أم أنه حاول التهرب والتملص من مسؤولياته والتنصل من عواقب أي تصعيد أو انفجار قد يحدثه ذلك النزاع في المنطقة؟
لن ينتظر أحد من أي دولة عظمى أن تستنفر إمكاناتها وتضعها تحت إمرة وتصرف ديمستورا، مع أن الانطباع الذي تعطيه هو أنها لا ترغب أبدا بتركه وحيدا في الصحراء
ربما يرى كثيرون أن القرارات هي كل ما يمكن للآلة الجماعية الممثلة في هيئة الأمم المتحدة أن تنتجه، لكن ماذا عن الدول؟ هل إن أقصى ما يمكنها فعله هو أن ترسل التصريحات الدبلوماسية الغامضة أحيانا والحيادية والمفتوحة على مختلف الاحتمالات والفرضيات في أخرى؟ أم أن عليها ممارسة كل أشكال الضغط من أجل دفع الأطراف إلى الجلوس إلى طاولة الحوار والتوصل في آجال معقولة إلى التسوية المطلوبة؟ لن ينتظر أحد بالطبع من أي دولة من الدول العظمى أن تحشد جيوشها وتحرك أساطيلها العسكرية الضخمة، أو تستنفر إمكاناتها وطاقاتها الرهيبة وتضعها تحت إمرة وتصرف ستيفان ديمستورا، مع أن الانطباع الذي تعطيه باستمرار هو أنها لا ترغب أبدا بتركه وحيدا في الصحراء. ولعل أغرب ما يحدث مع الدبلوماسي الإيطالي السويدي المخضرم هو أنه لا يسمع من كل من يصادفه إلا كلمات التشجيع والدعم والتأييد المطلق لجهوده، أما كيف يحصل ذلك من دون أن تتحرك عجلة حل النزاع الصحراوي ولو مترا واحدا إلى الأمام، فتلك هي الأحجية الحقيقية. ومن الواضح أن الخصال الشخصية والمهنية لديمستورا لا تحجب أمرا آخر، وهو أنه قد يكون واحدا من أكثر الدبلوماسيين الدوليين حظا، فقد أعاده المنتظم الأممي بسرعة إلى دائرة الضوء، بعد أن توارى عن الأنظار لفترة قصيرة في أعقاب تقديمه قبل خمس سنوات من الآن استقالته من دوره كمبعوث أممي إلى سوريا، على أمل أن تستفيد الهيئة الدولية من الخبرات التي راكمها على مدى أربعة عقود من مسيرته المهنية، وتتوصل أخيرا إلى إقرار تسوية نهائية لواحد من أكثر النزاعات تعقيدا وصعوبة. ولم يكن طريقه بالتأكيد مفروشا بالورود غير أنه استطاع أن يحوز، ومنذ توليه قبل نحو عامين منصب المبعوث الأممي للصحراء، على كم هائل من إعلانات الدعم السياسي لجهوده، ومع ذلك لا يبدو أنه حقق حتى الآن أي نجاح يذكر. والبعض قد يرجع ذلك إلى تصلب وتشدد أطراف النزاع، وتمسك كل واحد منها بمواقفه. لكن هل يكون عجزه عن تقديم رؤية أو تصور لذلك الحل العملي والتوافقي، الذي تنص عليه القرارات الأممية لفض المشكل سببا من الأسباب؟ أم أن الأمر يعود فقط وببساطة إلى أن الدعم الذي يحظى به هو في الأصل دعم مزيف وغير حقيقي؟ لقد ترددت الربيع الماضي بقوة أنباء حول نيته تقديم استقالته، ولم ينفها أو يؤكدها، وكل ما فعلته الأمم المتحدة هي أنها كررت ما قامت به في السابق، حين تواترت أنباء مماثلة حول تفكيره في الاستقالة من مهمته في سوريا، وأكد هذه المرة ستيفان دوجاريك الناطق الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة للصحافيين في مايو الماضي أن تلك الأخبار كانت «عارية من الصحة»، لكن المشكل قد لا يكمن في بقاء ديمستورا أو رحيله، بل في وجود الشروط والظروف المطلوبة لنجاح أي مبعوث أممي في مهامه في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الحالية من عدمها، ورغبة الدول الكبرى في إغلاق الملف، أو إبقائه مفتوحا حفاظا على مصالحها في المنطقة. فما الذي سيكون بوسع أي مسؤول أممي أن يفعله إن كانت أكبر دولة في العالم تمعن في إرسال الإشارات المشوشة والمتضاربة حول الملف؟ ففيما اعترفت أمريكا مثلا، وقبل ما يقرب من ثلاث سنوات بمغربية الصحراء، واعتمدت رسميا خريطة جديدة للمغرب، جاءت آخر تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي، خلال لقائه الأخير الأربعاء الماضي مع نظيره الجزائري، التي قال فيها إن الجانبين الأمريكي والجزائري، أكدا دعمهما الكامل للعملية السياسية للأمم المتحدة بالنسبة للقضية الصحراوية، لتلقي ظلالا من الشك حول حقيقة النوايا الأمريكية. فإن كان الأمريكيون يرغبون حقا بحل النزاع، ولا يزالون يعتقدون كما أكد ذلك أنتوني بلينكن في لقائه مع نظيره المغربي ناصر بوريطة في مارس الماضي، أن مخطط الحكم الذاتي للصحراء الذي طرحه المغرب «جاد وذو مصداقية وواقعي» فهل إنهم عاجزون حقا على فرض ذلك الحل على شركائهم أولا، ثم إقناع أطراف النزاع والمجتمع الدولي في مرحلة موالية بالقبول به؟ من الواضح أن ما يفضلونه هو الهروب إلى الأمام وإبقاء الحل النهائي معلقا إلى أجل غير معلوم. ومن المؤكد أيضا أن باقي الدول والقوى الكبرى تقاسمهم تلك الرغبة، وهذا ما يجعل من الدعم الشكلي والصوري الذي يقدمونه للمبعوث الأممي للصحراء مفهوما. فكل ما يعطونه هو الوعود التي تشبه السراب غايتها ليست تحقيق النجاح، بل مداراة الفشل الذريع في معالجة المشكل. لكن ما الذي يجعل الرجل مصمما رغم إدراكه لذلك على مواصلة دوره؟ الداعمون له يعرفون ومن دون شك الجواب.
كاتب وصحافي من تونس