الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب: فندق البومة..

admin
كتاب واراء
admin19 يونيو 2021آخر تحديث : منذ 3 سنوات
الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب: فندق البومة..

عبد اللطيف مجدوب

أقصوصة كارا وعائلتها؛ من خلال زيارتهم لهذا الفندق أو بالأحرى إقامة داخل ضيعة بضاحية إنجليزية قرب لندن؛ كان اختيار الأم لها بدافع التخلص من أعباء الروتين اليومي وهجرة وسائل التواصل الإلكتروني؛ لكنهم سيصطدمون داخل هذا الفندق بأسرار وألغاز ظلت محل انشغال الأم جانيت ومالك الفندق هوارد..

في الطريق إلى الفندق

كانت كارا مستندة برأسها إلى نافذة السيارة تتفرس سيارات أخرى تتوالى أمام ناظريها على الطريق السيار؛ وفي آن تتلاحق بمخيلتها تساؤلات عن أصحابها والطبقات الاجتماعية التي يتحدرون منها؛ وإلى أين هم ذاهبون.. وفيم يفكرون؟ كانت الأم أحيانا تتجاوز سيارات أمامها فتجدها كارا فرصة للإلقاء بنظراتها إلى داخلها.. ابتسمت لرجل وامرأة كانا يتجادلان داخل سيارة فورد سوداء؛ اعتقدت أنهما يتجادلان حول أمور سخيفة. فجأة ضاعفت الأم من سرعة السيارة؛ فاختفى مشهد سيارة فورد لتحل محلها سيارة أخرى بها زوجان يقعدان في الواجهة؛ لم يكونا يتحدثان؛ بدا لها أنهما في استرخاء؛ قد يكونان في الاستماع إلى مذياع السيارة؛ بينما كان هناك في المقعد الخلفي شابة تبدو نائمة إلى جانب شاب يلهو بلعبة الفيديو؛ ظهرت عليهم أمارات السعادة؛ كما كان يتبادر إلى مخيلة كارا؛ ومن المحتمل أنهم عائدون من رحلة استجمام بشاطئ أو زيارة لقصر فخم.

تداعت لها صورة والدها حينما قالت أمها؛ وكلتا يديها على مقود السيارة: “سوف لن ندوم طويلا على الطريق السريع”، سألها مارتن في مقعده الخلفي وهو يتثاءب: “وهل هو بعيد؟”، التفتت إليه كارا وهي تلقي بنظرتها إلى فم مارتن الذي كان فاغرا؛ فأحست وكأن بمقدورها رؤية الطريق من أسفل حلقه إلى معدته، ثم نظرت إلى أمها: “لماذا لا نذهب في عطلة حقيقية؟”؛ فردت الأم سريعا: “هذه عطلة حقيقية؛ سترتاحين لها حتما..”.

لم تكن كارا تعلم إلى أين هم متجهون في إجازتهم؛ ربما كانت مفاجأة أمهم؛ فمنذ خمسة أيام وبشكلٍ فجائي قررت أن يتركوا منزلهم لمدة أسبوع؛ لذلك تخيلت كارا أنها مستلقية على ساحل بإسبانيا ترقص على إيقاع أغنية “شوارع ريو..” أو تتسوق من أحد أسواق نيويورك.. لكنهم وهم يتركون الطريق المؤدي إلى المطار؛ تأكد لها بأن مخطط أمها شيء آخر؛ من المحتمل أن يكون عبارة عن إمضاء أسبوع داخل مقطورة بحقل رطب خارج بلدة ساحلية كئيبة!

تفاقمت خيبة كارا؛ حينما تركوا الطريق السيار وتغلغلوا داخل ضاحية؛ مروا من خلال قرى صغيرة؛ ومن ثمة عادوا لا يصادفون من حواليهم سوى حقول مترامية حيث لا أثر لوجود سيارات هناك، وعلى حين فجأة أوقفت الأم السيارة فسألها مارتن “وهل وصلنا.. إني جائع؟!”، نظرت كارا خلف الزجاجة؛ فقد شرع الظلام ينشر عباءته ولم يعد بإمكانها تبيان الأشياء بوضوح؛ بينما عمدت الأم إلى خارطة أخرجتها من تحت المقعد؛ وحاولت بعناء معرفة موقعهم؛ فباغتتها كارا بسؤال: “هل ضللنا الطريق..؟”.

* الأم مغتاظة”.. ليس بالكثير”؛ بيد أن كارا لم تبال برد أمها فعادت تسأل “ولماذا لم تستعملي هاتفك؟”

*ابتسمت الأم معقبة “.. فكرة جيدة..”؛ لكن ما إن أخرجت الهاتف من حقيبتها حتى تغيرت لهجتها:

* “.. آه.. ليس هناك إشارة الاتصال”؛ فصرخت كارا في وجهها “لا أصدق..” فأخرجت بدورها هاتفها للتحقق.. فقد كانوا على بعد كيلومترات من أقرب مركز قروي؛ حيث سيكونون في استغناء عن مهاتفة أية جهة طلباً للمساعدة. فجأة ركل مارتن مقعد كارا من الخلف، فاستدارت إليه وحدجته بنظرات صاعقة؛ في حين تابعت الأم طريقها مطمئنة لهم بجملتها:

* سنواصل.. إنّي متأكدة بوجود علامة طرقية أو منزل أو كشك للهاتف”.

الأم تضل الطريق

ساروا ببطء من خلال معابر ضيقة، وبعد بضعة كيلومترات انتهى بهم السير عند مفترق طرق، توقفت السيارة؛ وجعلت كارا تجيل بنظراتها علها تصادف علامة طريق.. فالتفتت إلى أمها “.. قد تكون سقطت بفعل الرياح.. لكن دعيني أنظر..”.

فتحت باب السيارة تريد الخروج؛ وما كادت تفعل حتى داهمها عند النافذة وجه كلب بني ضخم؛ كان ينبح بشدة ويمعن في العداء؛ كاشفا عن بياض أسنانه وأعينه كانت محملقة بقوة باتجاه كارا؛ بينما كان طوقه يشع بضوء أحمر.. لم يسعها إلا أن صدت الباب واندفعت نحو الداخل بين ذراعي أمها. فصرخ صوت في الظلام:

* “.. ماكس.. ماكس..” وبعد لحظات لاحت قامة رجل مديدة؛ حاول إبعاد الكلب عن السيارة.. نظر من خلال النافذة.. وتلفظ بأشياء لم تستبنها كارا؛.. حينها انحنى الرجل قليلا ليكون في مواجهة كارا وليطمئنها بعبارة:

* “.. لا تقلقي.. فلن يؤذيكِ.. ماكس محب للضيوف”، عاينته كارا يتربص بالسيارة ويحوم حولها والضوء يشع من طوقه.. ثم التفتت إلى الرجل؛ كان يبدو في الأربعينيات من عمره؛ بشعر أسود يرتدي سترة سوداء.. وإذا ابتسم ظهرت له أسنان ناصعة البياض؛ فأحست من أول وهلة بكراهيته. سأل الرجل الأم “.. هل ضللتم الطريق؟”؛ أجابت الأم:

* “.. نعم لقد.. كنا نبحث.. عن”؛ فقاطعها “فندق البومة..”

الأم: “نعم حقا.. ولكن كيف عرفت؟”.

الرجل: “إنه الوحيد الذي يوجد بهذه المنطقة”؛ لاحظت كارا أن أمها ارتاحت لسماع اسم الرجل: “.. مرحبا هوارد.. جيد أن ألتقي بك..”

*هوارد “.. كانت هناك علامة مشيرة إلى الطريق.. لكنها سقطت السنة الماضية بفعل العواصف.. تابعوا طولاً.. حوالي 800م ستجدون منعطفا على اليسار والذي سيفضي بكم في الأخير إلى “فندق البومة” حيث ستتمتعون بمكوثكم فيه”.

شكرت الرجل وتابعت سيرها.. بينما كانت نظرات كارا تلاحق الرجل من الخلف حتى ابتلعه الظلام.. فلم تعد ترى سوى ضوء أحمر كان ما زال يومض من طوق الكلب.

الحلول بالفندق

أخيرًا تنهدت الأم: “.. ها هو”؛ ثم انعطفت بالسيارة نحو اليسار؛ لينطلقوا في طريق وعر جعل مارتن يقف ويسأل في حالة غفوة “أيننا نحن؟”. الأم تنظر إلى علامة خشبية معلقة على باب معدني ضخم؛ كانت هناك صورة لبومة تحملها العلامة مع اسم “فندق البومة”؛ التفتت الأم إلى كارا مع ابتسامة تغمر وجهها: “كارا حبيبتي.. من فضلك هل لك أن تفتحي البوابة؟”. تأهبت كارا للخروج باتجاه الباب. كان الجو باردا والصمت يلف المكان؛ وما إن أخذت تقترب منه حتى انتهى إلى مسامعها صياح بومة.. مع خشخشة دبت من خلال شجيرات حولها؛ فاستشعرت وكأن أحداً يراقبها.

“يجب أن أكون البومة” لفظت بها وهي تدنو من رتاج الباب؛ ومن خلاله أمكن لها رؤية أشكال لعدة بنايات صغيرة تحيط ببناء ضخم. كانوا قد وصلوا؛ بيد أن الفتاة كارا لم تكن تعلم شيئا عن المكان؛ فأصدرت البوابة صريرا مدويا وهي تقوم بفتحه؛ وفي آن لوحت لأمها لتلجها.. وتتخذ موقفا بركن هناك.. لكن ما إن همت بإغلاق الباب.. حتى سمعت بهمسة تلامس أذنها: “.. كارا.. ساعديني.. دعيني أخرج”؛ فالتفتت إلى الخلف فلم تجد أحدا!

فندق البومة عبارة عن مسكن ريفي ضخم محاط بفناء؛ ذا نوافذ تبدو معتمة؛ فقط ضوء شاحب انتشر داخل رحاب الفناء؛ وأتى على بركة مستديرة يتراءى بوسطها تمثال فضي غريب؛ كان له وقع خاص في نفس كارا؛ وهي تحدق فيه مما حملها على الظن بأن يكون للبومة؛ فأرادت ألا ترعب أمها مكتفية بعبارة الإعجاب “.. يا للروعة!” بيد أن شقيقها مارتن ظل يضحك منها بينما هي تدعوه للصمت واضعة سبابتها على شفتيها؛ حينئذٍ رأت عدسة كاميرا ترصدهم؛ فقالت الأم “إنهم أشاروا لي بوجود مفاتيح تحت تمثال البومة على اليسار؛ فرفعت نصب البومة قليلا لتعثر تحته على مجموعة مفاتيح.

فتحت الباب فولجوا إلى المنزل الرئيس؛ كان في شكل صالة تحتوي على خزانة وطاولة؛ تحمل صورة مجسدة لردهة البومة، في حين ظهر في أقصى اليسار سلم يقود إلى الطابق الثاني والذي يفضي بدوره عبر سلم آخر إلى طابق آخر.. التفتت الأم إليهم وهي ما زالت تحدق في الطاولة:

* “انظروا.. إنه تصميم للمنزل؛ التقطته مع بطاقة ترحيب. توقعت كارا أنه منزل فيكتوري عتيق سيكون حافلا بالتحف الأثرية، لكن أدوات المطبخ ظهرت حديثة؛ منها المشواة الكهربائية وبعض الخزانات إلى جانب مغطس وغسالة صحون.. مع وجود خزائن قابعة بيسار المطبخ جوار ثلاجة بملصق حروف أبجدية.. تنتهي الغرفة بنافذة عريضة وطاولة مستطيلة حولها ستة كراس. عبرت الأم عن اندهاشها: “يا له من مطبخ مدهش!”؛ فسألت كارا “أيننا نحن؟”؛ ردت الأم:

* “قلت لك إننا.. داخل فندق البومة..”. جلست كارا حول الطاولة ثم فتحت بطاقة الترحيب وتلت سطورها: “أعزائي الضيوف؛ نأمل أن تسعدوا بمكوثكم بفندق البومة؛ أحسن مكان للتخلص من ضغط الحياة اليومية. للفندق أربع إقامات للإجارة؛ فضلا عن المنزل الرئيسي الذي يحتوي على ثلاثة بيوت ريفية صغيرة. كل نزلائنا لهم الحق في استعمال قاعة الرياضة وساحة الألعاب.. مرحبا بكم لتكتشفوا الأراضي والغابة المجاورة.. وبحيرة صغيرة حيث يمكنكم السباحة في الصيف.. وخلال وجودكم بيننا نأمل أن تتركوا تسجيلا لإقامتكم على مدونتنا الخاصة… أجمل المتمنيات”. فريق فندق البومة.

ذهب مارتان وكارا حتى ابتعدا قليلا عن فناء الفندق.. فوجدا نفسيهما بضيعة مديدة الأطراف؛ تكتنفها أشجار اللبلاب.. حاولا التسلل من خلالها.. ولم يعد يتناهى إلى مسامعهما سوى صياح البوم حينا وحفيف الأشجار.. مع الطلعات الأولى لصرار الليل حينا آخر. كان المكان موحشا، وخشية من أن يتعرضا لأذى قفلا عائدين.. وزادهما رعبا نقرات الطائر النقار في أعالي الأشجار؛ يغرد حينا وينقر الأغصان حينا آخر.

ظلت عديد من الأخيلة تتوارد على ذاكرتها وهي مستلقية في سريرها تلك الليلة؛ حاولت النوم لكن ما إن شرع الكرى يداعب جفونها حتى استيقظت مذعورة على وقع خبطة على باب الغرفة.. أضاءت المصباح وجالت ببصرها يمنة ويسرة خارج الغرفة.. ثم تعود إلى شرفتها ومنه ألقت بنظراتها إلى الظلام الدامس.. ولم تستنفر سمعها سوى صيحات البوم تزعق في كل ناحية مختلطة بنقيق الضفادع. أبقت على الفانوس مضيئا في محاولة لطرد كل الأخيلة والأشباح التي كانت تتربص بها كلما همت لتستلقي في سريرها… مضت لحظات بين الغفوة واليقظة؛ وعلى حين غرة؛ انطفأ المصباح وابتلع الغرفة ظلام مخيف؛ وإذا بارتجاجات كانت تتأرجح بين الشدة والفتور؛ اهتزت لها ستائر النافذة لتكشف عن جسم غريب أشبه بأغصان شجرة تنقر زجاجة النافذة… استيقظت وبقيت مكومة داخل فراشها والهلع يعصر قلبها ويهز أوصالها.. حاولت الصراخ ومناداة أمها في الطابق السفلي.. لكنها عدلت عن ذلك اعتقادا منها أنها مجرد عاصفة عابرة. لكن بعد حين عادت لتكوم الأغطية من حولها فذهبت في نوم عميق إلى ساعات متأخرة من الصباح التالي؛ حيث ستنتفض على وقع طرقات حادة على الباب وصرخات لمارتن: “.. كارا..! أما زلتِ نائمة.. الفطور جاهز”.

كارا…

لم تلق أمها بالا إلى كارا وهي تسرد عليها المشاهد المفزعة التي رافقتها الليلة الماضية؛ واكتفت بالقول: “.. مشاهد عادية.. لتغيير الإقامة وترك الوسط العائلي.. لا تقتحمي أدغال الغابة بمفردك؛ لدي أشغال تنتظري هنا.. وإلا كنت رافقتكما في التنزه”.

* كارا محملقة في أناقة اللباس الذي ظهرت عليه أمها: “.. يعني أنك.. سبق لك أن وطئت قدماك هذا الفندق؟”. سكتت الأم قليلا قبل أن تجيب:

* “كان ذلك في تاريخ قديم صحبة والدك قبل…”، قاطعتها كارا وهي تتأهب لمغادرة المطبخ:

* “قبل أن تنفصلا.. هاه..؟”؛ حدجتها بنظرات أسى قبل أن ترتشف قهوتها.

أسرت كارا في أذن مارتن: “لعبة التخفي.. سيختفي كل منا في هذا الصقع وعلى الآخر العثور عليه.. هاه اتفقنا؟”.

كارا فتاة دلوعة على وشك أن تستوفي العقد الثاني من عمرها.. شقراء عنيدة؛ محبة لاستقصاء ما حولها.. وتواقة إلى الوقوف على حقائق الأشياء… ميالة إلى الرومانسية والانزواء عن الآخرين؛ لم تكن لتأبه بنبات العليق يرشق ساقيها بالشوك وهي تجدّ سيرها بطريق مترب ضيق تناثرت من حوله أشجار الصنوبر المحفوف بنبات العليق.. توغلت كثيرا داخل متاهات ذات ممرات معشوشبة؛ تفضي تارة إلى بركة وأخرى إلى مقاعد خشبية نخرة. وقفت هنيهة لتلتقط أنفاسها من عناء السير؛ وتنحي عنها الأشواك العالقة؛ وما زالت كذلك إذا بجانب بناية قديمة يلوح لها خلف بعض الأشجار؛ خطت خطوات حذرة باتجاهها؛ فبدت لها وكأنها مهجورة من خلال صدى الرياح الذي كان يعوي من حواشي نوافذها. صعدت سلما بالقرب منها؛ انتهى بها إلى غرفة.. فتملّكها الشعور بالخوف وهي تصغي لضجيج صادر عنها لم تستبنه بوضوح..! وعلى حافة حائط موال لبابها لمحت أوعية صغيرة بحجم فناجين القهوة؛ كلها تحمل شعار فندق البومة. ألقت بيدها على واحدة لتعثر على مفتاح بقعرها.. أدارته بفتحة الباب… سينفتح لها على وقع فرقعة الرتاج وكأنه ظل لمدة طويلة مغلقا؛ عظم اندهاشها وهي تقف أمام علبة معدنية طويلة تحتل صدارة الغرفة؛ بإطارات مربعة على شكل شاشات تلفزة؛ كل منها تعرض لموقع معين بداخل وخارج جنبات الفندق؛ تراءى لها ومن خلالها أمها في المطبخ صحبة هوارد وأخوها مارتن وهو يقف عند شاطئ بحيرة؛ فنكست على عقبيها تريد الانفلات قبل أن يداهمها أحد العاملين ببرج المراقبة، لكن ما إن همت بعبور العتبة حتى تداركتها همسة من الخلف :

* “كارا.. كارا.. مرحبا.. فكي أسري.. دعيني أخرج!”. ولشد ما كان روعها وهي لم تعثر على أثر لأحد.. فأطلقت ساقيها للريح من خلال أحراش وحشائش.. كانت مذعورة لا تلوي على شيء.. فقط كانت تصرخ وتلهث: “مارتن.. مارتن..! أدركني..”. صوتها كان يضج في تلك الروابي يتردد صداه لتجفل منه الطيور والضفادع.. لكن وبعد لأْي سيخف روعها كلما سمعت صيحات مارتن تأتي من بعيد: “كارا.. كارا.. أين أنت.. أنا قادم”. فجأة تتوقف لتختلس النظرات من حولها؛ محاولة استبيان الخشخشات التي كانت ترافقها حول شجيرات العليق، وكأن أحدا يترصد تحركاتها منذ أن غادرت برج المراقبة. ولشد ما كان ذعرها قويا وهي تتحسس يدا تربتُ على كتفها اليمنى.. التفتت فإذا بمارتن يقهقه مرددا: “وصلتني صيحاتك من بعيد.. ورحت أقتفي صداها.. هل أنت بخير..؟ أرى أن خدوشا كثيرة أصابت ساقيك.. هيا بنا..”.

البرج اللعين

لزمت الصمت أثناء تحلقهم على مائدة العشاء؛ وراحت من فينة وأخرى تختلس نظرات إلى أمها وقد بدت منشرحة على غير عادتها فتوجهت إلى كارا: “عزيزتي.. آمل أن تكوني قد وجدت سعادتك في هذه الإجازة..”. مارتن يرد واضعا كفه على فمه.. وقد غالبته الضحكات: “… نعم كلنا.. سعداء.. لكن ثمة ألغاز تكبر كلما زدنا تعرفا إلى هذا الفندق الغريب..”.

الأم مبتسمة: “طبعا.. إنه لأمر عاد طالما أنكم أول مرة ترون هذا المنتزه الريفي..”. في هذه الأثناء لم تستطع كارا كظم غيضها فتوجهت إليها مكشرة: “.. وأين هوارد ألم يكن معك..؟!”.

*الأم متأففة: “.. زيارة روتينية خفيفة.. سأل عما إن كنا بحاجة إلى خدمات أخرى..”.

* كارا: “قد يكون جاسوسا مقنعا في صفة مالك الفندق..!”.

* الأم: “.. لا.. لا.. هو شخص ظريف.. ستعتادين على رؤيته وحينها ستغيرين رأيك فيه..”.

لم تستسغ كارا كلام أمها؛ فنهضت متجهة إلى خارج المطبخ.. دلفت إلى غرفتها وتكومت في السرير؛ بعد لحظة ستتذكر الحاسوب بجوار المنضدة، ضغطت على زر التشغيل لتستضيء الشاشة بشعار البومة؛ شعار الفندق مع كلمة.. مرحبا اضغط هنا، ولجت إلى صفحة أخرى تحمل ثلاث بوابات:

مرحبا بكم في فندق البومة؛

اكتشفوا مرافقنا السياحية؛

سجلوا انطباعاتكم.

حرصت على استكشاف موقعهم الجغرافي في ما إذا كان هناك مركز شرطة أم لا.. لكن سيخيب أملها وهي تنتقل من زر إلى آخر؛ فكانت أمامها بوابة لتسجيل انطباعاتها فطفقت ترقن: “إنه لشبيه بسجن قروي.. حيث لا إشارة هاتف ولا برامج تلفزيونية.. ولا أرقام للنجدة.. ولا أصدقاء..”؛ عند هذه الكلمة الأخيرة سمعت هاتفا صاعدا من أعماقها: ”.. بلا يوجد أصدقاء فعليك أن تتخلي عن عجرفتك قليلا.. ها.. ها.. ها..”. في الحال تخلصت من الحاسوب ونهضت واقفة.. تأملت قليلًا وكلها تصميم على أن تصل إلى سر لغز هذا الطيف الذي بات يطاردها.

تسللت إلى أحد رفوف المطبخ فاستلت خنجرا ووضبته بحزام بنطلونها؛ ثم خرجت مهرولة قاصدة برج الفندق؛ كان في نيتها العثور على شخص يتحكم في كاميرات الفندق وجنباته.

الشبح المخيف

كل الشاشات كانت تشتغل وتعرض لصور عدة؛ بداية من المطبخ ففناؤه ثم البحيرة وأخيرا أكواخ مترامية هناك.. تعج بالفضلات وبقايا أدوات مستعملة. عثرت على كوة سرداب كان يفضي إلى أماكن مجهولة.. خطت خطوات حذرة ويدها ممسكة بالخنجر.. وعيناها جاحظتان يتطاير الشرر منهما؛ كلما تقدمت خطوة أخذت توشوش لوحدها: “اخرج أيها النذل.. أعلم أنك تسكن هذه المزبلة الإلكترونية.. أتسمعني؟”. لكن وميضا تراءى لها من بعض الشقوق؛ فاقتربت تريد اقتحامه.. أخذ جبينها يتقاطر عرقا لحرارة المكان؛ انزاحت بها رجلها اليمنى لتتدحرج إلى داخل غرفة ضيقة؛ لاح لها ظل شخص يقعد إلى طاولة يدخن الغليون: “مرحبا.. هل من أحد؟”، نطقتها بتوجس.. وهي مسمرة بمكانها تنتظر من ذلك الشخص أن يتململ في مقعده؛ فلقيت ردا بصوت مرعب وكأنه زئير أسد: “.. مرحبا.. مرحبا.. الآنسة كارا..” وما كاد يلتفت إليها حتى ولت بوجهها مذعورة ورمت بالخنجر جانبا تريد الخلاص؛ كان بوجه جمجمة عظمية تشع عيناها بوميض أحمر قان..! تراجعت قليلا إلى الخلف؛ وبينما كانت أنفاسها تتلاحق إذا بهمسة تعاودها: “.. لا تقلقي.. كان والدي، ولم يكن ينوي إذايتك.. هوني عليك.. كارا.. أنا.. أح..”.

* كارا صاعقة ومهرولة وظلام الليل شرع يرخي بسدوله: “..لا.. لا.. لا.. أمي.. مارتن.. مارتن.. النجدة..!”. فجأةً زلت قدمها فوقعت في وهدة.. تماسكت لتقف على قدميها فلم تسعفها أية حيلة.. فاستسلمت للبكاء والنحيب ونظراتها ما زالت متوجسة من أن تنقض عليها يد غريبة في ذلك الليل البهيم؛ في هذه الأثناء كانت أمها بمعية هوارد يهرولان داخل الغابة بحثا عنها..

* الأم إلى هوارد “.. يسودني ظن بأن صوتها منبعث من هذا الاتجاه.. لكن لمَ سرعان ما اختفى.. إن في الأمر لخطْب..”. قاطعها هوارد بنبرة صارمة؛ أعقبتها صيحات مدوية له: “.. كارا.. كارا..! نحن.. هل تسمعينا”، فقط لم تكن غير صيحات البوم تتردد في فضاء الغابة؛ لكن هوارد فجأة صاخ بأذنيه تجاه جذع شجرة فانتهت إلى مسامعه تنهدات متقطعة؛ كانت لكارا خلف شجر اللبلاب.. عثرا عليها شبه مغمى عليها.

كارا لا تصدق!

حدّجت فيها أمها بنظرات حزينة: “حبيبتي كارا.. هي مجرد أخيلة مما شاهدته.. فقد كنت نائمة!”.

* كارا غاضبة “.. كيف..؟! إنكم تسخرون مني..”.

* هوارد بنبرة الواثق “نعم.. كنت تعبرين مسالك الغابة وأنت نائمة.. فأنت..”.

* أمها “.. نعم نهضت من فراشك وأنت نائمة.. وهذا يقع أحيانا.. فلا تنزعجي حبيبتي.. هدّئي من روعك..”. كارا محاولة النهوض فلا تستطيع: “متى سنعود إلى منزلنا.. فقد سئمت المكوث هنا وسط هذه الأشباح..؟! “. تقدم منها هوارد وقد أحضر بعض أدوية الإسعاف: “.. لا حرج.. ستتعافين.. مجرد رضوض خفيفة.. يلزمك قسط من الراحة”.

في هذه الأثناء دلف إلى القاعة مارتن وهو يتثاءب: “ماذا وقع لك كارا.. كان عهدي بك أنك داخل غرفتك؛ لكنك غادرتها لوقت غير معلوم..؟”. كارا تنهره وتقذفه بسيل من الشتائم:

“جبان.. يهاب الظلام.. كنت أستغيث بك بينما كنت تغط في نوم عميق.. يا للحقارة!”.

* الأم تنهض واقفة: “.. كفى كارا.. كفى إنه أخوك ولطالما كان يسأل عنك.. وأنت ترميه بهذه العبارات!”.

الشاب المهاهاسي

في غضون يومين؛ أحست كارا بتعافيها من الإصابة؛ كانت نفسها متوثبة للخروج إلى العراء؛ بيد أن الأشباح لم تكف عن زيارتها بين الحين والآخر؛ وما زالت عاقدة العزم على العثور على صاحب الشبح، وأن ظهوره في منامها مجرد هراء. كان يخيل إليها أن اكتشافه سيكون الحل السحري للوقوف على كثير من الأسرار والألغاز التي تكتنف فندق البومة.

وفي غفلة من الجميع؛ تسللت من الباب الخلفي وقصدت برج المراقبة؛ كانت تتبين سبيلها من خلال مصباح هاتفها.. كان يومض أحيانا.. فأسرعت الخطى مخافة أن تنفد بطاريته، وقفت عند البوابة وهي تحاول أن تكتم أنفاسها المتلاحقة، كانت تنوي إضرام النار في البرج بيد أن طيفا باغتها متوددا: “كارا.. كارا.. لا تفعلي.. وإلا أحرقت عائلتي..” فالتفتت لتجد شابا وسيما في مقتبل العمر بنظرات متوددة. هدأ روعها وأقبلت عليه سائلة “.. من أنت.. حتى تأوي هذه الخرائب؟!”.

* الشاب “أحل بالمكان كلما رأيت خطرا يحدق به.. ألا تعلمين أن لي والدا يعمل منذ أزمنة بعيدة على تحقيق حلم الطيران إلى مجرة أورانوس؛ والالتحاق بأجناس لنا هناك..!”.

* كارا مستغربة “.. أنا لا أصدق.. إذن فأنت جان؟!..”.

* الشاب مقاطعا بلين: “لقد انسلخنا من هؤلاء الكائنات.. فأعراقنا تنتمي إلى قبائل المهاهاسي..”.

* كارا “.. المهاهاسي.. ماذا تعني؟!”.

* الشاب: “هي في طور الانقراض؛ يعود تكوينها من حمم البراكين وألسنة لهيب شمس أورانوس.. أترغبين في جولة حول مخيمات أسرنا.. هيا..؟”.

خطا بها إلى جوار قارب خشبي؛ ثم دعاها إلى الاستواء على متنه.. وبحركة ما من أصابع يديه اهتز القارب وأخذ يحوم بدلا من شق المياه… شعرت كارا بنسمات خفيفة أخذت تعبث بخصلات شعرها؛ والقارب يحوم حول البركة أشبه بطائرة مروحية! فشعرت بغفوة من النوم.

كارا في وضعية متأزمة

فجأة تستيقظ كارا على وقع نباح كلب يقف بباب الغرفة؛ انتبهت لضياء الشمس يعم جنبات الجدران؛ مكثت في فراشها مصابة بالذهول؛ ماذا وقع حتى تنتقل من أجواء التحليق إلى أجواء الغرفة ؟!. نهضت وفتحت الباب لجد نفسها قبالة هوارد صحبة أمها؛ فهتفت هذه الأخيرة وهي تفتح ذراعيها لتحتضنها: “.. حبيبتي.. حبيبتي هل أنت بخير.. كنت تقهقهين طوال الليل؛ كنت تتبادلين أحاديث ودية بجوار شخص.. لم نسمع له صوتا.. آه عزيزتي كم بت أخشى عليك؛ إنه كابوس أليس كذلك؟”.

* كارا؛ ما زالت آثار الصدمة تملك عليها حواسها.. أخذت تنشج في حضن أمها؛ بينما يقف هوارد منتصبا إلى جوار كلبه ماكس يتبادلان نظرات غريبة. تلتفت كارا إلى أمها بعينين متورمتين: “مسكين مارتن.. لقد رأيته الليلة يحترق.. لا أعلم كيف ساقه القدر إلى ذلك البرج اللعين ليلقي حتفه هناك..!”. اختلس هوارد نظرات تجاه أمها وأومأ برأسه؛

* الأم متنهدة “.. نعم مسكين.. لا أعلم ماذا جرى له؟ ولهذا لم يعد لنا أي أمل للبقاء.. هيا عزيزتي.. وضبي حقيبتك فسنغادر عما قليل..”.

يسدل ستار القصة على

في بضع لحظات؛ وبينما كانت السيارة تشق طريقها إلى العودة إلى لندن؛ التفتت الأم إلى كارا بجوارها: “مستقبلا.. لن نعود إلى عالم فندق البومة؛ لقد فصلنا عن عالم الصخب والضجيج ولكنه كلف أعصابنا الكثير”؛

* غمغمت كارا “دعي الاختيار لنا..”؛ فرد عليها صوت من الخلف: “نعم..! كارا.. الاختيار لنا..”، فاهتزت في مقعدها؛ ولم تبد أية حركة وهي تتفرس في وجه من خلال المرآة يتلون لها بين صورتي مارتن حينا والشاب المهاهاستي حينا آخر!

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.