- نزار بولحية
إن جرت غدا انتخابات حرة ونزيهة في ليبيا، وذهب الليبيون كما يطالب الآن جزء منهم على الأقل إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس لهم فمن سيختارون؟ المؤكد أن عوامل عديدة ستحسم ذلك، لكن ما الذي يجعل صعود رئيس مثل الرئيس التونسي إلى سدة السلطة في طرابلس ممكنا؟ إنه شيء واحد فقط وهو المواصفات التي قد يفضلها الناخبون فيمن سيصوتون له. ففيما قد يفكر البعض منهم في عسكري يملك من القوة والشكيمة، ما يجعله قادرا على فرض سلطته وقراراته، ويأمل آخرون في مدني منفتح ومتسامح يلتزم بحكم القانون، فإنه لن يكون مستبعدا أن تحدث المفاجأة ويخرج من بينهم رجل غير معروف، لا ينتمي لا إلى الطبقة السياسية التقليدية، ولا إلى المؤسسة العسكرية. ومع أنه لن يعرض عليهم أي خطة أو برنامج للإنقاذ، غير أن فصاحة لسانه وسحر بيانه سيكونان كافيين لإلهاب حماسهم وتحفيزهم على التصويت له، ولو من باب الاحتجاج على المنظومة القائمة، والتطلع إلى أن يطبق ذلك الشعار الرنان، الذي أعلنه أمامهم وهو «الشعب يريد».
إن نقطة قوته الوحيدة ستكون سمعته النظيفة، على اعتبار أنه لم يتورط في تلطيخ يده لا بالدماء ولا بالمال المشبوه، ولن يكون مهماً هنا أن ينحدر ذلك الرجل من شرق ليبيا، أو من غربها، أو أن ينتسب إلى هذه القبيلة، أو تلك رغم ما يوليه الليبيون من أهمية شديدة إلى تلك الجوانب، لأن خطابه سيكون كفيلا حينها بالنفاذ بسرعة إلى عقولهم وقلوبهم، وسيحطم بالتالي كل الحواجز التي فصلت بينهم.
وربما يبدو هذا غريبا الآن، لكنه ليس خياليا بالمرة، فقد حدث شيء منه قبل سنوات قليلة في الجانب الغربي من حدودهم، أي مع جيرانهم التونسيين، حين اختاروا قيس سعيد، فقط لأنهم كانوا يعتقدون أن تلك الخصال ستكون وحدها طوق نجاتهم من الأزمة السياسية التي طوحت مركبهم، وكان يكفي في ذلك الوقت، أن تشتعل شرارة أولى حتى تصعد أسهم أستاذ القانون الدستوري عاليا، في اليوم الذي هزّ تونس حين اغتيل المعارض اليساري شكري بلعيد في فبراير سنة 2013 وظهر الأخير في وسائل الإعلام ليقول كلمته الشهيرة: «ليرحلوا كلهم بمعارضتهم وموالاتهم. اليوم انتهت المرحلة، ولا بد من مرحلة جديدة». لكن هل من الممكن أن يتكرر المثال نفسه في ليبيا، ويظهر سعيد آخر في غمرة الفوضى والانسداد الذي تعرفه الساحة السياسية الليبية؟
من المؤكد أن نقاط الاختلاف بين البلدين عديدة، وأهمها بالتأكيد، صعوبة فك الارتباط في ليبيا بين السلاح والسياسة. غير أن هناك عنصرا مشتركا قد يجمع بين تجربتهما، وهو سوء إدارة ما تعرف بالمرحلة الانتقالية بسبب عدة اعتبارات وهو ما يؤجج مشاعر الغضب وينمي، خصوصا في صفوف الطبقات الشعبية بالأساس، حالة من فقدان الأمل، لا في العملية السياسية فحسب، بل في الطبقة السياسية بقضها وقضيضها. أن ذلك العنصر هو ما أعطى قبل سنوات كلمات سعيد سحرا وبريقا ساطعا، جعل التونسيين يفتنون به، وهو ما قد يعطي غدا كلمات أشخاص مجهولين ربما خرج البعض منهم الجمعة الماضي إلى ساحة الشهداء في طرابلس ليحتج ويقول، كفى عبثا بمصائرنا لقد انتهت اللعبة ولم نعد نقبل من هنا فصاعدا لا بالمجلس الرئاسي، ولا بحكومة الدبيبة، ولا بحكومة حماد وليرحلوا جميعا، نوعا من السحر والبريق المماثل. لكن من يمسك الآن بخيوط السلطة في بلد عمر المختار؟ المجلس الرئاسي، أم حكومة الوحدة الوطنية؟ مجلس النواب أم حكومة حماد؟ العسكري المتقاعد خليفة حفتر، أم بعثة الأمم المتحدة ومن ورائها قوى إقليمية ودولية نافذة؟ إن التداخل بين المحلي والخارجي يجعل المشهد الليبي معقدا وملتبسا للغاية ويزيده ضبابية وغموضا. وفي كل الأحوال لن يكون من السهل أن يتخلى أي طرف من هؤلاء عن طموحاته السلطوية. غير أن الثابت في خضم ذلك الوضع هو، أن الليبيين باتوا يوما بعد آخر يشعرون بالإحباط من كل ما يرونه من مظاهر فساد وانفلات في بلادهم. ومن الواضح أن الصراعات والانقسامات والتدخلات الخارجية السافرة في شؤونهم، جعلتهم أشبه ما يكونون بالرهائن المجهولين والمنسيين. ولم يعد خافيا على أحد كيف ظلوا يرزحون ولو بدرجات متفاوتة بالطبع تحت وطأة الظروف الصعبة، التي مرت بها بلادهم بعد انهيار نظام العقيد الراحل القذافي قبل أكثر من عقد.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك هو، ما الذي يريدونه الآن بالضبط؟ هل إنهم يرغبون في استكمال باقي فصول مسلسل الانتقال الديمقراطي، الذي كتبت أجزاء كبرى منه في عواصم أجنبية بعيدة عنهم، وصولا إلى آخر حلقاته وهي وضع دستور جديد وانتخاب رئيس وبرلمان موحد لليبيا؟ أم إنهم يرون أنهم لم يعودوا بحاجة إلى كل ذلك «البهرج الديمقراطي» طالما أن الهزات والعواصف التي ضربتهم بقوة وجعلت أمانهم واستقرارهم على كف عفريت وأوكلت مصائرهم إلى عصابات متنفذة في الداخل والخارج، جعلتهم أكثر وعيا وإدراكا لواقعهم وأفقدتهم أي طموح، أو تطلع إلى ما باتت تبدو لهم أحلاما صعبة ومثالية؟ لقد سلطت الأحداث الأخيرة، التي حصلت في طرابلس منتصف الشهر الجاري الأضواء من جديد على عنصر ظل مغيبا عن المعادلة السياسية الليبية، وهو الشعب الليبي نفسه. ولطالما كان كثيرون يقولون في السنوات الأخيرة أين اختفى ذلك الشعب؟ وكيف يرضى الليبيون بما يحصل في بلادهم؟ ولماذا لا يسمعون أصواتهم وينتفضون ويقلبون الطاولة على الجميع؟ ولماذا يبدون سلبيين وغير مهتمين، أو مكترثين بحكم المليشيات والعصابات التي ترتع في بلادهم، وقابلين ومطبعين مع حالة الانقسام التي عملت بعض الدول على تثبيتها وتكريسها في صفوفهم، حين نصبت في الشرق والغرب دمى متحركة توجهها عن بعد خدمة لمصالحها وأطماعها، دون أدنى اعتبار للتطلعات والمصالح الليبية المشروعة؟ لكن هل تبدو الظروف الحالية مهيأة لظهور قيس سعيد آخر في الشمال الافريقي؟ على المدى القصير ربما يبدو من الصعب أن يحصل ذلك لثلاثة أسباب على الأقل، وهي أن الأطراف التي تمسك الآن بالسلطة، لن تفرط فيها بسهولة، حتى لو اقتضى الأمر أن تتوصل إلى تفاهمات جديدة حولها. كما أن صعوبة حصر السلاح بيد الدولة في الوقت الحالي، بالإضافة إلى توسع وتعمق التدخلات الخارجية يحولان دون ذلك. غير أن الطريق قد يفتح في وقت آخر أمام من سيقول لليبيين لقد أعطيتم السياسيين والعسكريين أكثر من فرصة، لكنهم لم يكونوا أهلا لها، ولم يعد أمامكم إلا أن تقبلوا بي لأني أنا الوحيد الذي أمثل إرادتكم. ولا شك أن صورة قيس سعيد ستكون ماثلة حينها أمامهم أن أتيح لهم أن يختاروا رئيسهم.
كاتب وصحافي من تونس