محمد لعقاب، وزير الاتصال الجزائري، بمُناسبة اليوم الوطني للسياحة، دعا مُدراء مؤسسات الإعلام الجزائرية لـ”إيلاء الانتخابات الرئاسية الجزائرية الأهمية التي تستحقها”. يُفهم من ذلك أن الوزير لاحظ عدم اهْتمام تلك المُؤسّسات بتلك الانتخابات، بالقدر الذي تستحقه.. وهو أدْرى، لأن وزارته تملك أدوات رصد “أهميات الإعلام الجزائري”. وليس مهمًّا أن نقف عند تصريحه بذلك في اليوم الوطني للسياحة، إذ يُفترض أن الانتخابات الرئاسية ليست مهرجانا ترفيهيا لتنشيط السياحة، في عاديات تدبير شؤون عاديات الدوَل. ولكن ربّما أن الوزير في “لاشعوره السياسي” لا يرى فرْقا بين السياسة والسياحة عنده، ربما فيهما قدر كبير من الترويحِ عن النفس، الفرجة والاستجمام. واضحٌ أنّ “أعباء” و”مشاق” السياسة يتحمّلها جنرالات الحكم وحدهم، في الجزائر.
الإعلام لا يولي الانتخابات الرئاسية ما تستحقّه من اهتمام.. لكن المرشّحين يتكاثرون وهم يُهيّئون ملَفات ترشيحهم، شهيّة التطلع لرئاسة الجزائر مفتوحة، يبدو أن هناك استسهالا لمهام الرئيس، على صورة ما هو عليه الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون، واللّعبة أعقد من رغبتهم، وهم يعرفون. وحالة تبون واضحة، الرجل يرأس ولا يحكم، ويتحدث كثيرا بمناسبة أو دونها، ويقول ما يريد.. حتى أنه رفع عدد شهداء حرب التحرير الجزائرية إلى خمسة ملايين وزيادة، بيْنما كان عدد سُكان الجزائر إلى نهاية خمسينات القرن الماضي قرابة ثمانية ملايين. ما كان يبدو عليه أنه يفكر حين قال ما قال، ولم يتراجع أو يعتذر في ما بعد، ولم يُحاسبه أو يصحح له قوله أحد، وبنفس الاستسهال وعَد الجزائريين بتوفير معامل تحلية المياه قادرة على إنتاج مليارات الأمتار المكعبة من المياه الصالحة للشرب، تُعادل محيطيْن وعشرات البحار.
هذه المرة لم ينزعج أحد من مبالغته، اعتُبرت دعابة ومن “مُستملحات” الرئيس، وحتى الآن الرئيس لا يبدو منشغلا بإعداد نفسه للترشُّح لعهدة ثانية، كأنّ الأمر ليس من صلاحياته، رغم أن حوالي خمسة أحزاب ناشدته الترشُّح “لاستكمال إنجازاته التاريخية”، وتعتبره مرشحها، إنه ينتظر هاتفا يشجِّعه على الثقة في قدراته على الظفر بولاية ثانية لرئاسة الجزائر، حسب ما يرشح من صمته في أمر ترشحه.. غيرُه وهم كثر، اتكلوا على الله وتوَجّهوا إلى سحب ملفات ترشيحهم.
رئيس السلطة الوطنية للانتخابات محمد شرفي صرّح الثلاثاء الماضي بأن “السلطة أحصت 27 راغبا في الترشُّح للانتخابات الرئاسية ليوم 7 سبتمبر المقبل، قاموا بسحب استمارات اكْتتاب التوقيعات الفردية”، والعدد مُرشح لأن يزيد.. أمام الراغبين، المجال مفتوحٌ إلى حدود يوم 18 يوليو، بعده ستدرس السلطة الملفات، لتعلن، يوم 27 منه، عن اللائحة النهائية للمرشحين، والتي ستعرضها على المحكمة الدستورية للحسم النهائي فيها.
أمام تبون حوالي عشرين يوما للحسم في قراره.. وإنْ كانت الحملة الدعائية لصالحه بدأت قبل شهرين، في الإعلام ولدى كتيبة الأحزاب المُوالية للقيادة الجزائرية. الذين عبّروا عن رغبتهم في الترشح، لم يُثيروا اهتمام الإعلام، لا في الداخل ولا في الخارج، ولا أحدَ تكرّم على بعضهم أو أحدهم بحملة دعائية، مُسبقة أو مدسوسة، وهم أنفسهم لم يَخلقوا حولهم زوابع إعلامية، وليس فيهم ما يثير الانتباه لمميزات في شخصياتهم، اجتماعيا أو ثقافيا أو سياسيا.
ما قبل الحملة الانتخابية خال من مظاهر الحماس لإجراء الانتخابات أصلا.. انتبه وزير الاتصال لذلك، وتوجَّس من أن يسود الفتور نفسه الحملة الرسمية ويُفقدَ الانتخابات انتباه الجماهير لها، فأوْصى المؤسسات الإعلامية “بإيلاء الانتخابات الاهتمام الذي تستحق”.
السؤال الأهم هو هل ستُجرى الانتخابات الرئاسية وفق ما تستحق الجزائر، وبما يفتح لها ممرات إلى مستقبل يُخرِج شعبها من خصاصاته المتراكبَة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية.. وضمنها الخصاصة في الحوار الوطني حول مآلات البلاد، وهو الذي تكون الانتخابات مناسبةً له وساحةَ واسعة لممارسته، ولا يبدو أن هذه الانتخابات ستتسع له، من خلال مقدمات ضعف الاهتمام بها.
نخبة السياسة في الجزائر صمتُها يُنْبئ بتسليمها بأن الانتخابات، أكانت رئاسية أو حتى تشريعية، ليست فضاء للتدافع السياسي الديمقراطي، بين برامج سياسية وأطروحات فكرية وتطلعات اجتماعية هي مجرد آلية لتأثيث أروقة الدوْلة بشكليات، تكمن خلفها القيادة العسكرية الممسكة بالسلطة الفعلية.
اليوم، كما تكرر كثيرا مع الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، كل المعنيين بالانتخابات الرئاسية في جَرَيانها العملياتي، يملؤون مسرح الانتخابات، كما يفعل الكومبارس، مُترقّبين دخول الممثل الرئيس لينطلق الارتجال بإدارة من المخرج المتواري داخل الكواليس. اليوم، الانتخابات في الاهتمام الإعلامي هي مجرد بلاغات لبعض الأحزاب، تُرشِّح قائدا لها أو أخرى تلتمس من الرئيس تبون “التفضل” إلى عهدة ثانية.
في الإعلام الجزائري، الذي تمكنتُ من متابعة بعض أدواته الورقية، الرقمية أو السمعية والبصرية، حالة انصراف عن الانشغال بالرئاسيات. أكثر تلك الأدوات منشغلة بالمغرب وحتى بأدق تفاصيل أخباره، كخبر صحافية وتَّرت أعصاب الفنانة “أنغام” في مهرجان موازين، وطبعا الانشغال الدائم بفوزي لقجع، باعتباره “المُتآمر” الكرَوي الأول في الاتحادات الكروية الأفريقية وحتى العالمية. والمخدرات التي يتم ضبط حيازتها لدى جزائريين يتم فورًا تنسيب مصدرها إلى المغرب. ناهيك عن هواية الإعلام بممارسة السرقة الموْصوفة لمقوِّمات التُّراث المادي المغربي.. إلى جانب مقالات وبرامج الشّتْم والافتراء على المغرب سياسيا، وهي المُعتادة والتي تكرر نفسها.
أسئلة مآلات الجزائر محجوزة في صدور شعب الجزائر ونُخبته، التسلط العسكري فرض فراغا في القول السياسي.. أو أن الإعلام لا يُواكبه ويتجنَّبُه ويشحن الرأي العام بتوافه الاهتمامات الآنية والغريزية منها. هذا في سائر أيام الحكم، بالأحرى في فضاءٍ انتخابي يُفترض فيه أن يوقظ التطلعات والاستفهامات لدى المواطنين، وهو ما يُتحسّس منه التسلط العسكري.
الانتخابات التشريعية والرئاسية في عدة بلدان قريبة من الجزائر، تعرف تسونامي النقاش العمومي، في كل الوسائل، حول ما كبُر وما صغر من أوضاع البلاد وآثارها على مُستقبلها وعلى “المَايَنْبَغِيَّات” من التحولات السياسية التي تحملها البرامج السياسية المتصارعة أو فقط المتنافسة.. هي انتخابات يعيشها الشعب المنتخِب بالطول وبالعرض، بكل حساسياته وبكل حماساته. وهذه حالة السنغال وجنوب أفريقيا وموريتانيا وأيضا حالة فرنسا في انتخاباتها الجارية.
عدة بلدان الناضجة في ديمقراطيتها، والمتوفرة على دول تتأسس على المشاركة الشعبية الحقيقية في تدبيرها، الحوار والنقاش حاضران في التفاصيل وفي كليات التدبير السياسي للبلاد، وفي يوميات المواطنة.. في جيرة الجزائر، المغرب ودون باعث انتخابي، اللسان السياسي العام متحرك وحامل لأسئلة تطلعات كل مكونات الشعب المغربي في كل الفضاءات، وعلى مدى أيام السنة، ندوات تلاحق أخرى ومناظرات تتابع أخرى، في المئات من الجامعات والمعاهد ومؤسسات التفكير والجمعيات الثقافية والأحزاب السياسية ووحدها أكاديمية المملكة تُتْعب متابعيها بتواتر ندواتها ومحاضراتها العلمية، حتى في أكثر القضايا الفكرية الساخنة والمثيرة للجدال والتي تصاحبها انفعالات، وذلك في بعض الحالات مرّات في الأسبوع الواحد. هذا ودون نسيان الإعلام السياسي والثقافي في الصحف والمجلات والمواقع، والمفتوح لكل النقاشات ولكل الأسئلة. لا أحد يخشى من الحوار ولا من السؤال ولا من ممارسة التعبير الحر. لا بل إن الدولة ترعى المؤسسات الثقافية المدنية ووسائل الإعلام وتمكِّنها من تأجيج النقاش العمومي.
هل يمكن في الجزائر ممارسة السؤال حول الكلفة الباهظة لإدمان السلطة الحاكمة على معاداة المغرب.. الكلفة السياسية في إدامة التوتر مع المغرب، وأضرار ذلك على الجزائر، مغاربيا وعربيا وأفريقيا ومتوسطيا، وطبْعا حول الكلفة المالية الضّخمة، من مليارات الدولارات، المنقوصة من تلبية الحاجات الأساسية ليوميات المواطن الجزائري، والمتبخرة أمام صلابة الجدار المغربي، وبما يحققه من توسّع دائرة الاقتناع العالمي بعدالة قضيته وبأهليته، لتبادل المنافع في مجالات التفاعل الاقتصادي مع العالم ولتموْقعه فاعلا في كل دوائر الفعل الإستراتيجي الدولي، على تنوعها وحتى على تنافرها ورغما عن التمايُزات بينها.
هل يُسمح في الجزائر بأن تكون الانتخابات مساحة نقاش عام حول كلفة اللامغرب في اقتصاديات الجزائر.. الإبعاد المتعمَّد لفرص التكامل مع المغرب، بسبب عداوة غير مبررة وهي “تتعكز” بشغب انفصالي، وضدا على مصالح الشعب الجزائري ودون استئذانه، وتنسج دبلوماسيتها على نوْل معاداة المغرب، ما يراكم لديها التوتر مع فرقاء دوليين، حالة إسبانيا وفرنسا، أو حتى النفور منها، حالة دول عربية وأفريقية.. وهي تراكم خسارات اقتصادية ملموسة في الخصاصات المشهودة عبر طوابير طلب المواد الغذائية الأساسية.
الأمل أن يفتح الله أعين قيادة الجزائر على التطوّرات الجيوستراتيجية في منطقتنا، ولها فيها موقع هش، فتجعل الانتخابات الرئاسية مدخلها إلى الاستقواء بالمغرب، للتفاعل.. وبالتالي إلى عهد جديد في تدبيرها لمصالح شعبها، وضخِّ الأخوّة المغاربية فيها.
طالع السعود الأطلسي
كاتب مغربي