عبد اللطيف مجدوب
يقتاتون من الترجمة
لم يغد الأمر وقفا على الدول الفرانكفونية، أو بالأحرى المستعمرات الناطقة باللغة الفرنسية، بل امتد قحط وجدب هذه الأخيرة إلى الجامعات ومعاهد البحوث الفرنسية، ولم تعد بإمكانها مسايرة المستجدات والبحوث، على النطاق الواسع، دون ركوب اللغة الإنجليزية كمطية في المعرفة وتبادل الخبرات واستكناه المجاهل، ما حدا بالسلطات الفرنسية إلى تبني تدريس اللغة الإنجليزية في صفوف مدارسها الأولية.
ولْنقل بصريح العبارة إن معاهد البحوث الفرنسية أصبحت، منذ العقد الأخير، تعتاش على الترجمة حتى تساير المستجدات في الحقول المعرفية والعلوم الدقيقة، إن على المستوى التكنولوجي العام أو التخصصات الطبية والمناخية والدراسات المستقبلية، فالفرانكفوني أو المثقف/العالم وحيد اللغة الفرنسية أضحى، في عرف الثقافة الفرنسية الجديدة، متجاوزا أو أميا بالمعنى الجغرافي للغة الدولية.
فإثر التطورات التي رافقت الثورة الفرنسية، من جهة، والاستعمار الفرنسي لعدد من دول العالم، كتونس والمغرب ولبنان وسوريا… وتفوق الفرنسية أحياناً على اللغة اليومية المتداولة، لم تكن تمتلك مقومات الصمود أمام الغزو الحضاري؛ لكن ومنذ أوائل القرن العشرين أخذت الفرنسية في الانحسار أمام الاكتساح العالمي للنموذج الأمريكي، وهكذا سيتواصل انحدارها مع ظهور الثورة الإعلامية، خاصة الإنترنت واعتمادها على الإنجليزية بشكل أساس.
الفرانكفونية المغربية
إن التركيز على الفرانكفونية كثقافة ومنهل ومرجعية فرنسية، بدلا من لغة أخرى، فقط كوعاء لهذه الفرانكفونية التي يعود تاريخها إلى عقود خلت، امتدت جذوره لتشمل حقبة الاستعمار الفرنسي بالمغرب، وما بعدها، وبحرص شديد، من السلطات الفرنسية، على أن يبقى المغرب خاضعا للتوجهات الفرنسية في مجالات حيوية كبرى؛ في المال والاقتصاد والتجارة.. وتظل النخبة الفرانكفونية (الأطر المغربية ذات التوجه الثقافي الفرانكفوني) حارسا أمينا على المصالح الفرنسية العليا داخل المغرب، وبأيديها المفاتيح للولوج إلى الاستثمار والمال والتسويق. بل كانت هذه النخبة وراء عقد كل الصفقات وتحرير العقود والضمانات المالية والتقنية، التي لا يمكن تصور جريانها بدون تلقي إشارة الضوء الاخضر من السلطات الفرنسية الموالية لها في باريس؛ حتى إن حجم المبادلات التجارية المغربية تحتل فيها فرنسا حصة الأسد، بما يقارب %80، علاوة على مصدرها الرئيس لاقتناء الأسلحة والتقنيات القطاعية؛ فأصبح للاقتصاد الفرنسي داخل الأسواق المغربية وجود حيوي قادر على اتخاذ قرارات جد مصيرية، منها – على سبيل المثال –الساعة الإضافية التي ارتأتها مصالح فرنسية كآلية مسايرة لظروف إنتاجيتها داخل الأسواق المغربية في ما يخص قطاع السيارات.
وكان المغرب يعتبر إلى حين تلميذا نجيبا لأستاذته فرنسا، فلا يمكن بحال تصور نزاع أو تمرد يصدر عنه، والحال أن دولا فرانكفونية عديدة أعلنت جهارا تمردها على السلطات الفرنسية، بل عادت لتقيم حجم مبادلاتها التجارية والاقتصادية على ضوء اقتصاديات الدول الأنجلوفونية.
وقد أكد خط الإحصائيات الحديثة أن مؤشرا أخضر كان في صالح الدول الأنجلوفونية، مقارنة لها بدول أخرى لم تنعتق بعد من جحيم الفرانكفونية التي شهد على تخلف الكثير من القطاعات، ومنها التعليم خاصة.
“الأرشيف الاستعماري”
لم يعد خافيا على مراقب أو باحث متمرس بتاريخ الوجود الفرنسي داخل المغرب أن حقبة الاستعمار الفرنسي جعل فرنسا تضع أيديها على أرشيف غني من الأسرار الدبلوماسية والسياسية الذي ربط بين البلدين لأكثر من أربعة عقود، كما تمتلك وثائق على جانب كبير من الخطورة، بأسماء وسطاء وعملاء مغاربة، مع حساباتهم المصرفية، وكذا صفات بعضهم المشبوهة على المستوى الاستخباراتي. هذه “الوثائق” السرية فوق العادة باتت ورقة ضغط بيد فرنسا، للإبقاء على الولاء لها، فمجرد تحريك أو الكشف عن بعض منها سيزلزل وجودهم!.
بيد أن تغيير موازين القوى، وفي الظرفية الراهنة التي تشهد على التقارب المغربي الإسرائيلي والأمريكي، قد يفضي بالمغرب إلى إعلان “تمرده” وانسلاخه من الشرنقة الفرانكفونية، في محاولة لانعتاقه من هذا “الولاء” والخنوع، ليصبح مفاوضا ندا للند دون “مركب” استعماري فرانكفوني. إلا أن طفرة من هذا القبيل قد تستوجب قرارا ثوريا وجريئا، يضع المصالح المغربية فوق كل اعتبار سياسوي أو فرانكفوني.