نزار بولحية
كيف تتعامل القاهرة مع حالة التوتر المستمرة بين الجارتين المغاربيتين، التي تفاقمت قبل ثلاث سنوات، مع قطع الجزائر لعلاقاتها الدبلوماسية مع الرباط؟ هل يمكنها أن تتغافل عنها، أو أن تتجاهلها بعد أن كانت حاضرة في السابق في معظم الأزمات والصراعات التي نشبت بين المغاربة والجزائريين، سواء بدعم طرف على حساب الآخر، مثلما حدث في الستينيات في حرب الرمال، عندما وقف جمال عبد الناصر في صف الجزائر، أو بالوساطة بين الطرفين، كما حصل في السبعينيات مع ظهور قضية الصحراء؟ الثابت أنه سيكون من الصعب عليها الآن أن تنأى بنفسها عن ذلك.
ولعل أوضح ردة فعل لها في أعقاب القرار الجزائري بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب كانت إعلانها في ذلك الوقت، أن وزير خارجيتها بادر إلى إجراء اتصالين هاتفيين مع نظيريه الجزائري والمغربي، تطرق فيهما، حسب بيان المتحدث الرسمي للخارجية المصرية إلى «التطورات الأخيرة التي شهدتها العلاقات بين البلدين الشقيقين، أي قرار الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، وسبل الدفع قدما بتجاوز تلك الظروف»، قبل أن يشدد في الأخير على «ضرورة العمل على إعلاء الحلول الدبلوماسية والحوار، إزاء تحريك المسائل العالقة بينهما، بما يصب في صالح تعزيز العمل العربي المشترك الذي تضطلع فيه الدولتان الشقيقتان بدور محوري في آلياته المختلفة»، حسبما ذكره المصدر نفسه. غير أن الإعلان عن تلك الاتصالات، ربما عكس جانبا فقط من توجس المصريين، وتحسبهم لما يمكن أن يؤول إليه أي تصعيد محتمل بين الدولتين في حال خروجه عن السيطرة، من انعكاسات سلبية على أمن واستقرار جيرانهم، ما قد يشكل لاحقا مصدر تهديد لهم. ومع أن مركز اهتمامهم بات يدور اليوم وبشكل أساسي حول قضايا ومسائل أخرى، وفي مقدمتها الأوضاع في غزة وفي باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومسألة سد النهضة، والتحالفات والترتيبات الجديدة التي حصلت في القرن الافريقي، نتيجة لتفاقم الخلاف بين القاهرة وأديس أبابا بسبب تلك المسألة بالذات، إلا أن ذلك لا يعني أنهم لا يأخذون الخلافات الجزائرية المغربية على محمل الجد في تحديد خططهم ورسم مصالحهم في الشمال الافريقي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو في أي مكان تقف القاهرة اليوم في علاقة بالنزاعات التي تجمع البلدين المغاربيين؟ هل أنها تنحاز تقليديا، وكما كان عليه الحال في الستينيات مثلا إلى الجزائر؟ أم أنها بدأت تقترب أكثر فأكثر إلى المغرب؟ المؤكد أن المتغيرات الإقليمية والدولية السريعة، والهائلة التي حدثت في العقود الأخيرة بوجه خاص طرحت أمامها على هذا المستوى جملة من التحديات، ومن بينها الحفاظ على علاقات قوية ووثيقة مع الجزائر من جهة، والإبقاء في الأخرى على علاقات متطورة مع المغرب، بعد مرحلة عرفت فيها صعودا لافتا وانتعاشا ملحوظان إبان حكم الرئيس الراحل حسنى مبارك، لكن ذلك لم يكن دائما وأبدا بالأمر اليسير أو الممكنن فهي لم تفلح دائما في محاولة مسك العصا من الوسط، فقد عرفت علاقاتها بالجزائر فترات من الجفاء والبرود، كان وراءها تصاعد التنافس الإقليمي بين البلدين، كما أنها شهدت أيضا حالات من الجمود والتوتر مع المغرب، كانت ترجع وبالأساس إلى الموقف المصري من ملف الصحراء، لكن يبدو أن المصريين قد عدّلوا بعض سياساتهم وبدؤوا بالفعل في تغيير أسلوبهم، واضعين نصب أعينهم تحقيق هدف وهو، كسب الغريمين في وقت واحد. ومن المؤكد أنهم يدركون جيدا أن ما قد يفتح لهم باب النجاح في تلك المهمة هو تقيدهم ببعض الضوابط، ومن بينها الحرص على أن لا يتعدى الصراع والتنافس الإقليمي بينهم وبين الجزائر سقفا محددا، ثم ابتعادهم عن أخذ أي موقف قد يثير حفيظة المغرب في قضية الصحراء. غير أن التزامهم بتلك الضوابط قد لا يبدو تاما، في بعض المرات وهذا يعود إلى تداخل وتشابك مصالحهم في المنطقة. فرهاناتهم وخياراتهم مثلا في ليبيا تكاد تكون على طرفي نقيض مع رهانات وخيارات الجزائر، كما أن توسع علاقاتهم مع نظام قيس سعيد في الجارة تونس شكّل في وقت ما مصدر قلق كبير في العاصمة الجزائرية. وليس معروفا أن الحرص على الالتزام بتلك الضوابط هو ما جعل وزير الخارجية المصري يلتقي وفي ظرف عشرة أيام فقط نظيريه المغربي في العاصمة المصرية، والجزائري في نيويورك، لكن التقارب الزمني بين اللقاءين يطرح نقطة استفهام كبرى. فهل يعني أن القاهرة باتت تتطلع الآن لأن تلعب دورا ما في تقريب وجهات النظر وتخفيف حدة التوتر بين الجارتين؟ أم أنها ترغب فقط في ضمان مصالحها في العاصمتين بغض النظر عن التوتر بينهما؟
لقد حدث المنعرج الحقيقي في سياساتها نحو البلدين قبل سنوات قليلة فقط. إذ مع ظهور ما عرفت حينها بأزمة معبر الكركرات أواخر عام ألفين وعشرين والتي نجمت عن قيام عناصر منتسبة للبوليساريو بغلق ذلك المعبر في وجه الحركة التجارية بين المغرب وموريتانيا، قالت القاهرة حينها إنها «تتابع عن كثب تطورات الموقف، وأنه وعلى ضوء تزايد التوتر في المنطقة وتسارع الأحداث فإنها تدعو الأطراف إلى ضبط النفس واحترام قرارات مجلس الأمن الدولي، بما تشمله من وقف لإطلاق النار والامتناع عن أية أعمال استفزازية وأية أعمال من شأنها الإضرار بالمصالح الاقتصادية والتبادل التجاري في هذه المنطقة». لكن أهم نقطة جاءت في البيان الذي أعلنه في تلك المناسبة الناطق الرسمي باسم الخارجية المصرية كانت التأكيد على «ضرورة الالتزام بالحوار واستئناف العملية السياسية لحل الأزمة، بما يحقق الاستقرار ويصون مصالح الأطراف كافة، ويحترم الاعتبارات الخاصة بالقانون الدولي، ولاسيما مبدأ سيادة الدول». ولم يكن ذكر كلمة «الأطراف» في ذلك البيان أكثر من مرة، ولا التذكير بمبدأ سيادة الدول بالأمر العرضي أو العابر، فقد كانت تلك أقوى الإشارات على ما اعتبره كثيرون بداية تحول واضح في الموقف المصري من قضية الصحراء في اتجاه دعم وجهة النظر المغربية في ذلك النزاع، من خلال اعتبار الجزائر طرفا فيه من جهة، والاقرار للمغرب بحقه في ممارسة سيادته على كامل أراضيه، بما فيها الصحراوية من الأخرى، لكن هل كانت القاهرة تؤيد الرباط، أم تناور من خلال استخدامها لورقة الصحراء لتبليغ رسالة ما للجزائر؟ لقد كررت تأكيدها في مناسبات أخرى، على دعمها « للوحدة الترابية للمملكة المغربية» والتزامها « بالحل الأممي لقضية الصحراء»، غير أنها استمرت في المشاركة في تدريبات عسكرية تنظمها الجزائر، ضمن ما يعرف بقدرة إقليم شمال افريقيا، وتضم إلى جانب القوات الجزائرية والليبية مسلحين من البوليساريو. وهذا ما جعل البعض يشكك في حقيقة موقفها من أعقد ملف خلافي بين العاصمتين المغربية الجزائرية وفي قدرتها على لعب دور الوسيط بين الجارتين، ولعل الشهور المقبلة تؤكد تلك الشكوك أو تنفيها.
كاتب وصحافي من تونس