نصف قرن مرَّ على بدء المنازعة الجزائرية للمغرب حول أقاليمه الصحراوية الجنوبية. عُمرٌ كاملٌ من التحوُّلات التي مَسَّت الأفراد والشعوب والدُوَل والمناخ والمفاهيم والصِّراعات الدولية وأسبقيات اهتمامات الإنسانية وطبعا الأذواق. وحدهم حُكام الجزائر حافظوا، رغمًا عن هُبوب نصف قرن عليهم، على نفس سياستهم العدائية ضد المغرب، بطعمها المرّ.. هم وحدهم من يتذوقُه.
في هذا الأكتوبَر، برمجة مُكثّفة لاجتماعات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مخصصة للتداول والمصادقة على تقرير الأمين العام حول مُجريات سنة من أداء مهام “المينورسو”، في مُلاحظة وقْف إطلاق النار في الصحراء المغربية، وسنة من نتائج تحرُّكات المبعوث الأممي دي ميستورا، سعيًا وراء عقد مُفاوضات مُباشرة لأطراف النزاع الأربعة، تنفيذًا لقرارات مجلس الأمن المتعاقبة خلال السنوات العشر الماضية… الأمم المتحدة والقوى الدولية الفاعلة، أو تلك المعنية أو المهتمة بالنّزاع، أنتجت له مفاهيمَ تؤطره بما يرقى إلى ثقافة مَرجعية، تنامت وتطوّرت أركانها على مدى سنوات، منذ أن أعلن المبعوث الأممي جيمس بيكر استحالة إجراء الاستفتاء في الصحراء المغربية، مُعلنا فشل جُهود تحديد هوية المؤهلين للمشاركة في الاستفتاء، من أبناء الصحراء المغربية. كان ذلك ما بين سنتيْ 2000 و2004، عبْر مُخَططيْه الاثنين، وصولا إلى “يأسِه” من إجراء الاستفتاء بسبب تعذُّر تحديد هوية الجسم الانتخابي جراء عراقيل بوليساريو إلى سنة 2004. وهو تاريخ قرار مجلس الأمن الذي أعلن عن “التخلي عن مسار الاستفتاء، لفائدة مُقاربة سياسية لحلِّ النزاع”.
من يومها، أي منذ عشرين سنة، والمنتظمُ الدولي يطوِّر مسار الحل السياسي، وهو المسار الذي اكتسب ديناميكية قوية بفعل مُقترح الحكم الذاتي الذي أطلقه العاهل المغربي الملك محمد السادس. سقط الاستفتاء اصطلاحا ومفهومًا وإجراءً من ثقافة المنتظم الدولي في التعاطي مع نزاع الصحراء المغربية، إلا في الجزائر، ولدى حُكّامها بخاصة، لأنّ نوافذ التهوية في عقلهم الإستراتيجي موصدة، ولأنهم مداهمون بالإنجازات الدولية الوازنة لجهة المقاربة المغربية لتحقيق حلٍّ سياسي واقعي، دائم، متوافق عليه وأساسا مؤسس على مقترح الحكم الذاتي المغربي ضمن السيادة المغربية. هم فقط يُكابرون، يُعاندون ويأملون إدامة النزاع، لأن وجودهم في موقع الانتفاع من حكمهم موصول بدوام هذا النزاع.
مندوبُ الجزائر في الأمم المتحدة بدا نشازًا وهو يسأل لماذا يرفُض المغرب الاستفتاء. المغرب لم يرفض الاستفتاء، والسؤال ينوء بغبار التقادم. أما ما هو أصلي ولا يتقادم في السياسة الجزائرية، فهو العداء للمغرب. وتتوسل له بما استطاعت. ويُزعجها أن المغرب غير مهتم بإزعاجاتها.
إحدى أهم ميزات الإعلام الجزائري أنه صادق في التعبير عن انشغالات نظام بلده. إنه مرجع موثوق لما يخالج حُكام الجزائر من “هموم”. هي ليست قضايا؛ هي هموم، وأول وأهم همّهم هو المغرب. الصحافة الجزائرية التي “أكابد” في متابعتها لا يمكن أن تصدُر يوما من دون عنوان أو عناوين حول المغرب، كأنها تتبرًّك به، وبه تتفاءل في رفْع رضا الحكام عليها، أمَلاً في نموِّ نِسب التوزيع والمقروئية لديْها. وأعجب ما فيها أن لها رئيس تحرير واحدا، بحيث تتشابه مقالاتها حول المغرب أو حتى تتطابق، بنفس الموضوع ونفس الكلمات ونفس النبرات.
في الأسابيع الأخيرة يبدو أن من يُوجهها أمرها بالاجتهاد أكثر في حملة واسعة ضد المغرب. وتحديدًا ضد ملك المغرب، حتى أن بعض مقالاتها يتعاوَن على كتابتها ثلاثة من “كَتَبْجِيَّة” النِّظام، ليقنعوا أنفسهم بأن “النظام الملكي آيلٌ إلى الزَّوال”، وأن كل الشّعب ثائرٌ ضدَّه. يتوهمون ويحاولون تصديقَ أوْهَامِهم، والمغربُ من أوهامهم براء.
هكذا إذن تنْشغل صحافة الجزائر بملك المغرب، يغيظها، فتهجم حتى على ما لم يفْعَله وما لم يقُله. تحاول الاندساس وراء “انصرافه عن مسؤولياته بلا ضجيج إعلامي إعلامي، وكأنه ضاغط على صدرها، ليخنق أوهامها، ويُسفِّه تهويلاتها.
لتلك الأوهام أصل يعود إلى ستينات القرن الماضي، مع الرئيس هواري بومدين. أوهام تحجيم المغرب بفَرْقَعات كلام “ثوْرَوِي”، كانت تتساقط في حينه، ويأكل الغيظ أصحابها، وأوَّلهم بومدين وقد خابت كل محاولاته بما فيها محاولة إسقاط النظام الملَكي، وطبْعا آل تحامله الانفصالي إلى ما هو عليه اليوم من انْدحار، على يد من واصلوا حمْل إرْثه.
جنرالات الجزائر اليوم تحرَّك فيهم ذلك الوهم، ضد ملك المغرب، من نفس الهزال، أو حتى الرَّمَد، في “نظرهم” الإستراتيجي. تأجّج فيهم حقدُهم بتَنَامي خيْبات مَواجهاتهم الخاسرة للمغرب، يلقون بكل ما يجدونه قريبا منهم فيما يتصورونه يُضر بالمغرب. آخر ذلك فرض التأشيرة على الجواز المغربي لدخول الجزائر، وطبْعا هذه الحملة الإعلامية ضدّ المغرب وملكه. ومن خلال ذلك الحقد يهندسون علاقاتهم الخارجية.
أشعرتهم أكثر من دولة، وخاصّة تلك الثقيلة الميزان في علاقاتهم الخارجية، بأن أفضليتها هي للمغرب.. في نزاع الصحراء المغربية، كما في مجمل علاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. المرارة من الصدِّ الفرنسي للجزائر لفائدة المغرب بلغت حد الشعور بالإهانة. وسيقول الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لصحافة بلاده إنه لن يزور فرنسا. والزيارة كان ولا يزال الرئيس الجزائري يتمناها ويستعجِلُها، ولو أنه صرّح من لاشعوره بأنه “لن يذهب إلى “كانوسا”. والتعبير مُستعار من الزعيم الألماني بِسمارك الذي ردد فيه ما سُجل في التاريخ سنة 1075 على الإمبراطور الألماني هنري الرابع الذي أراد البابا غريغوري السابع إهانتَه وإذلالَه في جزيرة “كانوسا” الإيطالية، قبل العفو عليه. تبون اعتبرَ زيارته لفرنسا إذلالا وطلبًا للعفو، ولا يُعرَف ما إذا كان ذلك رفضا للزيارة أو استجداء لها.
الشعور بالإهانة هو ما يرشح من التشنج السياسي الذي يقابل به حكام الجزائر الدول التي أعلنت انحيازها إلى حقائق التاريخ وصواب السياسة في النزاع حول الصحراء المغربية، مثل ما يحدث مع إسبانيا ومع دول أفريقية وعربية فضلا طبعا عن فرنسا، إلا الولايات المتحدة، قيادة الجزائر تتغاضى عنها، وتتحاشاها؛ لأن تلك القيادة تستشعر توالي الانصراف الدولي عنها. روسيا خفّضت منسوب اعتبارها في إستراتيجيتها العربية والمتوسطية والأفريقية، والصين تُلوِّح لها بأفضلية المغرب لديها. لذلك استبق الرئيس تبون الفشل بإعلانه عدم الترشح لعضوية الـ“بريكس”. القيادة الجزائرية تتجنب عدم استفزاز الإدارة الأميركية، حتى مع الانحياز الحماسي الأميركي إلى إسرائيل ضدّ الشعبين الفلسطيني واللبناني.
قيادة الجزائر مُنشغلة بوجودها، آخر اهتمامها هو العدوان الإسرائيلي، هي تُربِّت على الشعب الفلسطيني بالشعارات، في حين تُؤجج أسباب الفرقة والصراعات البين عربية، وأساسا منها صراعها ضد المغرب، ودول عربية أخرى. وكمْ أسْعدَها حُكم محكمة العدل الأوروبية ضد الاتفاقية الأوروبية مع المغرب. في وضعٍ طبيعي مع دولة سَويِّة النظر الإستراتيجي، كانت قيادة الجزائر ستكون مع جارها المغربي، لتستفيد معه من تلك الاتفاقية. نحن في وضع غير طبيعي؛ لا الظرف العُدواني الإسرائيلي ولا المصلحة الفعلية الجزائرية كانا يسمحان للإعلام الجزائري، ومن ورائه قيادته، بحملة التشفِّي ضد المغرب.
تحتاج قيادة الجزائر إلى من يشرح لها بأن قرار تلك المحكمة الأوروبية لا يعني المغرب؛ يعني أوروبا، وأوروبا بدولها المعنية به انتفضت ضده، كأنه كلام على الطرَّة بلا وَقع وبلا أساس قانوني ولا سَدَادٍ سياسي.
المغرب لا يَسْتثمر في شقوق النظام الجزائري وما يرشَح منها من صراعات داخلية بين الجنرالات. هذا الذي أُقيل، وذاك الذي اعتُقل وسيُحاكم بتهم تخابر مع جهات وُصفت بالمُعادية، وهو المدير السابق للأمن الوطني، مع كلّ ما يُؤشِّر عليه ذلك من اهتزاز في الصحة الأمنية للنظام الجزائري، والأوْلى أن يَشغَل صحافة الجزائر ويقلق حُكامها. المغرب منشغل بأوْضاعه، يطورها ويغالب تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية ويُرسخ الروافع الديمقراطية لدولته، عبر الالتزام بالحق في الحريات العامة لكافة مواطنيه، وأقرب مثال على ذلك ما عكسته سلاسة التظاهر ضد العدوانية الإسرائيلية في الرباط، وبمشاركة مئات الآلاف من المغاربة، وتابعها الملايين من خلال تغطية الإعلام السمعي البصري العمومي.
دع النظام الجزائري يُشاغب ضد المغرب كما يحلو له أو كما يستطيع. المغاربة يحمون وطنَهم، وبِقوَّتهم هو صلبٌ. الفاعلية الوطنية فيه تُغَذِّي صِحِّية الديمقراطية وتجْتهد في صَوْن مَناعَته الاقتصادية والاجتماعية. بشعبٍ مُتَفائِل بأنْ يَهدي الله يومًا قيادة الجزائر للتجاوب مع نداءات الأخُوَّة والحكمة لملك المغرب محمد السادس.
طالع السعود الأطلسي
كاتب مغربي