نزار بولحية
تتحدث الجزائر عن «استفزازات» من جانب جارتها المغربية، ويتكلم المغرب بدوره عن «روح تصعيدية غير مبررة» من قبل الجارة الجزائرية، لكن على من يلقى اللوم في النهاية، في ما وصلت إليه العلاقات بين أكبر بلدين مغاربيين اليوم من ضمور وجفاء؟ من السهل جدا أن يتراشق الطرفان بشتى التهم، وأن يحمّل كل واحد منهما الآخر وبشكل حصري المسؤولية عن الوضع الموجود، لكن في الوقت الذي قد لا تظهر فيه دائما وبوضوح شديد بصمات المتسبب الأصلي في كل الخلافات التي ظهرت على مدى عقود طويلة بين الجارتين المغاربيتين، ودفعت بهما للتنازع على أعقد الأشياء وأبسطها، بدءا بقضايا ترسيم الحدود والصحراء، وصولا إلى طبق الكسكس ولوحات الزليج، فإن السؤال الذي قد يطرح نفسه هو هل يمكن أن يكون وراء جميع التوترات التي حدثت بين الجزائر والمغرب طرف ثالث اقتضت مصلحته أن تبقى جذوة الخلافات بينهما مشتعلة ومتقدة بشكل متواصل؟
ربما قد لا يفضل كثيرون الحديث عن المؤامرات، أو النظر لها على اعتبارها محركا، أو مغيرا لمسار الأحداث، غير أن ما جرى قد لا يبدو بعيدا جدا عن ذلك. فتعاقب وتلاحق الأزمات الحقيقية منها والمصطنعة بين الجانبين يثير، بلا شك عدة علامات استفهام، ولعل آخر نزاع أطل برأسه قبل أيام فقط، يبدو في هذا الصدد فريدا من نوعه، فهو يتعلق بما إذا كان يحق للمغرب أن ينتزع عقارات وأراضي تابعة للجزائر في العاصمة الرباط، بحجة المصلحة العامة أم لا؟ ومثلما يحدث دائما في حالات مماثلة، فإن وجهات النظر في هذه النقطة كانت على طرفي نقيض، إذ فيما رأت الجزائر في العملية مشروعا «يهدف إلى مصادرة مقرات سفارة الدولة الجزائرية في المغرب»، فندت الرباط ذلك وذكرت الاثنين الماضي، وعلى لسان مصدر دبلوماسي، أن المغرب «لا يسعى إلى التصعيد والاستفزاز» ضد الجزائر وأنه ما فتئ يعمل «على علاقة ودية بين البلدين وعلى الأخوة بين الشعبين»، معتبرا حديث الخارجية الجزائرية عن مصادرة ممثلياتها الدبلوماسية في المغرب «مجرد ادعاءات لا أساس لها من الصحة».
وفي الحالات العادية كان فض مثل ذلك الإشكال العقاري أو القانوني في الظاهر وبالطرق المتعارف عليها، يبدو ممكنا، ولم يكن يحتاج أبدا إلى لجوء الخارجية الجزائرية، الأحد الماضي إلى إصدار بيان شديد اللهجة بدأته بتقديم استنتاج فوري وقطعي من ذلك الإجراء، وهو أن المملكة المغربية «دخلت في مرحلة تصعيد جديد في تصرفاتها الاستفزازية مع الجزائر»، على حد وصفها، قبل أن تؤكد أنها « تدين بأشد العبارات ما اعتبرتها عملية «السلب الموصوفة»، كما أنها «تندد بقوة باللاشرعية، وعدم التطابق مع الواجبات التي تتحملها كل دولة عضو في المجتمع الدولي بكل صرامة ومسؤولية»، مشيرة في الأخير إلى أن» الحكومة الجزائرية سترد على هذه الاستفزازات بكل الوسائل التي تراها مناسبة، كما سيتم اللجوء إلى كل السبل والوسائل القانونية المتاحة، لاسيما في إطار الأمم المتحدة، من أجل ضمان احترام مصالحها»، وفق نص البيان. لكن هل ما زال التعامل بين البلدين يحتكم إلى القواعد العادية؟ للأسف لا، فمن الواضح أن البيان الجزائري لم يشر إلى شيء بديهي كان من المفترض أن يحصل حتى في الحالات التي تكون فيها العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين بلدين، مثلما هو الحال الان بين الجزائر والمغرب، وهو إن كانت السلطات الجزائرية قد سعت إلى تقديم اعتراض كتابي لنظيرتها المغربية، أو طلبت منها الجلوس إلى طاولة الحوار للبحث في تلك المسألة، ولو بشكل غير مباشر، وعبر طرف آخر تراه جديرا بالقيام بالنيابة عنها بتلك العملية. والسبب مفهوم ومعلوم، وهو أن مثل ذلك الأمر لم يحدث على الإطلاق. ولعل تصريحا سابقا للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ذكر فيه أن العلاقات بين البلدين وصلت إلى نقطة اللاعودة، قد يلخص وإلى حد كبير الطريقة التي سارعت بها الجزائر للتهديد، بتدويل الخلاف الجديد ونقله إلى أروقة الأمم المتحدة، دون إعطاء المجال، أو الفرصة لا للبحث فيه بشكل ثنائي، بل حتى لطرحه داخل الأطر الإقليمية المشتركة، سواء منها العربية أو الافريقية. ومن المؤكد أن ما حدث ليس سوى صورة مصغرة لما وصلت إليه العلاقات الجزائرية المغربية، بعدما دق إسفين عميق بين العاصمتين، ما جعل قنوات التواصل والحوار بينهما مسدودة، وفاقم من حدة الشكوك والهواجس لدرجة باتت فيها الثقة التي كانت سائدة بين الجانبين شبه منعدمة. والسؤال هو إن لم يكن الخلاف الجديد وليد اليوم، وكانت له جذور ورواسب من الماضي فمتى بدأت أولى الخطوات التي أدت إلى كل تلك الخلافات والنزاعات المتتالية بين الجزائريين والمغاربة؟ إن المفارقة هي أن بذورها الأولى وضعت في الفترة التي ظهر فيها أن هناك اتجاها قويا للتقارب لا بين البلدين فحسب، بل بين كل الأقطار المغاربية. لقد عرف النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي ولادة الثورة الجزائرية، في وقت كان فيه المغرب يخطو حثيثا نحو انتزاع إعلان الاستقلال عن فرنسا. وما فعله الفرنسيون ببساطة هو أنهم حاولوا الحفاظ على مصالحهم في المنطقة في المرحلة التي تلت ذلك، ووضع ألغام على طريق تقارب البلدين، أو توصلهما لأي تفاهمات في الفترة التي أعقبت إعلان استقلال الجزائر. وعلى عكس الرئيس التونسي الراحل، الذي قبل فكرة التفاوض مع فرنسا على الأراضي التي كانت تطالب بها تونس، والتي كانت تحت سيطرة الفرنسيين في الجزائر، رفض العاهل المغربي الراحل محمد الخامس ذلك، معتبرا أنه من الأفضل التفاوض لاحقا بعد استقلال الجزائر مع القيادة الجزائرية حول تلك المسألة. والنتيجة هي أن فرنسا نجحت في الأخير في شق الصف المغاربي، من خلال تصوير استقلال المغرب على انه جاء فقط نتيجة لمفاوضات واتفاقيات، في حين أن استقلال الجزائر كان محصلة ثورة مسلحة فحسب. ولم يكن مثل ذلك الامر بالبريء على الإطلاق، إذ كان الهدف منه، هو وضع جدار سميك بين قيادة البلدين، سرعان ما تضاعف بمرور الوقت، من خلال التقسيمات الأيديولوجية التي شهدتها فترة الستينيات، وما بعدها. لقد بدا الأمر وكأن هناك نزالا وجوديا بين ثوريين في هذا الجانب ومحافظين في الآخر، وهذا ما جعل الأرضية تبدو ممهدة بالكامل أمام حدوث الاشتباكات الأولى بين الطرفين في مرحلة مبكرة نسبيا في ما عرف بحرب الرمال، لكن هل يمكن إلقاء اللوم على الفرنسيين وحدهم في كل المآسي والكوارث التي حدثت بعد ذلك؟ ألم يكونوا بصدد الدفاع عن مصالحهم حين زرعوا تلك البذور ووقفوا أمام أي تقارب قد يحصل في المستقبل بين الجزائر والمغرب؟ سيكون من الإجحاف أن يختزل الأمر فقط في ما قاموا به في العقود الماضية. فالمغاربة والجزائريون يتحملون بدورهم قسطا من المسؤولية، لكن قد يكون الطرف الآخر الذي دق بدوره إسفينا بينهم، من حيث شعر أم لا هو جيرانهم الذين ظلوا يتابعون خلافاتهم بعيون مغمضة.
كاتب وصحافي من تونس