لكل مجتمع ظواهر اجتماعية تستنبط من أفعال الإنسان بكل مراحل حياته، وقد أصبحت الظواهر تشكل صورة واقعية للأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع في الوقت المعاصر. ومن بين تلك الظواهر ظاهرة تشرد الأطفال في الشوارع ، وهي الظاهرة التي تتعدد فيها الأسباب والحوافز ذات العلاقة المباشرة بالتشرد. هناك التفكك الأسري، هناك الوضع البئيس للمحيط التنشئي الذي يتربى فيه الطفل، وهو المحيط المتعدد الأوجه، كالعيش في البادية والقرية النائية؛ والسكن العشوائي الهش، وهناك عدم استقرار النفس منذ الولادة؛ وهناك الهذر المدرسي؛ وهناك غياب الرعاية الاجتماعية للطفل الناتج عن عدم الوعي بالحقوق الإنسانية المرتبطة بالطفل. والملاحظة الرئيسة في هذا السياق، هي أن تشرد الأطفال مقياس سياسي واقتصادي واجتماعي للدولة؛ فكلما تراكمت الظاهرة، إلا وصنفت الدولة في مراتب غير مرضية بالنسبة إلى درجة التطور والتقدم.
إن المغرب اليوم بدأ يعرف تفاقما مأساويا لهذه الظاهرة، بالرغم من بروز مجموعة من المبادرات المؤسساتية التابعة للدولة من جهة، ومبادرات المجتمع المدني. والأمر الملاحظ أن أطفال الشوارع في المدن الكبرى أصبحوا يشكلون كثافة بشرية تنزع إلى نشر الاشمئزاز من الحياة؛ ونشر الجريمة الناتجة عن السلوكات الغريبة المترتبة من كثرة الفراغ والتسكع المجاني غير المجدي؛ وكل أشكال الإحباط والبؤس التي تكون سببا في التعاطي للمخدرات وما شابه ذلك من الممارسات العقيمة الناتجة عما أسميه ب”استهلاك الأعشاب الضارة” للطفل ؛ بل اللعب بالحياة كالمغامرة الفاشلة المرتبطة بالتفكير في الهجرة غير الشرعية؛ التي تتنافى مع كل المواثيق الدولية والوطنية، والتشاجر بين الأطفال المؤدي إلى الموت احيانا، والميل إلى السرقة والعنف.
تأسيسا على ذلك، يسهم جنوح الأطفال في تدهور المرافق العمومية نتيجة الأفعال غير المسؤولة؛ وفي نشر ثقافة العنف واللاأمن بين الساكنة في الأزقة والأحياء والشوارع. شخصيا أعد الظاهرة نقطة سوداء في المدن المغربية؛ تحتاج إلى انتباه واهتمام واستدراك قبل فوات الأوان؛ ولن يتأتى ذلك؛ إلا بالبحث عن الحلول التي تعمل على التخفيف من هذه الآفة الخطيرة، التي أصبحت تجتاح أدمغة أطفال المغرب ونفسياتهم، ولا أقول القضاء عليها؛ لأنها ظاهرة إنسانية ينتجها الإنسان انطلاقا من حياته وحياة محيطه. ومن الحلول الناجعة التي نراها مناسبة وواقعية؛ لابد من استحضار ثقافة التعبئة الشاملة لهذه الظاهرة، وذلك بوضع استراتيجيات عملية تخاطب الجميع للتحسيس بأهمية استقرار الطفولة وأدوارها الطلائعية في بناء الإنسان المرجو؛ وكذلك العمل على محاربة الفقر والهشاشة داخل المدن وخارجها؛ والبحث عن التدابير الاجتماعية والاقتصادية التي تعطي الأسبقية لأوضاع الطفولة المحتاجة إلى التضامن والتآزر والإنقاذ؛ وكذلك من أجل مجتمع خال من تشرد الأطفال، لا بد من حسن الإنصات لأصوات الأطفال المحرومين من العيش الكريم، و من التنشئة الاجتماعية المريحة، بالإضافة إلى نشر الوعي في صفوف الأسر بالدور الثقافي والتربوي في حياة الطفل على مستوى المدينة والقرية معا، لأن الهذر المؤسساتي خاصة المدرسي يكون سببا مباشرا في تفاقم الجنوح.
ومن أجل وضع خريطة طريق تنطلق من المعطيات والإحصائيات تسهم في وضع الاستراتيجيات المناسبة، لابد من مرصد يقوم بتقديم أوضاع الظاهرة وتقويمها، ونعتقد أن كل المؤسسات والهيئات والمنظمات في حاجة ماسة إلى هذا المرصد. ولكي يستطيع الطفل من معرفة آفاقه المستقبلية ويطمئن على نفسه، لا بد من التخفيف من ظاهرة الأبوة العاطلة، حيث تكون هذه القضية من القضايا النفسية المحرجة للطفل، عن وعي أو غير وعي، وهو يرى مسؤول البيت منشغلا بالبحث عن عمل يستقر به المجتمع الصغير ، حيث لا تتوافر عنده أدوات الطمأنينة والسكينة، وبالتالي يكون العَوَز العائلي والحرمان النفسي من الفرح حافزين للهروب واختيار التسكع والتشرد في الشوارع.