لم يكن الانفجار الذي هز العاصمة اللبنانية بيروت يوم الثلاثاء الماضي حدثا عاديا ولا مجرد تفجير إرهابي اعتادت عليه المدينة، بل كان نتيجة طبيعية لسلسلة طويلة من محاولات القضاء على الدولة وإشعاعها الإقليمي والدولي. ففي الوقت الذي مازال الشعب بمؤسساته وممثليه يتداولون في سبل الخروج من الأزمة المالية التي تهدد بتحويل البلد إلى دولة فاشلة، وجائحة كورونا التي اجتاحت كل الموارد، يأتي الانفجار، الذي شبهه أحد المسؤولين الأمنيين اللبنانيين بقنبلة هيروشيما لهول الحدث، ليكمل السلسلة. فلبنان المقاومة والثورة والحرية والفكر ومجمع النخبة العربية…يتحول إلى أشلاء وطن في حضن العروبة الحزينة. ولبنان الذي احتضن العرب وقادهم فكريا وسياسيا وإعلاميا لم يجد من يحتضنه حين أحس بالحاجة. لأن الكل مشغول بجرحه الداخلي ومآسيه الخاصة وأوهامه الذاتية. ليبقى السؤال الذي طرحه أدونيس في كتابه الذي سيصدر: “اختار الخالق اللغة وانزل بها وحيه على خاتم انبيائه وليس سهلا ان يتكلم الخالق لغة مخلوقه ولهذا ثقلت اللغة العربية في ميزان اللغات.. لكن وهو سؤال صعب ؛ لماذا خفّ البشر الذين ينطقون بها في ميزان الكون..؟”.
بعد انفجار الثلاثاء اتصلت بصديق لي يقطن وسط بيروت، ووجدته يصلح ما أفسده الانفجار بعد تطاير زجاج المكتب، وقال لي: من شدة تعود اللبنانيين على الأزمات غدوا يستسهلونها فانبرى الجميع إلى إعادة ترتيب ما يمكن ترتيبه وإصلاح ما يمكن إصلاحه. فعبر عقود طويلة كانت الدولة اللبنانية ذات معادلة خاصة بتركيبتها السكانية والدينية والسياسية، وكان الشعب صامدا بالرغم من الانفجارات المتتالية والصراعات المذهبية، مما منحه قدرة خاصة تجعله قادرًا على الحياة رغم كل الحروب والفتن والاحتلال والعبث من الاشقاء والاصدقاء، وربما لو عاش شعب اخر الظروف الصعبة التي عاشها لبنان لما استطاع تجاوزها بذات السهولة. إنه شعب قاوم الموت بالحياة، والحرب بالأمل. وحين فرض عليه التطييف السياسي حاول مقاومته وأجبر الحكومة على الاستقالة لكن تمترس المنتفعين من الطائفية حال دون استكمال المسيرة. فأين نحن من التجربة اللبنانية؟ وهل استفدنا من دروسها؟
قد تتعدد التأويلات والتفسيرات لما يجري لكن الأكيد أن ما يحصل الآن هو نتيجة طبيعية لمسار طويل من تقسيم الدولة إلى طوائف تتصارع وتجسد لذواتها مخيالات خاصة وتؤسس لنفسها انتماءات بديلة. ولم تتوقف المسألة الطائفية عند العناصر الدينية بل تغذت في الواقع على سياسات الهوية التي تقطع مع الانتماء المشترك والهوية الوطنية الواحدة. فالطائفة تحولت في الحالة اللبنانية، باستخدام تحليل عزمي بشارة، من حالة اجتماعية (جماعة محلية)، إلى حالة دينية (طائفة دينية متخيّلة تقوم على الانتماء)، إلى حالة سياسية مؤدلجة (طائفية سياسية). فالخيار الطائفي الذي تعتمده الأطراف الفاعلة التي تتمترس خلف مخيالها الضيق، يؤدي إلى صراع حول الهوية والمصلحة، وينتج عنه تدهور أحوال البلد واقتصاده ومجتمعه، ويستدرج السلاح الذي لا يبقي ولا يذر، فتكون النتيجة بلد بدون انتماء ولا ملامح.
لعل المغرب وهو يتابع ما يحدث في لبنان، بعد أن ابتعد عنه سياسيا ودبلوماسيا، أقدر على الاستفادة من أحداثه، وأخذ العبرة من محاولات التطييف السياسي. فإن كان عنوانه في المشرق هو الدين، فإن العنوان الأبرز للمسألة في المغرب هو اللغة. ولاداعي للتذكير ببعض الكيانات السياسية التي أنشأت أو جعلت برنامجها الانتماء اللغوي باعتبارها عنصرا وجوديا لها دون التفكير في مخاطر ذلك على الوطن والهوية الوطنية المشتركة.