ذ.عبد اللطيف مجدوب يكتب : القيم وانهيارها أمام سلطان المال..

admin
كتاب واراء
admin10 فبراير 2024آخر تحديث : منذ 10 أشهر
ذ.عبد اللطيف مجدوب يكتب : القيم وانهيارها أمام سلطان المال..
  • عبد اللطيف مجدوب

منذ بداية الخليقة، كانت القوة الغاشمة وحدها معيار الهيمنة والتسلط والقيادة، وبالتالي السيادة، وهو بمعنى من المعاني “القانون” الشبيه بقانون الغاب الذي يكون الإنسان القديم قد استمده من العيش جوار كائنات ضارية، لا تحتكم في تعايشها سوى لقانون أسمى، سلطان القوة والمقدرة، فيغدو الأسد ملكا وما عداه خدما وحاشية، بيد أن هناك مفارقة كبيرة بين القوة الغاشمة والقوة العاقلة (Rational force) وربما شكلت التمايز الذي يفصل الإنسان عن باقي الكائنات.

فالقوة الغاشمة تفتك بأي كان، بينما القوة العاقلة التي يمثلها الإنسان من الصعب جدا اقتحامها، وهي التي بوأته عبر حقب التاريخ منزلة حضارية رفيعة، تميزت بسن قوانين وأنظمة وعهود ومواثيق، صارت فيما بعد تشكل منظومة العلاقات والمواثيق التي تربط بين أفراد وشعوب الأرض، والناظم لمعاملاتها.

ويمكن القول بأن الرسائل والكتب السماوية هي الأخرى ساهمت بقسط وفير في بناء القانون العام الذي كان يجنح دوما إلى تبيان قيم الخير والشر والتضحية والتسامح والتعاون والتضامن. مجردة من كل الأطماع والنوايا، بيد أنها، في حقبة تاريخية موالية، سطتْ عليها مؤسسات دور العبادة، ممثلة بشكل رئيس في دور الكنيسة البابوية التي هيمنت على حياة الإنسان في شقيها العقدي (الروحية) والمعاملاتية (المادية)، لكن سرعان ما ستتخلى عن عرشها في ركاب التطور الصناعي وظهور الرأسمالية الليبرالية (Liberalism)، فغدا المال السيد وحكم الفصل في النزاعات السياسية الدولية، مشخصة، بشكل خاص، في المنتجات الصناعية وتصريف السلع والأسواق والموارد الاقتصادية والشركات متعددة الجنسيات أو بالأحرى العابرة للقارات.

هكذا، وبهذه الوتيرة الحاجياتية الملحة (Urgency) اختفت بالكاد القيم الروحية والأخلاقية عامة، وأصبحت قصرا على ارتياد دور العبادة وإتيان بعض الطقوس، وحلت محلها القيم محض مادية، أفرغت إنسان الألفية الثالثة من إنسانيته ونزعته إلى الخير والحب، بل صبغتها في عمقها بمقابل مادي ينحصر تحت عناوين كم، مردودية من، وخسارة من؟! وأضحى في ظلها مفهوم الإنسان لا يتجاوز إطارات الإنتاجية (Productivity) والتسويق (Distribution) والاستهلاك (Consumption)، كما تطورت دراسة الإنسان أخيراً إلى الوقوف على حاجياته واستهلاكاته وقدراته، ومن ثم غدا هذا الإنسان/العجوز/المتقاعد عالة على “المجتمع”، ما دام يكتفي فقط بالاستهلاك، بل ذهبت بعض نظريات الرأسمالية المتوحشة إلى وجوب التخلص منه “كجهاز” بلِي وفقد فاعليته!

الترويج للاستهلاكية الاقتصادية (Economic Consumptionism)

بات هناك صراع على أشده بين أقطاب اقتصادية عدة، على رأسها أمريكا والصين، اللتين تسعيان بشتى الوسائل إلى مد نفوذ كل منهما على اقتصاديات وأسواق العالم لتصريف منتجاتهما، وبالتالي نشر ثقافتهما الاستهلاكية عبر شركات ومؤسسات إنتاجية عابرة للحدود، سواء تعلق الأمر بالاقتصاديات الكبرى، ممثلة في صناعة الطائرات والغواصات والسفن، أو الاقتصاديات الصغرى كالمعدات والأجهزة الإلكترونية وقطع الغيار ومواد البناء…

داخل هذه البيئة الإنتاجية صرف مادية نشأ إنسان استهلاكي مهووس بحاجياته المادية، لكن في المقابل فارغ بالكاد من كل القيم الروحية والأخلاقية، ما جعله يسقط، بين الفينة والأخرى، فريسة لأمراض سيكولوجية جد معقدة، بعضهم يصاب بالعدوانية تجاه الآخرين، وآخرون ينتابهم الشعور بالاكتئاب أو يسقطون صرعى للسادية المتقدمة (Sadism). ولخطورة ظواهر وحالات مثل هذه، وعملا على التخفيف من حدتها، لجأت بعض الدول الغربية، على سبيل المثال، إلى نصب أكشاك للهاتف الأصفر في الشوارع، يسمح للمواطن العمومي أن يستعمله للصخب والسباب واللغط والصراخ، فقط للتنفيس عن مكنوناته ومعاناته، وأحيانا عن انفصاميته (Schizophrenia). فهل سينحدر الإنسان إلى عصوره الأولى أو بالأحرى إلى حيوانيته التي لم تكن لتميزه كثيراً عن الحيوان الغاشم؟!

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.