الحقّ المغربي هو وحدة الوطن الترابية والإنسانية. على مدى أكثر من نِصف قرن والمغرب يُقاوم لإثبات حقه الوطني التاريخي، ويُصارع ضِدَّ إمعان حكام الجزائر في النّيْل من المسعى الوطني المغربي المشروع، لتثبيت المكتسبات الوطنية المغربية في استكمال وحدة الوطن. وقد أوْجَد حكام الجزائر لعدائهم للمغرب أداةً انْفصالية وغرَسوها في سياستهم الخارجية، وأنفقوا عليها المليارات من الدولارات لتشحيمها دبلوماسيا وعسكريا ضد المغرب. والحاصل اليوم أن الاستماتة المغربية في تثبيت الحق الوطني أفشلت ذلك العداء الجزائري ودحَرته. وكما الحق الوطني المغربي يعلو ولا يُعلى عليه، فالانفصال يَزْهق وإلى زوال، شأن كل ما بُني على باطل.
ذلك الباطل فشلت إدارته الجزائرية في أن تجد له موقعا على الأرض في الصحراء المغربية. بقيَ على مدى هذا النصف قرن مجرد ادعاء سياسي ودولة متوهَّمة في مخيمات تندوف تحت السيطرة الجزائرية، وبعضوية مجاملة للجزائر في الاتحاد الأفريقي. الإجماع الوطني على الحق المغربي والذكاء الإستراتيجي للدولة المغربية، الذي بلوَر المبادرات الاستباقية النوعية، للراحل الملك الحسن الثاني، المسيرة الخضراء سنة 1975 واستعادة وادي الذهب إلى السيادة الوطنية سنة 1979 وأيضا بقبول إجراء الاستفتاء في الصحراء المغربية سنة 1981 ما كشف استحالة إنجازه وبالتالي الإقرار بفشل ذلك المسار. وبعده، سيتقدم الملك محمد السادس بمبادرته التاريخية باقتراح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية سنة 2007، وهي المبادرة التي سرَت في التعاطي الدولي مع قضية الصحراء المغربية بمفعول الإقناع بعدالتها وبصوَابية المقترح في توفير الحل السلمي، الواقعي والدائم لمنازعة الجزائر في الحق الوطني المغربي، وما تُهدد به من توتر قابل للاشتعال في هذه المنطقة من شمال أفريقيا ومن جنوب البحر الأبيض المتوسط.
دوليا، مفعول مجاملة الجزائر نضب، ومعه تلاشت الحاجة إلى مراعاة توازن مُتوهّم بين المغرب والجزائر. الانحياز للمغرب في ذاته وفي عدالة قضيته ممارسة دولية متنامية الاتساع، كمًّا ونوعا، وعن سبق إصرار. الإعلان الفرنسي الرسمي عن حتمية حل النزاع في أفق أن الأقاليم الصحراوية التي تنازع فيها الجزائر مغربية، وأن مقترح الحكم الذاتي هو الحل الوحيد الممكن للنزاع، مؤشر على تحول نوعي في التعاطي الدولي مع النزاع. تحوّل كانت له مقدمات وسوابق في مواقف دول وازنة، بل ومؤثرة دوليا، مثل الولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا، فضلا على الإجماع العربي في مناصرة الحق المغربي، وأيضا الحماس للمغرب لدى العديد من الدول الأفريقية وفي أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. الموقف الفرنسي أرْعب الجزائر أكثر لأنه يتضمن ضمورا لوزنها في الحسابات الإستراتيجية الفرنسية. في التخطيط الإستراتيجي الفرنسي الجزائر مجرد قوة مضروبة، بينما يصرخ حكامها أنهم “قوة ضاربة”. إنها الآن “تضربُ الأخماس في الأسداس”.
مراكز أبحاث وتفكير أميركية وأوروبية محترمة تَمُدُّ مواقع القرار في دوَلها بالرأي الموجه، خلصت إلى أن نزاع الصحراء انتهى. بقي فقط أن يُعلن رسميا عن ذلك في محافل القرار الدولي، وأساسا منها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. هو مشغلة دولية بلا طعم ولا فائدة ولا مبرر له أو عائد في الوضع الدولي الراهن، في التجاذبات والتحولات الدولية الجارية. في هذه الأوضاع المغرب أفيد لكل القوى الدولية، إستراتيجيا واقتصاديا. حتى روسيا أعطت، خلال السنوات القليلة الماضية عدة مؤشرات على مراعاتها للمغرب واحتسابها للتنافع معه بما يفوق علاقاتها التقليدية مع الجزائر، وضمن ذلك عدم تصويتها بالرفض لقرارات مجلس الأمن الخاصة بنزاع الصحراء.
دولة الجزائر، إذا جاز اعتبار تدبير الجنرالات لحكم الجزائر دولة، تعبُر أزمة اختلال التوازنات بين مكوناتها. الحرس القديم يسد المنافذ ويُعطل المصاعد أمام الجنرالات الجدد، ولكنه فقد الكثير من سطوته. والانتخابات الرئاسية المستمرة “حفلاتُها” إلى السابع من سبتمبر المقبل، هي الدليل الناطق بأزمة “الدولة” الجزائرية. الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، الذي تزفه الانتخابات إلى رئاسة الجزائر للمرة الثانية، هو العنوان الفرعي لتلك الأزمة.
الجنرالات تأخروا في قرار ترشيحه بحثا عن بديل، ربما. ويقينا أنهم “توافقوا” على ترشيحه فقط تأجيلا أو إبعادا لانفجار الأزمة بينهم. وربما لأن بعضهم رأوا فيه الرئيس المناسب لكي يستمر العالم في الاقتناع بأن مصدر القرار الرئاسي ليس من الرئاسة. الرجل قضى ولايته الأولى وهو يُضحك شعبه بنكاته ويُغذي حس السخرية لديه. وها هو في تجمعاته الانتخابية يرفع مستوى “التَّفَكُّه”. في ما قاله عن استعداد الجزائر لتَفْعَل ما لا تستطيع مصر أن تفعله، نُصرة للفلسطينيين في غزة، لو فتحت لها الحدود. هو أولا استخفاف بمصر وبقيادتها وبجيشها، وبما لا يليق برئيس دولة، وهو ثانيا توظيف شعبوي ومزايِد للقضية الفلسطينية في “سمر” انتخابي لا يليق بمناصر جدي للشعب الفلسطيني، وهو ثالثا تعبير عن ضحالة الثقافة السياسية، العسكرية والجغرافية لرئيس مفترض لدولة الجزائر. ولم يجف بعد مداد التعليقات على تصريحه الأول حتى عاد إلى ارتكاب زلّة أخرى حين قال، بحماس وصوت قوي، بأن الجزائر هي القوة الثالثة اقتصاديا في العالم. وحتى الآن يجتهد المحللون في محاولة فهم “الرئيس” لمعنى العالم والقوة الاقتصادية وللمرتبة الثالثة.
بلد سيوكِل أمرَه، ولو شكليا، لمثل هذا الرئيس وبمؤهلاته المُعلنة، سيكون على العالم أن “يحْجره” دوْليا، ولو أنّ لا خَطرَ مُحتملا من مجرد كلام يُقال في تجمعات هي أقرب إلى جلساتٍ في مصحة للتَّنْفيس عن ضيقٍ في صدر الرئيس.
وهو ليس ضيق الرئيس فقط، بل ضيق المؤسسة الحاكمة بكل “شُعَبِها”.. والّذي جرى في اليابان، من تسريبٍ لعنصر في بوليساريو إلى اجتماع دولي هو غير مدعوٍّ له، تنفيسٌ آخر عن الضيق الدبلوماسي شديد الحِدّة لدى حكام الجزائر، جرّاء انتصارات الدبلوماسية المغربية في تثبيت الحق الوطني المغربي. بينما المفروض أن يُجَهِّز حكام الجزائر لبوليساريو حقائب المغادرة من مُنازعة المغرب في صحرائه، الخارجية الجزائرية دَسَّتْ “بُوليساريا” واحدًا في حقيبَتها وأقحمته في الصورة الرسمية للاجتماع الياباني – الأفريقي في طوكيو.
إنها حشرجةُ آيلة إلى الانهيار، أو هذيان محموم بنكساتٍ سياسيةٍ صادمةٍ. وليس بهذا يمكن حَجْبُ الحق المغربي عن السُّطوع. ولا بهذا يمكن وقف ذهاب الانفصال إلى حتْفِه.
طالع السعود الأطلسي
كاتب مغربي