عبد اللطيف مجدوب
رصد الظاهرة
نصادف في مقروءاتنا اليومية، وبردهات مرافقنا الإدارية خاصة، مسؤولين بصفات وظيفية جد حساسة، يحرصون ـ أشد من حرصهم على طعامهم ـ على أن ترفق بأسمائهم، ويتوقون إلى أن تنضاف لوثائق هوياتهم الثبوتية، ومنهم من لا يتورع عن أن تأخذ صفته سطرا أو سطرين ويوشح بها صدره أو كتفه كنياشين أو ضوء عبور، حتى لا يطاله لا قانون ولا مراقبة ولا متابعة. وإلى وقت قريب، كنا نرى الزجاجات الواقية الأمامية لبعض السيارات تعج ببطاقات وهويات من هذه الحمولة، تزدان أحيانا بخطوط حمراء وخضراء!
عينات من هذه الصفات الوظيفية
كلما دلفنا إلى دهاليز المؤسسات المركزية ومرافقها، وقبل أن نلج إلى مكتب مسؤول، إلا وداهمتنا نماذج من الصفات الوظيفية لهؤلاء، تتوسط مكاتبهم بإطارات فضية ومذهبة، تغنينا عن مشاهدة الملفات والأوراق والحواسيب التي تؤثث جوارها، حتى ليخال الزائر أنه أمام مسؤول، من العيار الثقيل، اجتمعت بيده سلطات الحل والعقد، والمتحكم في رقاب جيوش جرارة من الموظفين، وحتى نقترب أكثر من هذه الظاهرة لسبر أغوارها، نورد فيما يلي عينة منها:
* “… الرئيس المدير العام للإعلام الجماهيري المكلف بتدبير الاتصالات والمواقع الفضائية”؛
* “… مهندس الزراعة والبيطرة وعلاج المياه والأتربة”؛
* “… الرئيس المنسق العام لجباية الضرائب العامة ومراقبة الأملاك المخزنية”؛
* “… طبيب أخصائي في أمراض القلب والشرايين والدورة الدموية”؛
* “… طبيب عشاب أخصائي في أمراض النساء والتوليد والعادة الشهرية والتداوي بالحبة السوداء”؛
* “… طبيب خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي”؛
* “… طبيب جراح لكسور الدماغ وعظام الجمجمة، معتمد لدى المحاكم الشرعية”؛
ملاحظات تشريعية
نلاحظ آنفا أن هناك مهاما إدارية ومهنية، مثقلة بإضافات غير واردة في أي منظومة تشريعية، بيد أن أصحابها مزهوون بحملها، لما تنطوي عليها من قوة سلطوية أو معرفية، لا يكاد يوجد لها نظير في المجتمع، فيحتمون وراء بريقها، إما لتحميهم من سلطة القانون أو تمنحهم لمعانا في سوق الشغل، أو بالأحرى هي قوة جاذبية لاستقطاب الزبناء، كما هو الحال عند الأطباء خاصة.
فما زالت هناك أجيال إدارية تعيش بيننا، تحس بتراتبية السلطة ووقعها في آذان المسؤولين وأفراد المجتمع عامة، مثال هذه الصفة الوظيفية “… الرئيس المنسق العام لجباية الضرائب العامة ومراقبة الأملاك المخزنية”، التي يخالها المرء أن حاملها يتحكم في ممتلكات الناس ومستتبعاتها، وكلها تصب في محيط هذا المسؤول المتحكم في روافد حساسة، تجمع بين التنسيق والجبايات والضرائب والمراقبة والأملاك، وصديق للمخزن.
أما أصحاب المهن ذات العناوين البراقة، فهي بالكاد ماركيتينغ Marketing لتسويق منتوج معين، مثال هذه الصفة المهنية “… طبيب عشاب أخصائي في أمراض النساء والتوليد والعادة الشهرية والتداوي بالحبة السوداء”، وقراءة لوحة، على هذه الشاكلة على باب “عيادة” بعمارة سكنية، يولد لدى المشاهد والزائر معا أهمية “الحبة السوداء” كإكسير الحياة في علاج كثير من الأمراض المستعصية، مع أن مدلول اللوحة، في عمقه، يمكن أن يكون مرادفا للتحايل على المواطن واستغلالا لسذاجته وثقافته العامية.
عينة من الصفات الإدارية التي طالها الصراع
نقتصر، فيما يلي، على ذكر حالات لصفات وظيفية إدارية، طالها الصراع النقابي مع الحكومة، ويهم الأمر أولا صفة “المرشد التربوي” التي وردت في مشروع إعادة هيكلة التشريع الإداري التربوي، والتي تنص على أن هذه الصفة من اختصاص المسؤول الأول على رأس كل مؤسسة تعليمية، في التعليم الأساسي والإعدادي والتأهيلي، إلا أن النقابات التعليمية، وبنظرة مسطحة ومتعجرفة، رأت في هذه الصفة “المرشد التربوي” تبخيسا “وإجهازا” على حقوق “الشغيلة التعليمية”، وبقيت مصرة على صفة “مدير”، وهكذا رضخت الحكومة للمنظور السلطوي النقابي، فأبقت على صفة المدير بدلا من “المرشد التربوي”، وكذلك جرى الأمر بالنسبة لصفة “معلم” وتحويله إلى صفة “أستاذ”!
البطاقة الوطنية والهوية
عاصرت وثيقة البطاقة الوطنية أجيالا إدارية عديدة، كانت حاملة الصفة المهنية لصاحبها، تبدأ بخمس كلمات وتنتهي بكلمة واحدة “بدون”، ثم انتقلت في الجيل الماضي أن خضعت إلى الحصر بين موظف، مستخدم، ومقاول، وعاطل، لكنها ما لبثت أن اختفت في الجيل الإداري الحالي، ولم يعد هناك ما يشير إلى “مهنة” حاملها، وزيرا كان أو مستخدما، وهو ما أثار حنق وغضب شريحة كبيرة من المواطنين، الذين ألفوا الاحتماء بالصفات المهنية ذات الوقع السلطوي في النفوس، والتي منحت لهم امتيازات كبيرة، عدا الضوء الأخضر الذي لازمهم في صولاتهم وجولاتهم.
وبإيجاز
مر المواطنون المغاربة بعقود، صادفوا خلالها أو انتقلت إليهم عبر النظم التربوية، قيم سلطوية تراتبية، اجتمعت بيد الأب أو المسؤول، وهكذا، مع مر الأزمنة، صارت صفة ملازمة لهذا المواطن، وأصبح التحكم في الآخر أو “الخضوع” لأوامر الرئيس وتعليماته أمرا لا مندوحة عنه. لكن، وكيفما كانت هذه الصفات الوظيفية /المهنية، ودفعا لكل احتيال أو انتحال صفة سلطوية أو مهنية ما، أصبح من الضروري إعادة تقنينها لتنحصر في كلمة أو ثلاثة مدعمة بتشريع زاجر لكل من يتقمصها أو ينتحلها خارج حدودها.