مصطفى نشاط، كلية الآداب، وجدة
تتغيا هذه الورقة بسط بعض الانطباعات التي عنّت لي من خلال تتبع لأهم الأوبئة والكوارث التي ضربت المغرب عبر تاريخه ، واستحضارا لنازلة “كورونا” ، في علاقة مع الحيّز الذي يحظى به تدريس هذا الموضوع بشعب التاريخ بالجامعة المغربية.
ومن أجل بسط هذه الانطباعات ، بدا لي توطينها من خلال العناصر التالية:
– في الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعة المغربية.
-استثمار بعض الدروس من تاريخ الأوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن إيجابي.
– تعليم الدرس التاريخي عن بعد بالجامعة المغربية زمن كورونا.
وقبل كل ذلك، قد يكون من المستحسن الوقوف عند مصطلح كثُر رواجه في تلازم مع وباء كورونا الذي اجتاح العالم على حين غرّة ، وهو مصطلح” الجائحة”. فالجائحة لغة هي ما يصيب المال فينقصه أو يستأصله ، وبذلك ينصرف معنى الجائحة إلى ما له علاقة بهلاك المال ، وليس إلى الوباء المنتشر ، كما يفيده معنى الكلمة في الفرنسية
” Pandémie” . و نقرأ في الموسوعة الفقهية أن الجائحة هي ” كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به، كسماوي، كالبرد والحر ، ومثل ذلك ريح السموم والثلج والمطر والجراد والفئران والغبار والنار ونحو ذلك…” ويتبين أن الجائحة تشمل كل إتلاف للممتلكات لا دخل لفعل الإنسان فيه، وقد استثنى بعض الفقهاء معنى الجائحة ممّا يصدر عن فعل آدمي كالسرقة . وقد انتقل استعمال مفهوم الجائحة لدى العامة للدّلالة على السلوك السلبي ، إذ تحضر لدى الشخص “الجايح” أومن “ضربته الجايحة” صفات اللامسوؤلية واللامبالاة والخمول.
- في الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ الاجتماعي بالجامعة المغربية:
تتوافر الخزانة التاريخية على عدد محدود من المنشورات ذات الصلة المباشرة بموضوع تاريخ الأوبئة والكوارث والمجاعات والقحوط ، ويمكن عدّها على رؤوس الأصابع ، وعرضها كالتالي اعتمادا على ترتيب تاريخ صدورها : – محمد أمين البزاز، الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19 م (1992)-الحسين بولقطيب، جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين(2002)- مجموعة مؤلفين، ضمن ندوة المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب ، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي(2004)-تريا المرابط أزروال، الزلازل الكبرى بالمنطقة المغاربية ومخلفاتها على الإنسان ومحيطه(2005)- عبد الهادي بياض، الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوكيات وذهنيات الإنسان بالمغرب والأندلس(2008)- برنار روزنبرجي وحميد التريكي ، المجاعات والأوبئة في مغرب القرنين 16 و 17 م ، ترجمة الأستاذ عبد الرحيم حزل(2010)– بوجمعة رويان، الطب الكولونيالي بالمغرب 1912-1945(2013).
تنحصر هذه الحصيلة فيما هو منشور عن الموضوع، وإلا فثمة بعض الأعمال غير المنشورة عنه ، ما تزال مرقونة، وهذا ما يطرح تساؤلا عن جدوى مناقشة بعض الأعمال الأكاديمية ،لتبقى حبيسة رفوف المكتبات الجامعية ، وهلاّ تمّ التفكير في نشرها الكترونيا لتعمّ الاستفادة منها.
إن ما كتب في موضوع تاريخ الأوبئة والمجاعات والكوارث يشي بأن الحصيلة هزيلة جدا ًعن ظواهر بنيوية أرّقت المغاربة عبر تاريخهم ، وحكمت – ضمن عوامل أخرى-على اقتصادهم بأن يبقى اقتصاد ندرة أو قلّة.
وانعكست هذه الهزالة على ضعف ما يحصل عليه الطالب المغربي من تكوين في التاريخ الاجتماعي ، ولعل نظرة إلى المجزوءات المُدرّسة بشعب التاريخ بالجامعات المغربية ، تسمح بالقول بأن التكوين منصبّ أساسا على ما له صلة بالتاريخ السياسي للدول المتعاقبة على تاريخ المغرب ، دون ربطه بما كان يعتمل به من أفعال وعوامل اجتماعية أو اقتصادية . بل إن حتى ما يكتسبه الطالب من تكوين في التاريخ السياسي ، يتّسم بوجود بياضات عن بعض الحلقات والفترات ، بله بعض العهود ، وذلك في ظل تقلّص عدد الحصص مع الدخول في نظام الفصول الذي يسمح في أحسن الحالات بعدد يتراوح ما بين 10 و14 حصة . وإذا استحضرنا ما يفرضه هذا النظام الجامعي من اقتطاع لمدة غير قصيرة من الزمن الجامعي من أجل تحضير الامتحانات وإعدادها والإعلان عن نتائجها ، تبيّن بالملموس أن الطالب الذي يقتصر على البرنامج المقروء ، قد يحصل على الإجازة ويغادر مدرجات الجامعة ،وهو يحمل تكوينا مبتورا عن تاريخ بلاده . ولنا أن نسأل طلبتنا عن معلوماتهم عن بعض الإمارات التي حكمت المغرب قبل المرابطين ، مثل إمارة بني مدرار بسجلماسة أو إمارة نكور ،أو إمارة الوطاسيين الذين حكموا المغرب بعد ضعف دولة بني مرين .
ويبدو أن نازلة كورونا قد أجبرت المغاربة قهرا على معرفة ماضيهم ومدى حضور الأوبئة به. مصداق ذلك أن من أكثر الكتب التي تمّ تحميلها منذ الزيارة غير المرغوب فيها لهذا الوباء لبلادهم ، الكتاب/ الأطروحة للمرحوم البزاز. ولعل من أهم ما قد يفسر هذه العودة القهرية للمغاربة إلى تاريخ الأوبئة لديهم ، يبرز عاملان اثنان هما:
*إن المغاربة –لربما- لم يعيشوا باستثناء ما عاشوه خلال زلزال اكادير وزلزال الحسيمة اللذين كانا محليين ، أزمة هلع ، مثل التي يمرون بها حاليا مع اجتياح وباء كورونا ، وذلك منذ سنة 1944-1945 المعروفة لديهم بعام “البون” التي تزامنت مع قحط كبير ، وزاد من حدته استنزاف فرنسا لموارد المغرب لتغطية حاجياتها في الحرب العالمية الثانية.
* قد يكون كورونا أكثروباء عبر التاريخ حظي بهذا الزخم من الكتابة ، إذ إننا إزاء كتابات عن هذا الوباء مسّت كل جوانبه ، وعقدت حوله ندوات ولقاءات افتراضية عديدة،وقد لا نبالغ إذا اعتبرنا هذا الزخم المتوافر عنه وصل إلى حد ّالتخمة. ولعل أهم ما ساعد على ذلك ،أننا أمام عولمة للوباءوتطور لا مثيل له في باب الاتصال والتواصل والحصول على المعلومة. يحصل كل هذا ، علما بأنه أقل فتكا مقارنة مع أوبئة سابقة ، ولم يصل بالمغرب مثلا إلى مستوى عدد الضحايا التي تخلفها به حوادث السير التي تبلغ في المتوسط 10 ضحايا يوميا ، أي ما يعادل 300 ضحية شهريا.
لقد أصبحت الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في الدرس التاريخي بالجامعة المغربية ، وذلك بإيلاء مزيد من الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي ، ومن ضمنه تاريخ الأوبئة والكوارث الطبيعية التي بدونها قد لا نستوعببعض الأسباب الحائلة دون حصول الإقلاع . وبمراعاة كيفية استقبال بعض المغاربة للوباء الحالي ، تبدو الحاجة ماسة أيضا لتدريس تلاميذتنا وطلابنا مجموعة من الصفحات المشرقة من تاريخنا من أجل التحسيس والمعرفة التاريخية وتغيير بعض المسلمات . ويمكن بلورة هذه الحاجة من خلال بسط الاستفهامات التالية:
- لماذا لا تبرمج في المقررات الدراسية رسالة لسان الدين بن الخطيب “مقنعة السائل عن المرض الهائل” التي كتبها للردّ على منكري العدوىلمّا اجتاح وباء الطاعون الجارف بلاد المغرب والأندلس في عصره ؟ لم يكن ابن الخطيب شاعرا ومؤرخا وأديبا وموسيقيا فحسب، بل كان أيضا طبيبا مجرّبا ، وقد ألف عشرة كتب في الطب، لعل أهمها كتاب عمل من طبّ لمن حب ّ الذي عرف فيه بمختلف الأمراض السائدة في عصره وطرق الاستشفاء منها. وأما رسالته في الطاعون فلعلها أوفى رسالة علمية تدافع عن الحجر الصحي ومشروعيته الطبية والدينية.
- لماذا لا يتم تدريس التفسيرالعلمي لابن رشد الحفيد(ت 595ه) لحدوث الزلازل كما بسطه في كتابه” تلخيص الآثار العلوية” ؟
- لماذا لا تُخصّص حصة للوقوف عند مارستان لعلاج الجذمىبناه المنصور الموحدي بمراكش ، وقد كان بمواصفات علمية وعالمية ، في فترة كانت فرنسا تحرق أو تقتل المجذومين بصفة جماعية؟ أو تخصص حصة لدراسة مارستان سيدي فرج الذي أسسه السلطان المريني بفاس لعلاج المرضى المجانين،ومن طرق العلاج المتبناة به زيارة فرقة موسيقية مرتين للمارستان،تكريسا لعلاج الأمراض النفسية والعقلية بالموسيقى.؟
- لماذا لا يتم تدريس رسالة السلطان المنصور السعدي لابنه أبي فارس لمّا حلّ الطاعون بمراكش ، فأمره بترك قصر المدينة والعيش بالخيام وعدم لمس أي رسالة تصله قبل أن يغمسها في الخل ، وهذه كلها إجراءات تدخل في باب التعقيم والاحتراز من العدوى.؟
لعل من أهم تداعيات كورونا تأثيرها في نفسية المغاربة بشكل لم يألفوه – خاصة أن الهلع قد يؤثر سلبا في المناعة – وقد لاحظنا درجة الهلع الذي ألمّ بهم لمّا فاجئهم ، وازداد منسوب الهلع مع دخولهم في الحجر الصحي ، حتى إن المرء أصبح يتوجّس من أيّ كان خوفا من حمله للفيروس. و قد يكون من أهم مطالب الدرس التاريخي الاهتمام بالتأريخ النفسي الاجتماعي والانكباب على تاريخ الأحاسيس والمشاعر باعتباره جزءاً من تاريخ الذهنيات ، على غرار ما أنجزه “جون دوليمو ” عن الخوف بالغرب
Jean Delumeau, La peur en Occident du 14 au 18 siècles.
ولا يبدو أن الخزانة التاريخية المغربية تتوافر على دراسة أكاديمية مماثلة تبحث في تاريخ الخوف بالمغرب ضمن المدة الطويلة ، علما بأن التونسي محمد العادل لطيف حاول أن ينبش عن تاريخ الظاهرة ببلاد المغرب في العصر الوسيط ، غير أن دراسته ركزت أكثر على افريقية(تونس).والواقع أن المغربي عبر تاريخه الطويل ظل يبدي مشاعر الخوف تجاه عدة مظاهر ، مثل الخوف من البحر أو المخزن أو الأسود أو الأرواح الشريرة ، وبطبيعة الحال من تأثيرات الأوبئة والمجاعات والقحوط والكوارث.
وتبقى الحاجة ماسة إلى تطعيم الدرس التاريخي الجامعي عن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارثبما هو وارد ببعض الدراسات الأكاديمية العالمية الجادة من تفسيرات للظاهرة. ويمكن أن نتمثل في هذا السياق بالتفسير الذي أورده الأميركي “شلدون واتس” في كتابه “الأوبئة والتاريخ : المرض والقوة الامبريالية” حيث تحدث عمّا أسماه ” محرقة وباء الجذري” . ذلك بأن هذا المرض أدخله الأوربيون عقب الاكتشافات الجغرافية الكبرى إلى الأميركيتين ، مما أفضى إلى مقتل 80 بالمائة من السكان الأصليين من الهنود الحمر، لأن مناعتهم ضد المرض كانت منعدمة باعتباره مرضا جديدا وغريبا على أجسامهم وأرضهم ، وبالتالي كان الجذري “أداة قوة امبريالية”.
كما أن عولمة وباء كورونا تقتضي إعادة النظر في التحقيب التاريخي . ولا ريب في أن التحقيب الذي هو ليس بالعملية التقنية ، إنما وعي بالزمن، يحتاج إلى المراجعة مع تغيير المعطيات والأحداث التاريخية .لقد دأبنا في دراسة التاريخ من المدرسة إلى الجامعة على الأخذ بالتحقيب السائد الذي يقسم الماضي إلى حقب القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وهو تحقيب أوربي بالكامل ، إذ كل الأحداث المفصلية التي استند عليها في تقسيم الماضي إلى حقب ، ترتبط بالتاريخ الأوربي، انطلاقا من سقوط روما، فعصر النهضة ، فالثورة الصناعية ، ووصولا إلى سقوط جذار برلين ….وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن غياب حضارات مهمة في التاريخ البشري من هذا التحقيب ، مثل الحضارةالإسلامية و الحضارة الصينيةعلى عهد أسرة “تانغ” اللتين شهدتا تطورا ملحوظا في العصر الوسيط ، مقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع بأوربا.
- استثمار بعض الدروس من تاريخ الأوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن إيجابي: رغم أن الأوبئة والمجاعات وباقي الكوارث حضرت بشكل بنيوي في تاريخ المغرب ، فإن دراستها قد تفيد في تكوين طالب يتفاعل إيجابيا مع محيطه ووطنه. ويمكن أن نوطن مجالات هذه الاستفادة من خلال مظهرين مستوحين من تاريخ الأوبئة ومن نازلة كورونا.
*كيف تأتى للمغاربة الصمود إزاء الأوبئة؟ من المعلوم أن البشرية ظلت تعاني من فتك الكثير من الأوبئة قبل أن يهتدي العلماء إلى تلقيحات ضدها في القرن 19 م ، كما هو مع التلقيح ضد الكوليرا سنة 1884 و ضد الطاعون سنة 1894 . وقد تمكن المغاربة من التكيف مع الأوبئةبطرق وبآليات مختلفة ، وبما أن هذا الموضوع طُرق مؤخرا كثيرا ، نشير بعجالة إلى أهم تلك الآليات ، وتتمثل في ما يلي: