إيهاب الحضري
قبل سنوات تابع العالم فضيحة تحرش الرئيس الأمريكى بيل كلينتون بمتدربة فى البيت الأبيض، وتنافست صحف الإثارة على نشر تفاصيل مُلتهبة. وقتها كان التحرش تهمة تلتصق عادة بمديرى العمل، الذين يستغل بعضهم المنصب الوظيفي، فى الضغط على تعيسات الحظ اللاتى يقعن فى محيطهم، أما الناس العاديون فكانت خطاياهم تتراوح بين معاكسة عابرة أصبحت مع الزمن تكتسى بطبقة من السماجة، وهتك عرض لا يُقدم عليه إلا القليلون. ومع الوقت اتسعت رقعة التحرش فى الفضاءين الواقعى والإلكتروني، لكننا لا نتذكر خطورة الظاهرة إلا مع كل فضيحة!
تتفجر القضية ونتبارى فى التعليق عليها، ونكتفى بأن ننفث ما فى أعماقنا، بينما تجد برامج التوك شو محورا لمادة ساخنة، تتيح لمقدميها فرصة ارتداء ملابس الوعّاظ. وبدلا من التعامل الجاد مع المشكلة والعمل على علاج جذورها، يتحول الأمر إلى فقّاعات لا تلبث أن تتطاير دون معالجة حاسمة. وهكذا كدنا ننسى نسبيا قضية الشاب المتحرش الذى قيل أن جرائمه شملت عشرات الفتيات، بعد أن أفرغنا انفعالاتنا فى المعارك الكلامية المتبادلة.
من إيجابيات الواقعة السابقة، أنها جعلت بعض الضحايا يتجرأن على البوح بأسماء متحرشين جدد، وامتد ذلك إلى الساحة الثقافية التى شهدت اتهام ناشر كبير بالتحرش، وسوف يحسم القضاء مصير الشاب والناشر وغيرهما ممن يتساقطون تباعا. غير أن هناك مشكلة حقيقية، تتمثل فى أن أى نقاش يظل صحيا حتى يبدأ خلط الأوراق، بادعاء حكايات تحرش مزعومة لتخليص حسابات قديمة، تُعتبر ذيولا لعلاقات عاطفية فاشلة تمت برضى الطرفين، فقد منحت الهوجة الأخيرة بعض الفتيات وسيلة مُختلفة للانتقام، عبر توجيه اتهامات بالتحرش لأحبة ابتعدوا عنهن، تماما مثلما يُلقى العاشق المهجور ماء النار على حبيبته لينتقم لمشاعره!
وسط كل ذلك تتداخل التهم، فتمزج أحاديثنا الابتزاز بالتحرش، وهتك العرض مع الشروع فى الاغتصاب، وتتلاشى أحيانا الحدود بين تلاقى إرادة الطرفين التى تُسقط معظم الجرائم، وبين استعمال الهيمنة الذكورية قهرا، لاستلاب الأنثى بعضا من جسدها أو كله. المهم أن تعلو أصواتنا بالصخب، لتضيع القضية الأساسية، رغم أنها تتكرر منذ قرون، فالتاريخ لا يخلو من قصص مشابهة. أذكر إحداها كى أثبت خطأ الادعاء بأن ملابس الفتيات مسئولة بشكل أساسى عن هذه الجرائم، لأننى أرى أن اعتماد هذا المنطق فى الحوار أصبح مستفزا، حيث يلجأ البعض إلى التبرير السهل، بتحميل الضحية مسئولية خطأ الجاني، ولم يعد مروجو هذه الرؤية يتوقفون أمام السؤال عن أسباب التحرش بالمحجبات والمنتقبات، بل تفننوا فى ابتكار مبررات أكثر سطحية. قبل قرون كان زى المرأة بريئا من هذا الاتهام سابق التجهيز، غير أن ذلك لم يمنع شاعرا كبيرا كالفرزدق من التحرش بالنساء، بل إن ممارسته للابتزاز سبقت جهود شاب الجامعة الأمريكية بسنوات طويلة، كان الشاعر الكبير يراود أى امرأة تعجبه عن نفسها، فإذا صدته هددها بكتابة قصيدة يزعم فيها أنها على علاقة به! وذات محاولة لم تجد إحدى السيدات أمامها سوى إبلاغ زوجته، وتم نصب كمين له واصطياده مُتلبسا. خلّدت القصة مقولة الفرزدق لزوجته: «ما أقبحك فى الحلال وما ألذك فى الحرام»، لكن الحكاية لم تذكر أن الزوجة اتخذت موقفا حاسما من الشاعر المُبتز، وكذلك لم يفعل البشر على مدى قرون بعدها، فقد ظللنا نتداول ما حدث كمجرد طُرفة، رغم أنها جريمة مُكتملة الأركان.. ولا أعتقد أن أسلوب تعاملنا اختلف كثيرا، فمازلنا نكتفى فقط باحتراف الصراخ عند كل جريمة!
الأستاذ إيهاب الحضري صحافي وكاتب مصري شهير مدير تحرير أخبار اليوم المصرية (تم نشر المقال بالاتفاق مع الكاتب)