عبد اللطيف مجدوب
في عجلة من أمري، وتحت افتتاني بتقنية الذكاء الاصطناعي التي ملأت العالم صخبا، طرت إلى تايتي؛ عاصمة تايوان، حيث يقام أول معرض عالمي من نوعه في التكنولوجيا المنزلية، تحت شعار براق “اسعد واهنأ”، وكان أمام الزوار عند بوابة المعرض ثلاثة اختبارات أو بالأحرى معرض بثلاثة طوابق متحركة، كل زائر عليه أن يدلي ببطاقة المعرض بمجرد أن تطأ قدماه درجات “السلم الذكي”.
ليس هناك ازدحام بالمعنى المألوف، بل هناك انسياب هادئ في حركة الزوار؛ يغدون ويروحون من بهو إلى آخر، كل بهو مزين بأشكال عديدة من الروبوتات، وبمختلف الأحجام والسحنات.
بهو الروبوتات فائقة الذكاء
تملكني إحساس بالغبطة وأنا أذرع ممشى؛ انتصبت على حواشيه الزجاجية؛ هامات، خلتها لكائنات من خارج الفضاء الكوني، كلما أمعنت النظر في إحداها بادرتني بابتسامة عذبة ورفرفة عين، وكأنها تدعوني “للاختلاء بها”، كان فضاء البهو معطرا بنسمات خفيفة؛ هي من الرقة والعذوبة؛ حتى لتخال نفسك تسرح داخل بستان من الأزهار والورود!
استوقفني مشهد “لإنسان” مثبت على قاعدة برونزية، كان وسيما بعينين زرقاوين تفيضان حيوية، ووجنتين ناتئتين تكونان مع فكه السفلي وجها شبيها بالنبلاء، إذا ابتسم لك تشعر وكأن الدنيا صارت طوع يدك…! كأن أحدا ما كان يقرأ ذاكرتي، وكم كانت دهشتي وأنا أسمع صوتا يطرق آذاني:
– “مرحبا بالمغرب.. هل تود التعرف على هذا “الضيف”؟، كان صوتا رقيقا لفتاة في مقتبل العمر.. ربما كانت افتراضية.. ترددت كثيرا وحرت في الرد عليها، لكنها بادرتني، وهي تعلم بحيرتي:
– “أتكلم لهجاتكم كلها، بدءا بالأمازيغية والزيانية والريفية والسوسية والحسانية، فضلا عن اللهجات المحلية، تكلم ولا تترد، فأنا هنا لإرشادك”، أخيرا نطقت بالفصحى:
– “هذا الروبوت.. أعجبني.. ما هي وظائفه؟”
– ردّت على الفور “اسمه (المعلم 230H يتقن 500 وظيفة..”
– “مثل ماذا؛؟”
– “طباخ؛ كاتب؛ قارئ؛ مدرب؛ مسل؛ مخرج؛ بستاني؛ معلم اتبوريدا؛ معلم الصيد.. في البر والبحر؛ مبرمج؛ ذواقة…”
قاطعتها من فرط هذه الروزنامة من الوظائف التي أخذت تنهال على مسامعي:
– “ويقرأ حركات العين.. مثلا ؟”
– “هذه من أبسط الوظائف التي يختزنها ..”
إجراءات اقتراني بالروبوت
كانت إجراءات بوصلات الكترونية جد معقدة، أحسست وكأني أضع لمساتي؛ الواحدة تلو الأخرى؛ إزاء امتلاك باخرة فيكتورية بخمسة طوابق، سواء تعلق الأمر بشركة التأمين الضامنة للعقد أو منظومة وظائفه والتي تسع مليارات المعطيات قابلة للتحيين.. في ختام حفل التوقيع على صك “الملكية” بادرني الروبوت وبأسارير منشرحة:
– “مبروك علينا، فقد صرت لك من الآن “خادما”، رجاء اختر لي اسما تناديني به”
– أجبت على الفور “صاحبي الروبوت”، سأدعوك به من الآن فصاعدا”.
رافقنا وفد من الشركة إلى المطار، كترتيبات بروتوكولية لتوديع أحد أفراد عائلتها، وعند البوابة الإلكترونية المفضية إلى بهو انتظار الإركاب، مال علي صاحبي هامسا برفق:
“ضع هاتفك مع أغراضك”.
على متن الطائرة
ابتعد “صاحبي” إلى جواري في هدوء، ولما أخذت الطائرة تتحرك على مدرج المطار التفت إلي قائلا:
– “عليك بكوب عصير تفاح، ثم تخلد إلى النوم، فشقة السفر طويلة بحوالي 20 ساعة من الطيران..”
ولم نمكث طويلا حتى شرعت الشاشات تلمع بإشعار توزيع وجبة الإفطار، ولكم كانت دهشة المضيفة وهي تستوضح صاحبي بصينية فصيحة:
– “هناك مقانن.. وحليب الإبل.. والعسل الملكي..”، فرد عليها وابتسامة عذبة لا تكاد تفارق محياه:
– “شكرا.. سأطلب في ما بعد..” ، لكن المضيفة ظلت محدقة فيه؛ فيما كان صاحبي يحاول تحاشي النظر إليها ، حينها سألتُه:
– “… كيف تتحاشاها وبهذه الصورة؟!”
– “كنت أعلم مسبقا ما كان يجول في خاطرها!”.
ما إن فرغت من تناول فطوري حتى خلدت إلى النوم، لكن صاحبي لم يمهلني قليلا حتى أسر في أذني:
– “بعد ربع ساعة من الآن، ستلج الطائرة مطبات هوائية صعبة فوق البحر… قد يمتد مداها إلى ثلاث دقائق.. عليك أن تكظم روعك..”،
وقد كان تحذيره دقيقا، وللتو أخذت الطائرة تترنح بنا قليلا ارتفاعا وانخفاضا.. لتتهاوى فجأة، وكأنها تمخر بنا عباب بحر، ساعتها تملكنا الرعب، وكانت هناك امرأة تصرخ في أحد المعابر، هرولت إليها المضيفات، في محاولة لنجدتها، فأعلنت إحداهن عبر المذياع:
“.. امرأة.. مغمى عليها.. فهل من طبيب بين الركاب..؟”، نهض صاحبي من فوره، وتقدم لفحص المرأة، فناولها أقراصا فائرة، فتعافت من لحظتها الأولى.. والتفتت إلى صاحبي بغبطة بادية:
– “.. الحمد لله.. أن بعثك لي رحمة.. تهللت وجوه المسافرين وأخذوا يصفقون لصاحبي، وهتافات الإعجاب لا تكاد تفارق حناجرهم. ملت على صاحبي وسألته باندهاش شديد:
“… كيف.. كيف.. من أين لك بهذه الأقراص…؟”
“لدي تجويف محل الجهاز البولي، يعد خلية لتوليد الأدوية..!”
على أرضية مطار محمد الخامس
كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل ، حينما أخذت الطائرة ترسو بنا على المدرج ، خلال ليلة عاصفة باردة ، فيما رعود السماء كانت تنذر ؛ بين فينة وأخرى ؛ بأمطار غزيرة ، فاتجه تفكيري بعيدا ما إن كانت بنية “صاحبي” ستتحمل مثل هذا الطقس ، بيد أني سأصاب بدوار ، وأنا ألحظُه إلى جواري ملفعا بياقة وصدرية جلدية… إنه لخبال… كيف…؟!
وكأنه كان يقرأ أمارات اندهاشي، فخاطبني، ونحن نذرع بوابة المطار إلى الخارج:
– “.. لدي مخزون من الملابس في ظهري، تتشكل تبعا لأحوال الطقس.. حتى أبدوَ بشرا…!”.
ذهبنا توا إلى سيارة لي؛ كانت مركونة هناك، فأصر علي أن يتولى قيادتها، كان الطريق شبه مقفر، سنضطر إلى التوقف عند مراقبة دركية… أحد رجال الدرك تفحص وجوهنا قبل أن يطلب “الأوراق”، فأخذ يتفحص وجوهنا في حيرة من أمره، سألنا عن صندوق السيارة.. ثم عاد ليتفحص أنوارها، فيما كان الدركي الثاني يقلب الأوراق بين يديه، وهو قابع في سيارة “لاند روفر”، فنادى على صاحبه:
– “.. خذ الأوراق، افسح لهم الطريق واعتذر لهم…!”، سألت صاحبي:
– “كيف… كيف ؟!.. أنا عارف “بعادتنا” مع رجال الدرك، طلبوا المعذرة… يا للغرابة…! هل طويت لهم أوراقا نقدية من بين الأوراق؟”
“لا..لا.. أعينهم كانت أول الأمر متجهة إلى ابتزازنا… لكنهم بمجرد اطلاعهم على أوراقنا تراجعوا..”
“كيف تراجعوا وعادتنا متأصلة..؟”
“ستذهب صورهم إلى مقر الشركة.. وربما سيكونون معرضين إلى الفصل والطرد، في حالة إصرارهم على ابتزازنا وتسلم البقشيش..!”
وصولي إلى المنزل
هرولت خدّوج؛ الخادمة إلى الجراج لنقل حقائبنا، وبدت بسحنة مكسوفة، وهي ترمق إلى جواري “الضيف” صاحبي أو “السائق الجديد”، كما أومأت إلى زوجتي من بعيد، فغمغمت مرتابة:
– “وهل هو مجرد سائق..؟”
– “نعم كذلك.. كذلك”
– “ولكن… يبدو عليه خلاف ذلك..”، قاطعتها:
– “وماذا لو كان السائق شابا أنيقا؟!”
– “أنت دوما على هذا الحال… تغيب حتى تغيب وتعود بالمشاكل..!”
– “المشاكل…! كيف؟!”
– “الضيف… يلزمه تجهيز الغرفة.. ولنا بنت كبيرة..!”
– “سأعفيك من الغرفة، سينام بغرفتي بعيدا عنكم”
– ” كان عليك أن تصرح بهذا في الأول… حتى نعرف بأنك إذن مثْلي.. أليس كذلك؟!!”
– “الله يهديك..! إنك غلطانة..”.
لم تستسغ الحيثيات، وخشيت أن أزيد الطين بلة إذا ما أطلعتها على الحقيق..! لكن؛ وفي غمرة هذا الفوران؛ سمعتها من بعيد تقذفنا بعبارات نابية، وهي تهُم باستقلال سيارتها صحبة ابناء:
– “الآن… عش كيفما يحلو لك… لك متسع لكل شيء؛ الصالون؛ حمام الصونا؛ الحديقة…”. كان صاحبي إلى جواري يتأمل المشهد، يختلس نظراته إلي بشيء من الأسى والتعاطف..
ظلت تحاول بيأس إدارة محرك السيارة، وأخذت تندب حظها، فهرول إليها صاحبي، وفي لمحة بصر أصلح العطب، ودعاها إلى أخذ مقودها، فرمتْه بنظرات، كانت مزيجا بين التذمر والارتياح، ثم عاد أدراجه إلي وبادرني ببشاشة:
– “هل مازال هناك إشكال ينغص عليك هدوءك؟”
– “نعم … الزوجة..! التي كان من المفروض أن تحمد لي سلامة عودتي من السفر، انقلبت في وجهي بهذه الوقاحة…”
– “لا عليك..! عليّ هين.. دعني أغيب عنك أربع دقائق…”.
تسمرت في مكاني، وتملّكني شعور بالعزلة والخوف أمام هذا المخلوق اللدائني، فقد يتعكر مزاجه في لحظة ما، أو بالأحرى تصاب معلوماته بالاختناق، فيعْمد في الحين إلى تصفيتي، مازلت كذلك سادرا في تخميناتي فإذا به يقف خلفي في حُلة خلبت لبّي … في سحنة فتاة ناهدة الصدر وشعر كستنائي، انتشرت خصلاته بين جيدها وقفاها، حتى غمر جزءا من ناصيتها؛ عينان خضراوان تشكل مع فمها الدقيق ابتسامة؛ هي من العذوبة بمكان؛ وكأنها تخاطبك في الخفاء “خذني.. خذني… إليك! ” .
أصابني دوار، ونظراتي مازالت جاحظة؛ أتأمل المخلوق الماثل أمامي.. أي سحر هذا..! وهل لي أن أتغزل بمفاتنه؟ ماذا لو دعاني إلى… أو حاول أن “يقتص” مني قبلة؟ وهل شفاهه اللدائنية قابلة لإثارة الغريزة؟! .. أخاف أن تنقض علي مخالبه..! صعقتني قهقهته، عفوا قهقهتها، وهي تدنو مني مادة ذراعيها… إلهي!! ارحمني .. ارحمني، هل تود أن تمارس معي لعبة الجنس أم لعبة الموت..؟!، كانت أعضائي السفلية شبه مشلولة من فرط الذهول، ولم تعد لي مقاومة هذا الإغراء الجارف سوى أن ارتميت في سريري، متلفعا بياقة معطفي، وكأنني أنتظر صدور ضربته القاضية… مرت دقائق إثر أخرى، وأنا مازلت منبطحا، تتراقص نظراتي بين الغفوة واليقظة…
حانت مني التفاتة إلى الخلف.. لم يعد هناك…! أين ذهب..؟ هل هو الآخر زعل مني… وهل هذا المصنوع يعرف هو الآخر معنى الزعل والنفور؟ كانت هناك مواويل وأهازيج خافتة؛ تأتي من بعيد، فألقيت بإطلالة من الشرفة، وإذا بي أراه في الحديقة منهمكا في رفش النباتات، بحلة لا علاقة لها مطلقا بالفتاة التي كانت إلى حين تراودني.
ذهابي إلى المطعم
مللت من أطباق نمطية؛ كان يعدها صاحبي، فاقترحت أن نقصد مطعما فاخرا هناك، كان دوما غاصا بالبناء من ذوي نزعات اجتماعية مختلفة، احتجزنا طاولة منزوية في الطابق العلوي؛ تشرف على حديقة إلى جوار مسبح مكتظ بالسباحين. قعد صاحبي إلى جواري في هيئة تأمل رومانسية، لكن لم يلبث أن وقف على رأسه؛ بسحنة أنثوية؛ يفرقع العلكة ويمرر على صدره العاري بيد مرتعشة، لكن سرعان ما تراجع إلى الخلف بعد أن همس صاحبي في أذنه.. وفاجأني بأن نهض يريد الانصراف:
– “لماذا هذه العجلة، ونحن لم نتعشّ بعد؟!”، حملق في بنظرات ملؤها القنوط:
– “.. هناك… عديد منهم؛ نظراتهم مصوبة إلي.. فتيات وفتيان لأغراض سريرية، ومنهم من بعث إلي برسائل عبر النادل.. لا أريد إحراجك..”
– “لكني لم أتناول طعامي بعد..!”
– “سأنتظرك بداخل السيارة فور خروجك..”.
لم أُنه وجبتي.. غادرت بهو المطعم للتو.. لقلقي الشديد تجاه صاحبي، مخافة أن يصاب بمكروه… وسأُصاب بشبه إغماء، وأنا أشاهد حشدا من الجماهير محلقة حول سيارتي! ثلاثة أشخاص ملقى بهم على الأرض، وأفراد من البوليس منهمكون في أخذ العينات، بينما صاحبي كان إلى جوار فتاة داخل السيارة، تضج من حولهم موسيقى صاخبة..! مازالت الجماهير تتبادل نظرات الإعجاب والاستغراب، وأعينهم مسمرة على سيارتي، سألت أحدهم بسذاجة:
– “غريب أمر هؤلاء.. ماذا حصل؟!”، مطّط شفتيه وقال باستخفاف:
– “لا أعلم.. هل انقطع دابر الإنسان حتى لا يجد من يشبع نزواته… عراك حول من يظفر بصاحب السيارة… يا للغرابة!”.
تقدمت إلى السيارة وأومأت إلى الفتاة أن تنزل وتخلي مقعدي، لكنها صرخت في وجهي؛ وأمام مرأى ومسمع البوليس والجمهور:
– “لا.. لقد اتفقنا على الزواج…”
– “اتفقتم… طيب، لكنها سيارتي، وليست سيارته..”
– “سيارتي هناك… أفخر من سيارتك بألف مرة! .. هيا “، ولم تمهلني قليلا حتى نزلت مشبكة يدها بيد صاحبي، وتوجها معا إلى هناك، لكن البوليس تدخل ومنعهما من المغادرة حتى استكمال إجراءات التحقيق في إصابة أشخاص برضوض على مستوى رؤوسهم.
تقدموا من صاحبي وطلبوا إليه التأكد من بطاقة هويته، ولشد ما امتلكتهم أمارات الحيرة، وأعينهم تحاول أن تقرأ شيئا بين سطور، بدت معقدة أشبه بخربشات الأطفال، لكن ما فتئوا أن توجهوا إليه:
– “هل تعرف العربية؟”
– “نعم…”
– “ضربت هؤلاء لماذا..؟”، فجاءهم الرد من الخلف:
– “تلك العظاية التي تقعد بجواره هي التي حملت علينا بكعب حذائها..!”
حضور مباراة في كرة القدم
كنت شغوفا بالميادين.. والأندية الرياضية، وهكذا وقع اختياري على حضور مباراة؛ جمعت بين فريقي الوداد البيضاوي وفريق صفاقس التونسي، برسم كأس إفريقيا للأندية، كانت المدرجات غاصة عن آخرها بالجماهير؛ تصخب وتهتف وتتراشق بعبارات الانتقام والثأر..
قعدت، محاذيا لحاجز الملعب، مصطحبا معي صاحبي الذي ألح هو الآخر على حضوره المباراة، كان يتفرس الوجوه من حولنا، وكأنه يبحث عن أشخاص اندسوا وسط هذه الحشود البشرية.. وفي لحظة ما؛ وعلى بعد خمس دقائق من انطلاق المباراة؛ مال عليّ موشوشا:
– “ستكون مباراة مثيرة، وأكاد أرى العدوانية تغلف معظم الوجوه، كل فريق يريد الانتقام من غريمه الآخر. صمتّ برهة قبل أن أرد عليه بقليل من الغباء:
– “طبعا… هذه هي صورة الجماهير، فهي أيضا تمنح فرجة خاصة..”، ثم فاجأني بسؤال لم أكن أتوقعه:
– أعلم أنك ودادي حتى النخاع، لكن ما يدريك أنك ستتلقى هزيمة ثقيلة..؟!”
– “لا…لا… فريق الوداد البيضاوي يمتلك أرقاما؛ لا يمكن….”.
صفّر الحكم بانطلاق النزال. توالت الدقائق الأولى، ومعها كان تشتد حرارة اللاعبين، وسط أجواء خانقة من اللغط والصفير، تعاظمت إثر تسجيل هدفين في مرمى الوداد، وهي النتيجة التي سينتهي بها الشوط الأول. لاحظ صاحبي أمارات القلق واليأس تغمرني في صمت، فرَبت على كتفيه، وكأنه يحاول مواساتي:
– “سأغيب عنك قليلا.. اطمئن..”
مفاجأة فوق العادة
استؤنفت المباراة؛ في شوطها الثاني تحت ترقب الجمهور الودادي بنهوض فريقه من كبوته، حانت الدقيقة 70، حينما تسلل لاعب وسط مراوغات مذهلة ليباغت الحارس ويسجل الهدف الأول.. ثم تأتي حملة أخرى لينقض اللاعب نفسه على كرة رأسية ويلقي بها إلى الشباك، ليتعادل الفريقان، اشتد سعار اللغط والصفير بضرورة محاصرة هذا اللاعب “الرهيب” الوحش الذي يحاول إمطار الشباك بمزيد من الأهداف، وقبل انتهاء المباراة بأقل من ثلاث دقائق؛ وعبر ضربة خطأ مباشرة؛ سدد هذا اللاعب كرة صاروخية في الزاوية العلوية اليمنى لمرمى الخصم؛ ما جعل الحارس يقف مشدوها، ليس معلوما، هل أمام اللاعب المسجل أم أمام السرعة الجهنمية للكرة…!
هاج وماج الجمهور، وشرع يقذف بكل ما بحوزته من أوعية وقنينات وأكواب، وحتى الأحذية…! كانت القذائف تستهدف اللاعب من كل اتجاه، وفي لحظة ما، لم يستطع الصمود فخارت قواه وسقط أرضا، فاحتار الطاقم الطبي أمامه لعزوفه عن شرب الماء وخضوعه لعمليات التدليك، فقط كان يصرخ صراخا شبيها بزئير الأسد، تراجع بعضهم إلى الخلف بعدما لاحظ دخانا ملونا دقيقا يتسرب من فقراته الظهرية، مخترقة أردية لدائنية؛ لم يعهد لها على مثيل.
وسط ذهول كل المشاهدين والمراقبين، تلقيتُ رسالة غريبة على الموبايل، كانت بلغة يابانية، فأدركت أنها ذات صلة بصاحبي. اقتحمت الشريط الحاجز حتى صرت إلى جوار “اللاعب” المطروح، فتملكني الرعب وأنا ألاحظ “خالا” مطبوعا خلف أذنه مباشرة، كانت هي العلامة التي تشير إلى “الرابط” الذي يجمعني به، ولم يدرْ بخلدي حينها قط أن الأنظار ستتحول إليّ، وكأني “العقل المدبر” لهذا الشخص الروبوت، وأني صاحب “المؤامرة والمحتال” الأول الذي سعى إلى استبدال لاعب حقيقي بلاعب “مفبرك”!
تم الاتصال مباشرة بمركز “الإسعاف الإلكتروني” فأشاروا علي بحمله وعزله في غرفة وعدم السماح لأحد بلمسه أو محاولة فك أزراره…
يسدل ستار القصة على…
حل فريق ياباني؛ موفد من قبل المركز العالمي لتطوير التكنولوجيا البشرية ((I.C.D.H.T، وبعد فحوصات مكثفة وإجراء عمليات دقيقة.. تمكنوا من استعادة جميع وظائفه باستثناء جهاز السمع، وأخيرا دفعوا لي بفاتورة مائة ألف دولار، كأعباء الصيانة والترميم، فضلا عن متابعتي قضائيا بتهمة استخدام الروبوت في أغراض التزييف والتلفيق والتآمر…
رفضت صاحبي الذي نغص علي نقاء حياتي وحولها إلى جحيم لا يطاق، بل وأمرت بإحراقه والقذف بأشلائه إلى أعماق البحر، حتى تعود إلي إنسيتي!