أحمد عصيد
مناسبة هذا المقال ما حدث مؤخرا من تخريب نقوش صخرية وآثار تاريخية عريقة بمنطقة “الغشيوات” بجماعة “أمكالا” إقليم السمارة، من طرف شركة رخام يبدو أنها تحظى بحماية جهة نافذة، ويهدف المقال إلى إظهار أن الأمر لا يتعلق بصدفة من الصدف، لأن ما حدث ما فتئ يتكرر لمرات عديدة، ليس في المغرب فقط بل في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ما يعني أنه سلوك نابع من ذهنية وتقاليد لها جذور في ثقافتنا، تَعتبر الآثار القديمة السابقة على الفترة الإسلامية غير ذات أهمية، ما يفسر اللامبالاة العامة بأعمال التخريب. وحتى يتم وضع حدّ لهذا السلوك الخطير وكذا لعقلية الاستهانة بالآثار القديمة، لا بدّ من القيام بحفريات في جذور هذه الذهنية وبواعثها.
رغم أن العديد من البلدان قد عرفت في تاريخها نفس هذه الظواهر السلبية، إلا أنها في الوقت الراهن تعتبر ذلك من أخطاء ماضيها، كما تُصنف اليوم ضمن أكبر الدول الراعية لمآثرها التاريخية ومكتباتها العظمى، ومثال ذلك الصين، فمن أكبر جرائم إحراق المكتبات في التاريخ القديم ما قام به الأمبراطور الصيني (شي هوانغ تي) في عام 212 قبل الميلاد، أي قبل 2200 سنة من اليوم، حين أعلن حربا شعواء على الكتب القديمة فأتلف وأحرق مكتبات بكاملها والتي كانت تضم مؤلفات في مختلف العلوم والفنون، ولم يكتف بذلك بل أقدم على مطاردة العلماء والأدباء في صحاري الصين وجبالها وغاباتها وتقتيلهم بشكل شنيع. بعد 2000 سنة من هذه الواقعة تذكر المصادر التاريخية بأن أمبراطورا آخر وهو (كيان لونغ) قام بجمع 79337 كتابا ومخطوطة نادرة بحجة تأليف موسوعة شاملة لكنه أضرم فيها النار في 11 يونيو 1778م. ورغم أن إحراق المكتبات في الصين استمر إلى حدود الثورة الثقافية الأخيرة مع ماوتسي تونغ، إلا أنّ الصين اليوم وهي على ما هي عليه من مجد وقوة وازدهار، تفخر بمكتباتها العظمى في مختلف مدنها.
نفس الشيء يقال عن ألمانيا وروسيا وإسبانيا وإنجلترا وغيرها التي عرفت في تاريخها الكثير من جرائم إتلاف الآثار وإحراق الكتب، لكنها اليوم من أعظم من يرعى الكتب والآثار بدقة وعناية فائقة، ولا أحد يتصور أن تعود هذه البلدان إلى اقتراف أخطاء الماضي.
ويحكي المؤرخون الغربيون عن العديد من الأعمال التخريبية الوحشية التي أقدم عليها الأوروبيون قبل 500 سنة خلال اكتشافهم للقارة الأمريكية، عندما قاموا بتحريض من رجل الدين دييكو دي لاندا Diego de landa بإحراق الكثير من وثائق ومخطوطات حضارة “المايا” باعتبارها آثارا وثنية، وقد كتب هذا الأسقف مذكراته شارحا ما أقدم عليه بقوله:” “لقد وجدنا العديد من الكتب مع هذه الرسائل، وبسبب احتوائها على أمور من الخرافات وخداع الشيطان، فقد عمدنا إلى إحراقها”.
أما في بلاد المسلمين فثمة منطق مغاير تماما خاصيته الأولى أنه لا يعترف بالزمن والتاريخ، بل يعلو عليهما كما سنرى، حيث ظل المسلمون في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط يعانون إلى اليوم من استمرار هذه الآفات بنفس منطقها القديم. وحتى عندما تتنبه الدول والحكومات في هذه المنطقة إلى أهمية الآثار والمكتبات وتضع سياسات لرعايتها، فإن الكثير من مكونات مجتمعاتها ما زالت يسيطر عليها الجهل وتحكمها بنيات التخلف الكبير والمتجذر.
محنة الكتابة والتدوين عند المسلمين الأوائل:
عرف المسلمون في تاريخهم الكثير من الأحداث التي تم فيها تخريب آثار تاريخية عريقة، أو إحراق مكتبات كبيرة وشهيرة، وذلك لبواعث دينية بالدرجة الأولى وسياسية أحيانا، حيث استندوا في تلك الأعمال إلى رأي بعض خلفائهم، ثم بعض فقهائهم الذين اعتبروا دعوة الإسلام إلى هدم التماثيل دعوة “بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، أي أنها دعوة مفتوحة دائما وليست خاصة بمحاربة الوثنية في عهد الدعوة الأولى، كما اعتبروا ضرورة اتباع النموذج النبوي الذي تم فيه هدم التماثيل في مكة وكل أرجاء جزيرة العرب لمحاربة الديانات الوثنية القديمة، ومن المعتمد في هذا التوجه ما ورد في “صحيحي” البخاري ومسلم من أحاديث تحث على معاداة التماثيل والصور، فقد روى مسلم عن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي: بأي شيء أرسلك الله ؟ فأجاب: “أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحّد الله لا يشرَك به شيئا”. وفي نفس الكتاب أيضا روى مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: “ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع وثنًا إلا كسرته ولا صورة إلا طمستها ولا قبرًا إلا سوّيته”.
هذا إضافة إلى مجموعة واسعة من أحاديث تحرّم التصوير، ومنها ما نُسب إلى الرسول في “صحيح البخاري” من أنه قال : “أشد الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون يُقال لهم أحيوا ما صنعتم”.
كما اعتبروا القرآن جامعا مانعا يغني عما سواه من الكتب، وهو ما أكد عليه ابن خلدون في مقدمته قائلا: “وقد نهى الشرعُ عن النظر في الكتب السماوية غير القرآن”. وهو ما كان عليه اليهود والنصارى كذلك في سابق عهدهم، حيث كانوا يعتقدون بدورهم أن كل شيء موجود في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل)، وقد اعتمد المسيحيون النصيحة الموجهة للحواريين والمكتوبة في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي “إذا كنت تريد أن تقرأ التاريخ فلديك سفر الملوك في العهد القديم، وإذا كنت تريد الاطلاع على الفلسفة فلديك سفر الأنبياء، وإذا كنت تريد قراءة الشعر فلديك مزامير داوود”.
ومما رواه المؤرخون المسلمون بهذا الصدد ما حدث في بداية عهد الخلفاء الراشدين من أن هاجس العرب المسلمين آنذاك كان “حماية القرآن” من المعتقدات والحضارات القديمة، ومن تمّ كانت لديهم حساسية شديدة من “كتب القدماء” كما كانوا يسمونها. وذكر مصطفى بن عبد الله المعروف بالحاجي خليفة فى كتابه (كشف الظنون فى أسامى الكتب والفنون) “أن العرب فى صدر الإسلام لخوفهم من تسلط العلوم الأجنبية على عقولهم كانوا يحرقون الكتب التى يعثرون عليها فى البلاد التى يفتحونها”.
ولم يكن المسلمون الأوائل يشعرون بحساسية تجاه الكتب القديمة فقط بل وتجاه الكتابة والتدوين في حدّ ذاتهما، فإذا صحت نسبة حديث إلى النبي يقول فيه “إنّا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر”. وهو ما فسره ابن تيمية بقوله: “بُعث بلسانهم فكانوا أميين عامة ليست فيهم مزية علم ولا كتاب ولا غيره (…) فلم يكن لهم كتاب يقرأونه منزَّل من عند الله كما لأهل الكتاب، ولا علوم قياسية مستنبطة كما للصابئة ونحوهم ، وكان الخط فيهم قليلاً جدّاً”، فقد يجوز القول إن العرب الأوائل في صدر الإسلام كانوا يعتبرون التدوين والكتابة فعلا منافيا لثقافتهم، ولهذا نُسب إلى ابن عباس قوله: “إنّا لا نكتب العلم ولا نُكتِبُه”.
وتبعا لهذا نفهم ما ذكره ابن سعد في “الطبقات الكبرى” أن عمر بن الخطاب نفسه أحرق صُحُفا جُمعت فيها أحاديث الرسول، كما بعث إلى وُلاته في كل الأمصار يدعوهم إلى عدم جمع الأحاديث وتدوينها قائلا: “من كان عنده شيء فليمحُه”. وهو نفس ما أكّد عليه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب حين قال:” “أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم”.
وبسبب هذا الخوف على القرآن قام الخليفة الثالث عثمان بن عفان بإحراق عدة نسخ مختلفة من القرآن كما أوردت ذلك العديد من المصادر التاريخية، حتى يوفر للدولة الناشئة أساسا عقائديا موحدا، ويعود ذلك إلى اختلاف الناس في القراءات بسبب اختلاف الروايات والمعجم اللغوي، قال السيوطي: “اختلفت الناس في قراءة، قال أنس رضي الله عنه: اجتمع القراء في زمن عثمان رضي الله عنه من أذربيجان وأرمينية والشام والعراق، واختلفوا حتى كاد أن يكون بينهم فتنة، وسبب الخلاف حفظ كل منهم من مصاحف انتشرت في خلال ذلك في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبي بن كعب، ومصحف عائشة”.
وجاء في “صحيح البخاري” بهذا الصدد: “حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحفِ ردَّ عثمانُ الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق”.
غير أنه يبدو بأن ما خشيه عمر وعثمان وعلي وقع فعلا بعد ثمانين سنة فقط من وفاتهم، عندما قال الضحاك المفسر التابعي: “يأتي على الناس زمانٌ تكثرُ فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا يُنظر فيه”. ويبدو أن هذا الخوف على القرآن من الكتب قد استمر عند جيل كامل من التابعين فقد نسب إلى عبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد أنه قال: “كنا نقول لا نتخذ كتابا مع كتاب الله فمحوتُ كتبي”.
غير أنّ إحراق النسخ المتعددة للمصاحف في عهد عثمان لم يمنع من استمرار وجودها إلى اليوم، كما تثبت ذلك الدراسات العلمية المختبرية لمخطوطات القرآن القديمة (أنظر كتاب “مخطوطات القرآن” لمحمد لمسيح).
محنة المكتبات والآثار القديمة مع الغزوات الإسلامية:
ومما رواه المؤرخون المسلمون أيضا ما أقدمت عليه جيوش المسلمين الغازية لبلدان فارس وشمال إفريقيا من تخريب للتماثيل والمعابد القديمة وتحريق للمكتبات، وخاصة منها مكتبات فارس والهند، ومكتبة الإسكندرية الشهيرة، يقول ابن خلدون في “المقدمة” متحدثا عن إحراق خزائن الكتب ببلاد فارس بعد غزو مدينة “المدائن” العاصمة القديمة للساسانيين ومدينة “جنديسابور”، موردا جواب الخليفة عمر بن الخطاب على رسالة قائد جيوش العرب آنذاك سعد بن أبي وقاص، الذي سأله عما ينبغي عمله بـ”خزائن عظيمة من الكتب” وكان جواب الخليفة حسب ابن خلدون:” فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا االله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا االله . فطرحوها في الماء أو في النار. وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا”.
وقد أكد على نفس الخبر حاجي خليفة في كتابه المشار إليه آنفا ، أثناء حديثه عن مؤلفات وكتب الحضارة الإسلامية، قائلا إن المسلمين “أحرقوا ما وجدوا من كتب في فتوحات البلاد فطرحوها في الماء وفي النار”.
ومما ذكره المؤرخون المسلمون وغيرهم واقعة إحراق مكتبة الإسكندرية، عند غزو جيش العرب لمصر بقيادة عمرو بن العاص سنة 642 م ، وإذا كانت هذه الواقعة قد تعرضت لتشكيك بعض المؤرخين في عصرنا إلا أن مؤرخين قدماء أوردوا خبرها بدون تحيز أو مشاعر ذاتية.
وتجدر الإشارة قبل الحديث عن رواية المؤرخين المسلمين لهذه الواقعة أن هذه المكتبة قد تعرضت للإحراق مرتين قبل الغزو العربي بقرون، حيث يروي المؤرخون إحراقها من طرف يوليوس قيصر الامبراطور الروماني الشهير في عام 48 قبل الميلاد. ويبدو أن المكتبة ازدهرت من جديد ليدمرها امبراطور متعصب للديانة المسيحية هو الأمبراطور تيودوزيوس الأول عام 391م ، وكان التدمير والإحراق فظيعا لكل الآثار والمعابد القديمة بحيث قال عنه كوستاف لوبون: “وتعدُّ تلك الأعمال من أفظع ما عرفه التاريخ من أثر عدم التسامح والهمجية”.
وهذا ما جعل بعض المؤرخين اليوم يقولون بأن مكتبة الإسكندرية العظيمة لم تعد موجودة لحظة دخول العرب إلى مصر، وهو ما يصعب تصديقه إذا علمنا بأن الرهبان المسيحيين والأحبار اليهود وكذا مختلف الملل والنحل التي استوطنت مصر وتعايشت فيها منذ القديم، وخاصة السكان الأصليون الذين هم “القبط”، لم ينقطع اهتمامهم بالعلوم والفلسفة واللاهوت، وورثوا الكثير عن أجدادهم الذين سبقوهم، ومن تم يصعب القول إن مكتبة الإسكندرية لم يعد لها أثر مطلقا عند دخول العرب، وذلك لتبرئة عمرو بن العاص والخليفة عمر بن الخطاب من تلك الحادثة، وإن كان من المنطقي القبول بفكرة أنها لم تعُد في نفس ازدهارها الكبير في عصرها الذهبي السابق.
ومن بين المؤرخين الذين ذكروا واقعة إحراق هذه المكتبة القديمة نجد عبد اللطيف البغدادي من القرن السادس الهجري في رحلته إلى مصر التي دونها في كتابه “الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر”، حيث كتب يقول واصفا أطلال المكتبة “دار العلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته، وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه “.
وقد تكرر نفس الخبر عند مؤرخ آخر هو المؤرخ المصري جمال الدين أبو الحسن القفطي،
حيث أورد قصة أحد الحكماء الذي عاصر عمرو بن العاص وغزو الإسكندرية، والذي طلب من عمرو إعطاءه محتويات مكتبة الاسكندرية ومن كتب ومخطوطات لأنها في رأيه “لا نفع فيها للعرب” وكان جواب عمرو :”لا يمكنني أن آمر فيها بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكتب إلى عمر واستأذنه ما الذي يصنع فيها، فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: وأمّا الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها”.
وورد نفس الخبر عند ابن العبري أبو الفرج بن هارون في كتابه “مختصر الدول” أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية بعد أن استأذن الخليفة عمر بن الخطاب.
وقد ذكر تقي الدين المقريزى نفس الموضوع في كتابه “المواعظ والإعتبار في ذكر الخطط والآثار” بنفس الصيغة، وورد أيضا في كتاب “الفهرست” لابن النديم، دون أن ننسى ما ذكره جورجي زيدان بهذا الصدد في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”.
من خلال الاطلاع على مجمل النصوص التي وردت في هذه الوقائع المبكرة في تاريخ
الإسلام يتضح بأن ثمة عوامل عدة ساعدت في انتشار ظاهرة تدمير الآثار وإحراق المكتبات سواء من طرف جيوش الغزاة أو الحكام أو الأفراد من فقهاء وعامة، وهذه الأسباب يمكن إجمالها في ما يلي:
1) أن العرب الأوائل ليسوا بذوي ثقافة كتابية، كما لم تكن لهم في هذه الفترة تقاليد تداول الكتب وقراءتها أو كتابتها، بل إنهم اعتبروا أن كل الكتب باطلة لأنها منافسة للقرآن ومشوشة عليه. ومن ذلك الكتب السماوية نفسها كما ذكر ابن خلدون في قولته أعلاه.
2) أن غالبية العرب الذين كوّنوا جيوش غزو شمال إفريقيا أو بلاد فارس والروم لم يكونوا من الفئات المتحضرة بل من عامة البدو والأعراب من أبناء الصحراء، والذين وصفهم ابن خلدون بقوله ” إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب فى ذلك أنهم أمة وحشية باستكمال عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلة”. وأضاف في وصف جنود عمرو بن العاص التي غزت مصر بأنهم من “البدو القحّ الذين لم تهذبهم الحضارة والمدنية”. ما يفسر أن إحراق المكتبات لا يبدو لهم عملا خطيرا أو جريمة نكراء، ما داموا لا يعرفون قيمتها.
3) أن ما حدث من تسلط على الكنائس والمآثر والمكتبات وإحراقها في الاسكندرية كان في الحملة الثانية لعمرو بن العاص على مصر، بعد أن نجح الروم في استرداد هذه المدينة من يد المسلمين، وإذا كان دخول المدينة في الحملة الأولى سلميا عن طريق الصلح فقد كان عكس ذلك في الحملة الثانية التي عرفت حربا طاحنة واقتحاما عنيفا وانتقاما نتج عنه قتل معظم أهل المدينة والقيام بإحراق المآثر والمعابد كما كان متداولا آنذاك في الحروب والغزو. فقد ذكر ابن عبد الحكم القرشي في كتاب “فتوح مصر وأخبارها” ان الخيانة هي سبب الاستيلاء على الاسكندرية خلال الغزوة الثانية لها من طرف جيش عمرو بن العاص، ما يفسر التقتيل والإحراق اللذين تعرض لهما أهلها، وهو ما ذكره أهم وأقدم مؤرخ عاصر غزو العرب لمصر وهو يوحنا النقيوسي في كتابه “تاريخ مصر والعالم القديم” بقوله : “لم يدّخر عمرو بن العاص وسعا لتحقيق هدفه واستخدام كل وسائل الحرب في عصره، كما يقتضي منطق الغزو لإخضاع البلد المطلوب، وربما كان الحرق أو التهديد بالحرق أكثر وسائل عمرو بن العاص” .كما ذكر ألفريد بتلر في كتابه “فتح مصر” دخول العرب إلى الاسكندرية قائلا “استولى عليها العرب بعد قتال عنيف، فهدموا الحصون وأحرقوا السفن وخربوا الكنائس الباقية بها”.
4) وجود نزوع واضح لدى الغزاة إلى إبادة آثار من سبقهم إن كان يدلّ على عظمته وعلو مرتبته في الحضارة، وذلك حتى لا يبقى قدوة للأجيال المقبلة. قال شعبان خليفة فى كتابه “مكتبة الإسكندرية الحريق والإحياء”: “إن سلوك المنتصر فى كل العصور بعد الانتصار العسكري أن يأخذ في تدمير فكر المهزوم حتى لا تقوم له قائمة بعد ذلك أبداً ويكون ذلك إما بإحراق وسحق الكتب والمكتبات أو نقل تلك الكتب إلى بلد المنتصر”.
5) من العوامل التي ساهمت في تخريب العرب المسلمين وإحراقهم للمكتبات القديمة أن جميع تلك المكتبات لم تكن تضم الكتب والمخطوطات فقط، بل كانت أيضا تضم معابد وثنية وأضرحة وأماكن للتأمل والعبادة، وهذا يرجح واقعة الإحراق من طرف العرب الذين تعودوا خلال العقود الأولى للدعوة الإسلامية وما تلاها على هدم المعابد والرموز الوثنية.
6) محاولة نفي إحراق مكتبة الاسكندرية وحدها، والسكوت عن إحراق مكتبات أخرى يجعل موقف بعض المؤرخين ضعيفا ، إذ لا مبرّر لقيام العرب بإحراق مكتبات وترك أخرى، حيث أن القاعدة التي نُسبت لعمر بن الخطاب تسري على كل المكتبات، وهذه القاعدة هي التي ذكرها ابن خلدون وكل المؤرخين الآخرين هي اعتبار أن تلك الكتب إن كان فيها ما يوافق القرآن فهو يغني عنها، وإن كان فيها العكس فهي ضرر وخطر على الدين.
لقد أكّد صاحب كتاب “”كتب تحترق، تاريخ تدمير المكتبات” Livres en feu Histoire de la destruction sans fin des bibliothèques وهو لوسيان بولاسترون Lucien Polastron على قاعدة أساسية بعد دراسته الوافية لتاريخ إحراق المكتبات عبر التاريخ وهي قوله :”كان سقوط مدينة يعني تدمير مكتبتها أولاً”، وهنا يقصد جميع الغزاة من مختلف الأقوام والشعوب في التاريخ القديم.
إحراق الكتب في عهد الأمويين:
عرفت مرحلة الحكم الأموي اشتداد السلطة على معارضيها السياسيين من المفكرين الذين شرعوا في طرح قضايا الحرية والقضاء والقدر، أمثال معبد الجهني وغيلان الدمشقي وعمرو المقصوص وآخرين، فعمدوا إلى اضطهادهم وإحراق ما بدأ يخلفه بعضهم من وثائق وأخبار مكتوبة، مع العلم أن تلك المرحلة لم تعرف بعد تدوينا مكثفا للنظريات والأفكار والمواقف المخالفة التي كانت تصورات جنينية ولم تكتمل بعد.
وقد ذكر الزبير بن بكار القرشي في كتابه “الموفقيات” أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان استحسن سنة 82 هجرية إحراق ابنه سليمان بن عبد الملك لكتاب يمدح أهل المدينة. وخشي الخليفة أن يطلع أهل الشام على الكتاب، الذي ألفه أبان بن عثمان بن عفان، حول “فضائل أهل المدينة”، وقال بوضوح إنه لا حاجة له في كتاب “يُعَرِّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها”.
إحراق كتب الفقه والرأي ثم الأدب والتاريخ،، ثم الفلسفة:
بعد أن اطمأن المسلمون إلى حفظ القرآن من “كتب القدماء”، شرعوا في تدوين الأحاديث في وقت متأخر بقرن ونصف، أي في العصر العباسي، فصارت ضحاياهم الجديدة كتب الفقه وعلم الكلام والرأي، فظهر الفقهاء المتشدّدون في ضرورة استعمال “الحديث” والأخبار المُسندة والبعد عن الرأي والعقل. فكلما ظهر فقيه منفتح على اعتماد الرأي والعقل حاصروه وضيقوا عليه وأحرقوا كتبه حماية للأحاديث. باستثناء مرحلة المأمون التي انعكست فيها الآية بعد تأسيس “بيت الحكمة” وتبني السلطة لرأي المعتزلة فصار المضطهدون هم فقهاء الحديث، وشرعت السلطة العباسية في ملاحقتهم واضطهاد الفقهاء المقلدين وإحراق ما يُكتب عنهم من مخطوطات، ثم سرعان ما انقلبت الآية مرة أخرى بتبني الخليفة المتوكل لرأي الحنابلة فشرع في إحراق كتب المعتزلة والمتكلمين، وهكذا لم تنقطع ظاهرة إحراق الكتب بسبب الخلاف المذهبي.
يقول ناصر الخزيمي في كتابه “حرق الكتب في التراث العربي”: “في الفترات المبكرة من الإسلام استثني القرآن الكريم من هذا العداء، فدُوّن مصحف عثمان وأتلف ما عداه من المصاحف. ثم تطور الموقف، فاستثني تدوين السنة مع القرآن وكره ما عداه مثل كتب الرأي (الفقه) والتي استثنيت فيما بعد.. حتى شمل ذلك كتب الأدب والتاريخ واللغة”.
ومن الخلفاء العباسيين المشهورين في مجال إعدام الكتب الخليفة العباسي المهدي. يقول ناصر الخزيمي: “اشتهر عن المهدي شدته على الزنادقة، حتى استحدث ما يسمى بـ (صاحب الزنادقة) فكان يمتحنهم ويحرق كتبهم”.
حرائق المغرب والأندلس
إذا كان المشرق قد عرف إحراق المكتبات وتدمير الآثار خلال الغزوات الدينية أو لعوامل سياسية فإن المغرب والأندلس قد عرف عمليات إحراق شهيرة لمؤلفات كبار الفلاسفة والأدباء والفقهاء بسبب التشدد الديني والمذهبي، وسعيا من الحكام إلى إرضاء العامة والفقهاء، ومن مشاهير ضحايا إحراق الكتب نجد ابن حزم وابن مَسرّة والغزالي و ابن رشد ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم. وتروي الكاتبة جانينا سافران في مقالها “سياسة إحراق الكتب في الأندلس” بأن هذه البقعة الجغرافية شهدت ست مناسبات تجسد هذه الظاهرة، ففي القرون الثلاثة الرابع والخامس والسادس للهجرة عرف المغرب والأندلس ظاهرة إحراق الكتب والمكتبات بقرار من الحكام أنفسهم. وقد ذكر صاعد الأندلسي في كتابه “طبقات الأمم” إقدام الحاجب العامري (المنصور بن أبى عامر 938 – 1002 م) على حرق الكتب استجابة لرغبة الفقهاء وضغوط الشارع، الذي كان الفقهاء قد عملوا على تهييجه ضد الفلاسفة والعلماء. وفي عهد “ملوك الطوائف” أمر المعتضد بن عبّاد حاكم إشبيلية ( 1042م و1069م ) بإحراق كتب الإمام ابن حزم الظاهري. وفي عهد أمير دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين تم حرق كتب الإمام الغزالي، وخاصة كتابه “إحياء علوم الدين”. وكذلك فعل ابنه تاشفين بن يوسف، وفي عهد يعقوب المنصور الموحّدي أحرقت كتب الفيلسوف ابن رشد. وقد اعتبروا جميعا عملهم ذاك داخلا في إطار “محاربة البدع” و”إحياء السنة”. وهكذا عرفت الكتب محنة حقيقية في تلك المرحلة من تاريخ المغرب والأندلس.
وقد تحول إحراق الكتب في بعض الفترات إلى ما يشبه الظاهرة التي تتكرر وخاصة في عهد الموحدين، حيث كثر التشديد على ملاحقة المذاهب المخالفة، مما أشاع كراهية الفلسفة والمنطق وحتى بعض المذاهب الدينية الأخرى المغايرة لمذهب القوم، فنتج عن ذلك إحراق الكتب واضطهاد أهلها، يقول خالد السعيد في كتابه “الفقهاء والدهماء والنساء، في نقد التشدّد”: “ومما يدعو للعجب أن العداء للفلسفة كان منبعه العوام لا الملوك والحكام، فملوك الأندلس وأمراؤها لم يلاحقوا الفلاسفة ولم يحرقوا كتبهم بغضا فيهم وإرهابا لهم، وإنما لجأوا إلى ذلك توددا للعوام وتزلفا”.
ومن المفارقات العجيبة أن افتخار المسلمين اليوم بالتراث الأندلسي يرجع بالدرجة الأولى إلى فضل المستشار الخاص للملك ألفونسو – الذي طرد العرب من الأندلس- والذي أشار على ملكه بعدم حرق كتب المسلمين، باعتبارها تراثًا يحق للإسبان الاحتفاظ به، وقد توارث ملوك إسبانيا هذا الشعور بالواجب تجاه التراث الأندلسي، فحافظوا عليه إلى اليوم، وما زالوا يكتشفون المزيد منه بين الفينة والأخرى.
إحراق صلاح الدين للمكتبات في مصر:
رغم الصورة اللامعة التي رسمها المؤرخون والفقهاء لصلاح الدين الأيوبي بفضل انتصاراته العسكرية، إلا أن الكثير من المصادر التاريخية تروي عنه أمورا في غاية السلبية منها ما أورده الباحثون حلمي النمنم وجابر عصفور ويوسف زيدان من قيامه بتدمير المكتبات الفاطمية فى مصر سواء “دار العلم” الباهرة أو مكتبة القصر الكبير ومكتبة جامعة الأزهر، وذلك بهدف القضاء على الفكر الشيعي، وأورد العماد الأصفهانى، وهو من أقرب الناس إلى صلاح الدين، أنه أسند أمر تصفية هذه المكتبة إلى (بهاء الدين قراقوش)، وهو تركى ذو طبع غليظ عرف عنه احتقاره للكتب. وروى البعض أن جنود صلاح الدين كانوا ينزعون جلود الكتب ليصنعوا منها نعالا وأحذية لهم، وقد انبهر الكثير من المؤرخين بعظمة تلك المكتبة وكثرة نفائس الكتب التي ضمتها ومنهم القلقشندي في كتابه “صبح الأعشى” الذي ذكر مكتبة الفاطميين بمصر بقوله: “وكانت من أعظم الخزائن، وأكثرها جمعاً للكتب النفيسة من جميع العلوم، ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم (أي الفاطميين)”. وقدّر شوشتري في كتابه (مختصر الثقافة الإسلامية) عدد مقتنيات المكتبة بثلاثة ملايين مجـلد، وإنـها كانـت أضـخم مكتـبة عرفهـا التـاريخ فـي ذلك العـصر. كما عبر عن انبهاره بمكتبة الفاطميين بمصر البابا سلفستروس الثاني بروما سنة 999م، وقال عنها متحسراً: “إنه لمن المعلوم تماماً أنه ليس ثمة أحد في روما له من المعرفة ما يؤهله لأن يعمل بواباً لتلك المكتبة. وأنّى لنا أن نُـعلم الناس ونحن فـي حاجة لمـن يُعلمنا، إن فاقـد الشيء لا يعطيه”.
وفي الفترة الموالية لهذه الحقبة من التاريخ يذكر المؤرخون قيام محمود الغزنوي في إطار حملاته على الهند التي استغرقت 25 بهدم الكثير من المعابد وتماثيل الديانة الهندوسية والبوذية، كما أحرق السلطان مسعود الأول بن ملكشاه السلجوقي مكتبة ابن سينا بأصفهان بعد غزوه للمدينة سنة 1034م، وفي هذه الفترة نفسها تعرضت مكتبة بني عمار المسماة “دار العلم” بطرابلس الشام للتخريب والإحراق من طرف الصليبيين سنة 1109، كما تعرضت مكتبة غزنة للتدمير من طرف علاء الدين حسين سنة 1151.
وفي سنة 1256 اقتحم المغول قلعة “ألموت” وأحرقوا مكتبتها وقتلوا من بها من “الحشاشين” كما دمر المغول “بيت الحكمة” مكتبة ببغداد العظيمة سنة 1258م.
“نالاندا” مأساة أعظم جامعة في التاريخ القديم:
ولعل من أكبر المآسي التي عرفها تاريخ إحراق المكتبات وتدمير الآثار ما حدث لأقدم جامعة وأعظم المكتبات في التاريخ القديم، ألا وهي مكتبات جامعة “نالاندا” Nalanda بالهند، والتي يعود إنشاؤها إلى القرن السابع قبل الميلاد، واستمرت كواحد من أكبر المراكز العلمية إلى حدود سنة 1193 حين قام بتدميرها وإحراقها جيش المسلمين بقيادة اختيار الدين محمد بن بختيار الخلجي، عند غزوه لولاية بيهار بالهند، وكانت عبارة عن 9 طوابق تضم أزيد من ستة ملايين كتابا ومخطوطة، إضافة إلى عدة معابد وقاعات للتأمل، وتستقبل عشرة آلاف طالب يأتون من الصين واليابان وإندونيسيا وكوريا وبلاد فارس وتركيا وغيرها، وكان يعمل بها ألفان من المدرسين، وقد ذكر أحد طلبتها الصينيين وهو (سانغ تانغ) في مذكراته صعوبة التسجيل بها بسبب امتحاناتها العسيرة والصارمة. ويقول المؤرخون إن هذه الجامعة بمكتباتها المتعددة لم تقم لها قائمة بعد تحريقها وهدمها من طرف المسلمين، ووفق المؤرخ الهندي (دي سي أهير)، “كان دمار هذا المركز العلمي والحضاري سببا رئيسيا في اندثار الفكر الهندي العلمي القديم في مجالات الرياضيات والفلك والكيمياء والتشريح”.
وقد انطمس ذكر هذه الجامعة وصارت أطلالا إلى أن اكتشف علماء الحفريات آثارها سنة 1860 م.
الإعدام “الشخصي” للكتب:
ثمة ظاهرة أخرى عرفتها الثقافة الإسلامية وهي قيام بعض المؤلفين بإعدام كتبهم بأنفسهم في نهاية حياتهم، وذلك لسبب ديني بالأساس أو لسبب نفسي، أو سياسي عند تضييق السلطات عليهم، والذين أحرقوا كتبهم أو أعدموها بطريقة من الطرق لسبب ديني عقائدي كانوا كثرا، حيث شعروا بالذنب من تلك المؤلفات التي وضعوها، وبالخوف من أن تضادّ الدين أو تخالفه في شيء ما، وممن روي عنهم ذلك سفيان الثوري، جاء في كتاب “الثقات” لمحمد بن حبان عن سفيان الثوري أنه “كان قد أوصى إلى عمار بن سيف – وكان ابن أخته – بكتبه ليمحوها ويدفنها” وأنه قال ” ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفاً”، وذلك خوفا من أن تكون الأحاديث التي نسبها للنبي غير صحيحة. وذكر البعض أيضا أنّ أبا سعيد السيرافي “أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار”. ومن هؤلاء أبو عمرو بن العلاء الذي قال عنه أبو عُبَيدة: ” كانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تنسَّك فأحرقها كلها”. كما أنّ داوود الطائي ألقى بمكتبته كلها إلى البحر. ومما روي كذلك أن أبا عمرو الكوفي دعا بكتبه عند الموت فمحاها فسُئل عن ذلك، فقال: “أخشى أن يليها قوم يضعونها غير موضعها”. وهذا أبو سليمان الداراني، جمع كتبه في تنور وأشعل فيها النار ثم قال: “والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك”.
كانت السلطات أيضا تمارس العنف على الكتاب والمؤلفين بحسب مصالحها السياسية، لهذا كان منهم من أحرقوا كتبهم بأيديهم. ويحدثنا الكاتب ناصر الخزيمي في كتابه “حرق الكتب في التراث العربي” عن سبعة وثلاثين كاتباً أحرقوا كتبهم بأنفسهم من بينهم الماوردي والحافي وسعيد بن جبير وأبو عمرو الكوفي والتوحيدي والقرطبي، كما ذكر طرق إتلاف الكتب وحددها في أربع قائلا: “تعددت طرق إتلاف الكتب في تراثنا، إلا أنها لم تخرج عن أربع طرق معروفة ومعهودة وهي: إتلاف الكتب بالحرق،.إتلاف الكتب بالدفن، إتلاف الكتب بالغسل بالماء والإغراق، إتلاف الكتب بالتقطيع والتخريق”.
وقد زاد من هذه الظاهرة حث العديد من الفقهاء على حرق الكتب المخالفة كما ورد في كتاب “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” لابن القيم الجوزية حيث قال: ” لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإحراقها”. وقد كان أبو حيان التوحيدي قبل ذلك قد أشار في رسالة إلى صديق عاتبه على إحراق كتبه مبررا ما فعله بأنه اقتدى في ذلك بأئمة “أخذ بهديهم”.
جرائم العثمانيين:
لم يؤد اكتساح الأتراك العثمانيين لرقعة واسعة من أوروبا ثم الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا ، لم يؤد فقط إلى اضطهاد شعوب كثيرة وجعلها تعيش في إذلال تام مع الإرهاب العسكري لـ “الانكشارية”، بل كانت الكتب والآثار من بين ضحاياهم كذلك، ومن ذلك تدمير ونهب مكتبة القسطنطينية الكبرى بعد غزو المدينة سنة 1453، بعد غزو المدينة من طرف محمد الثاني بن مراد العثماني، كما قام العثمانيون أيضا بتخريب وحرق أكبر مكتبة بأوروبا بعد مكتبة الفاتيكان وهي مكتبة كورفينوس بهنغاريا والتي تدعى أيضا “كورفينيا”، والتي تعدّ واحدة من عجائب عصر النهضة، حيث تعرضت للحرق والنهب من طرف جيوش الخلافة العثمانية سنة 1526م.
محاولات يائسة لهدم الأهرامات !
من أطرف ما ورد في المصادر التاريخية الإسلامية محاولة بعض الحكام هدم أهرامات مصر و”أبو الهول”، وهذا يناقض تماما ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين عندما كتبوا في بياناتهم الموجهة ضد تنظيم “داعش” أو “الطالبان” بعد هدمهما للآثار قائلين إن هذه الآثار العظيمة ظلت قائمة رغم أن الصحابة الأوائل والخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم لم يمسوها بسوء، وهو أمر غير دقيق تماما، ليس فقط بالنظر إلى ما ورد في كتب المؤرخين المسلمين من وصف لتخريب المعابد القديمة والأوثان، بل وما ذكرته كذلك من محاولة بعض الحكام والخلفاء هدم الأهرامات الفرعونية بمصر، محاولات باءت جميعها بالفشل الذريع، بسبب عظمة تلك البنايات وصلابتها وقوة صمودها في وجه الزمن.
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته ذاكرا محاولة الخليفة المأمون العباسي تخريب الهرم الأصغر: “وكذلك اتفق المأمون على هدم الأهرام التي بمصر، وجمع الفعلة لهدمها، فلم يحل بطائل، وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان، وهنالك كان منتهى هدمهم. وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر، ويزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان”.
ومن بين الذين ذكرهم التاريخ ضمن لائحة من حاولوا تخريب الأهرام “بهاء الدين قراقوش” الذي عينه صلاح الدين نائباً عنه على مصر، وتقول بعض الروايات إن قراقوش هذا قد نجح في هدم العديد من الأهرامات الصغيرة التي كانت في متناوله، واستعمل حجارتها في بناء قلعة القاهرة. يقول عبد اللطيف البغدادي في كتابه “الإفادة والاعتبار في الأمور والمشاهدات والحوادث المعاينة بأرض مصر”، واصفا هذه الأحداث:” “وفي (بوصير) منها شيء كثير (أي الأهرامات)، وبعضها كبار وبعضها صغار وبعضها طين ولبن وأكثرها حجر وبعضها مدرّج وأكثرها مخروط أملس، قد كان منها بالجيزة عدد كثير لكنها صغار فهدمت في زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب، على يدي قراقوش، وهو الذي بنى السور من الحجارة محيطاً بالفسطاط والقاهرة وما بينهما وبالقلعة التي على المقطّم، وأخذ حجارة هذه الأهرام الصغار وبنى بها القناطر الموجودة اليوم بالجيزة”.
بعد وفاة صلاح الدين حاول ابنه العزيز عثمان بن يوسف هدم الأهرامات، ولكنه رغم الإمكانيات التي وفرها وأعداد العمال الذين عبأهم لهذا العمل المشين، إلا أنه بعد ثمانية أشهر فشل في مهمته وأقلع عن الفكرة يائسا.
يقول المؤرخ البغدادي في “الإفادة والاعتبار”: “وكان الملك العزيز عثمان بن يوسف لما استقل بعد أبيه، “سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر وهو ثالثة الأثافي، فأخرج إليه الحلبية والنقابين والحجارين وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته وأمرهم بهدمه ووكّلهم بخرابه فخيّموا عندها وحشروا عليها الرجال والصنَّاع ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو 8 أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع الحجر والحجرين، فلما طال ثواؤهم ونفدت نفقاتهم وتضاعف نصبهم ووهنت عظامهم وخارت قواهم، كفّوا محسورين مذمومين لم ينالوا بغية ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوّهوا الهرم وأبانوا عن عجز وفشل”.
ومن الحكام الذين حاولوا كذلك هدم الأهرام محمد علي باشا حاكم مصر ما بين 1805 و 1848 ، حيث أعطى أوامره إلى مهندس فرنسي يدعى لينان دي بلفون Linant de Bellefonds بهدم الهرم الأكبر، واستخدام أحجاره الضخمة لبناء قناطر جديدة. غير أن المهندس الفرنسي كان من الذكاء بحيث تحايل على الحاكم الغاشم بمساعدة من القنصل العام لفرنسا بمصر، واقترح عليه بدائل أخرى، وهكذا أنقذ الهرم الأكبر من التشويه.
وما أن توفي محمد علي باشا سنة 1848 حتى عاد إبنه الخديوي عباس حلمي الأول إلى نفس وهْم والده بهدم الأهرامات، فنادى على مهندس فرنسي آخر إسمه “موجيل” وخاطبه قائلا: “لا أدري ما الفائدة من وجود تلك الجبال من الصخور المرصوصة فوق بعضها، فاذهب واهدمها واستخدم حجارتها في إتمام بناء القناطر”، حسب ما أكده المؤرخ شعيب عبد الفتاح. غير أن المهندس الفرنسي هذه المرة كان صريحا مع الخديوي حيث أخبره بأنه لن يقبل أبدا أن يرتبط إسمه بهدم مآثر عظيمة كالأهرامات.
هدم الآثار وإحراق المكتبات في الشرق الأوسط المعاصر:
عرفت العربية السعودية الكثير من أعمال هدم الآثار عند بداية تأسيسها، فسواء تعلق الأمر بالحروب الدينية الأولى التي أعلنها “آل سعود” خلال القرنين الثامن والتاسع عشر على سكان جزيرة العرب الذين اعتبروهم “كفارا”، أو بما حدث بعد ذلك من تدمير تدريجي للآثار القديمة بعد استتباب الحكم لهم خلال القرن العشرين، فيبدو أن ثقافة الأعراب ظلت متشبعة بنمط تدين بدوي يرفض الآثار القديمة ويعتبرها أوثانا تعبد، وهكذا لم يراع حكام السعودية خلال وضعهم لسياسة التعمير الجديدة لمكة معايير صيانة الآثار القديمة، مما أدى إلى هدم أقدم الآثار الإسلامية بمكة لبناء العمارات الشاهقة وتوسيع الحرم، وهكذا تم هدم بيت أبي بكر الخليفة الأول وبناء فندق “هيلتون” مكانه، وتم هدم بيت خديجة بنت خويلد زوجة النبي وبناء مراحيض مكانها، وتوالت انتهاكات هدم الآثار الإسلامية القديمة دون أي اعتبار للانتقادات التي رافقت ذلك، سواء من داخل السعودية أو من خارجها، خاصة بعد أن أظهر ملوك السعودية اهتماما كبيرا بترميم آثار أجدادهم الأوائل بمنطقة “الدرعية” التي انطلقت منها الدعوة الوهابية قبل قرنين فقط.
وفي العراق مهد الحضارات العريقة شهدت الآثار والمكتبات مجازر حقيقية ورهيبة، فبعد سقوط نظام صدام حسين اندلع الصراع الطائفي وظهرت الفرق الدينية المسلحة التي أبانت عن حنكة كبيرة في تخريب مآثر الحضارات القديمة التي يعود بعضها إلى سبعة آلاف سنة، وقد عرف عام 2003 نهبا فظيعا لمتاحف بغداد والموصل واقتحام أكثر من 10 آلاف موقع أثري، إضافة إلى تخريب المعابد القديمة.
الطالبان و”غزوة تماثيل بوذا”:
كان لاستيلاء ميليشيات “الطالبان” على الحكم في أفغانستان آثار في غاية السلبية ليس على بلد أفغانستان وشعبه فقط بل على الإسلام والمسلمين عموما، ومن أبرز مظاهر الغلو المذهبي والجنون السلفي ما فعله الطالبان في 1996م عندما قاموا بتدمير مكتبة كابول العامة التي كانت تحتوي على 55 ألف مؤلَّف. ثم ما فعلوه سنة 2001 بتماثيل “بوذا” الضخمة المتواجدة في عدد من مناطق البلاد، والتي تعدّ تراثا عالميا زاخرا نتج عن آلاف السنين من التفاعل الحضاري الذي تحقق بفضل موقع أفغانستان على تقاطع طرق الحرير التاريخية، ما جعل تراثها يحمل بصمات الحضارات الفارسية والهندوسية والبوذية. ورغم ردود الفعل العالمية القوية التي خلفها إعلان المُلا محمد عمر زعيم هذا التنظيم الإرهابي عن قرار هدم الآثار البوذية، إلا أن ذلك لم يثنه عن مباشرة عمليات التخريب سنة 2001، مستعملا المتفجرات والمدافع، مؤكدا على أن حركته لن تتراجع عن تدمير جميع الآثار التاريخية في البلاد رغم المناشدات الدولية والاحتجاجات التي تواجهها حركته، وقال في كلمة بثتها “إذاعة الشريعة” بمناسبة عيد الأضحى “نحن ندمر الأصنام، والعالم جعل من هذا العمل مأساة”، معتبرا أن الغرب قد “أعلن الحرب على القرآن”. وقائلا “دعونا نثبت للعالم أن المسلمين متحدون في العقيدة وأنهم لن يرضخوا لأي ضغط مهما كان الثمن”.
عودة الرغبة المجنونة في “هدم الأهرامات”:
بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف بـ”داعش”، وانطلاقه في هدم الآثار القديمة بالعراق مع تصوير جرائمه بفخر واعتزاز، وبثه مقطعاً مصوراً لأمير التنظيم الإرهابي أبو بكر البغدادي يُهدد فيه ويتوعد بنسف أهرامات مصر، تشجع العديد من مشايخ السلفية في أرض الكنانة ليطالبوا من جديد بهدم الأهرامات وتمثال “أبي الهول” لأنها شاهدة على “حضارة وثنية مذمومة”، فقال أحد هؤلاء الدعاة وهو مرجان سالم الجوهري الذي شارك في تحطيم تمثال بوذا بأفغانستان: “المسلمون مكلفون بتطبيق الشرع الحكيم، ومنه إزالة تلك الأصنام كما فعلنا بأفغانستان وحطمنا تمثال بوذا”. وقد ردّ بعض المصريين على هذا النداء الإرهابي الشنيع بالقول: “ستبقى الأهرامات وستزول داعش”.
انتقال عدوى “الداعشية” إلى اليابان !
من أطرف ما تناقلته الصحف سنة 2014، قيام طالب سعودي يتابع دراسته باليابان، بتخريب تماثيل لبوذا في العاصمة اليابانية طوكيو استجابة لنداء “الدولة الإسلامية”.
وقد نشر موقع “إسلام ويب” في فتوى رقمها 7458، ردا على سؤال يتعلق بالحكم الشرعي في تحطيم التماثيل، أجاب الموقع بدون لف ولا دوران أنه “دلّت الأدلة الشرعية على وجوب هدم الأوثان والأصنام، متى تمكّن المسلمون من ذلك، سواء وُجد مَن يعبدها أو لم يوجد”. مضيفا “إن ما قامت به حكومة الطالبان من تحطيم صنم بوذا الذي يُعبد من دون الله عمل مشروع يؤجرون عليه، بل واجب يُأثم تاركه مع القدرة”.
والمضحك أن أحدهم سأل هذا الموقع الإرهابي عن السبب الذي جعل الصحابة الأوائل وتابعيهم لا يحطمون التماثيل والآثار التي ظلت قائمة إلى عصرنا هذا، فكان جواب الموقع بأن تلك الآثار كانت في أماكن نائية وغير مرئية حيث كانت “مطمورة في التراب”، ما يدل على غاية الجهل لدى محرّري هذا النوع من الآراء.
ومما نشره إعلام “داعش” آنذاك بعد تدميره لآثار “نينوى” التي تعود إلى 5000 سنة، أن ذلك التخريب “أغضب الكفار، وهذا بحد ذاته أمر مُحبّب إلى الله”.
وفي سنة 2014 بعد غزو الموصل من قبل تنظيم “داعش” تم إحراق المكتبة الكبرى بالمدينة ومكتبات الجامعات وأصدر التنظيم الإرهابي بيانا برر فيه أفعاله تلك بأنّ “الكتب تفسد العقل” و”تتعارض مع ما يُقره الدين”.
حراك الغوغاء ومحرقة الكتب:
رغم أن حراك 2011 بمصر كان بشعارات الديمقراطية ودولة القانون والحرية والعدالة الاجتماعية، إلا أن جمهور الحراك على ما يبدو لم يكن على شاكلة واحدة ولم تكن له نفس الأهداف، ولعل استحكام عقلية إحراق الكتب وتدمير الآثار لدى شريحة من عامة الشعب قد جعلت الجمهور من الغوغاء يقتحم مكتبة المجمع العلمي بالقاهرة في يوم 18 دجنبر من سنة 2011 ، بعد اندلاع حراك الشارع بميدان التحرير، و أودت الأعمال التخريبية بآلاف المخطوطات النفيسة والنادرة. ومن بين 200.000 كتاب لم يتم إنقاذ سوى 30.000.
تومبوكتو لم تسلم:
في سنة 2013 هجمت عصابات تنظيم “أنصار الشريعة” الإرهابي على مكتبة المعهد العالي للدراسات والأبحاث الإسلامية “أحمد بابا” بتومبوكتو، وأضرمت النار في تلك المكتبة التاريخية التي تضمّ أزيد من 20.000 مخطوط.
ولعل سنتي 2013 و 2014 كانتا مأساويتين بالنسبة للكتب والمآثر التاريخية بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، فإضافة إلى ما ذكرناه قامت جهات مجهولة بلبنان سنة 2014 بإحراق مكتبة طرابلس المسيحية، والتي كانت تضمّ 80.000 من المخطوطات والكتب النادرة.
خلاصة:
يعكس تاريخ محارق الكتب والآثار مفارقة في طبيعة الجنس البشري، الذي يجدّ في البناء والتأليف مُصرا على أن يترك أثرا في التاريخ قبل رحيله عن هذا العالم، وفي نفس الوقت يهدم ما بناه ويتعقب خطوات التشييد العظيمة بأعمال التخريب.
ولعل الدرس الذي نخرج به من هذا التاريخ الطويل من العنف تجاه أشرف ما يُبدعه العقل البشري من منشآت حضارية، هو التقابل الموجود بين الحرية والتعصّب، فإذا كانت الأولى بأفقها الرحب أساس الإبداع الجميل والبناء الأصيل، فإن الثاني بحكم ضيق أفقه هو منطلق العنف ومبعث الخراب.