عقلية المؤامرة واحتقانها في الجزائر

admin
كتاب واراء
admin7 سبتمبر 2023آخر تحديث : منذ سنة واحدة
عقلية المؤامرة واحتقانها في الجزائر

ليس بطولة، ولا وطنية، ولا شرفا أن تطلق النار على “متسلل” أعزل، طالما أمكنك أن تلقي القبض عليه. فكيف إذا كان عاريا؟

ولكن عندما تكون ضحية لاحتقان يقول لك إن هناك مؤامرة، قد تجدها في البحر أو تحت ظل شجرة، فلن يسعك إلا أن تطلق النار فورا.

عندما أطلق “خفر السواحل الجزائري” النار على أربعة مصطافين في عرض البحر، كانوا على متن دراجة مائية ضلوا سبيلهم فدخلوا المياه الإقليمية الجزائرية، إنما فعل ذلك، ليس لأنه لا يملك وسائل أخرى لاعتقال “المتسللين”، وليس لأنه لم يلاحظ أنهم سباحون أشباه عراة، بل لأنه مشحون بالاحتقان، ضد شبح من أشباح المؤامرة. والأشباح عندما تتلبس شكلا مغربيا، فإن ردود الفعل لا تأبه بالأصول والقواعد المهنية المتعارف عليها في التعامل مع “التسلل” و”المتسللين”، ولو كانوا سبّاحين في عرض البحر.

أحد الضحايا قتل بخمس رصاصات دفعة واحدة. الضحية الآخر بقيت جثته عائمة حتى عُثر عليها على الجانب المغربي من الشاطئ، وجرح واعتقل الاثنان الباقيان.

خمس رصاصات، تعني أن النار أطلقت من رشاش. إنه رشاش “وطني” واجه “المؤامرة”، حتى ولو كان قد مارس خزيا مع الحق بالحياة. والخزي هو الذي يطلق النار على “عدو” مغربي أو على ظل شجرة.

لم يبلغ المنحدر ببلد في الدنيا، ما بلغ بالجزائر. يقتلها الخوف. وتفتّ عضدها المؤامرة، دونما سبب منطقي. وتذهب أدراج الرياح دائما كل الدعوات من أجل إصلاح ذات البين بين البلدين.

لم تكن الجزائر هكذا. وليس من طبيعة الجزائريين أن يطلقوا النار على من ساقهم سوء الحظ فضلّوا طريقا أو أخطأوا سبيلا. ولكن الذين ظلوا يغذون دوافع الخوف، في نفوس رعاياهم، أرخصوا لأنفسهم أن يظهروا كقوم جاؤوا من وراء الأدغال، فلم يعرفوا أن هناك قواعد مهنية، وأن القتل سلاح لا يُستخدم مع مَنْ يمكن أن تلقي القبض عليه، فتحاكمه على خطيئته.

لم تكن الجزائر هكذا، ولكنها صارت، ليس مع المغرب، بل مع نفسها قبل ذلك. نظامها لم يحافظ على نفسه، إلا بسبب قدرته على القتل، حتى أباد عشرات بل مئات الآلاف من مواطنيه أنفسهم في ما أصبح يطلق عليه “العشرية السوداء”. عشر سنوات من المذابح.

كان هذا النظام يعرف ماذا يفعل. خالد نزار الذي حصل مؤخرا من الرئيس عبدالمجيد تبون على وسام “شرف” لا شرف فيه، يُحاكم الآن في سويسرا على جرائمه عندما كان وزيرا للدفاع في تلك الفترة. هرب من الجزائر عندما اتضح أن تغييرا ما سيأتي. وعاد عندما تيقّن أن أقرانه من القتلة قادرون على حمايته، وأن لا تغيير سيأتي.

لم تكن الجزائر هكذا. لم تكن غابة وحوش، ولكنْ صنعها الجلادون على مقاسهم ليحكموا وينهبوا. وغليلهم لا يشفى، لأن الخوف واحتقانه أعميا القلوب والأبصار، حتى صار إطلاق نار من سلاح رشاش على سبّاح في عرض البحر أمرا عاديا.

وكم أخطأ الجزائريون عندما ظنوا أنهم يستحقون حياة حرة كريمة. لقد نُهبت حياتهم، ونُهبت كرامتهم، كما نُهبت حريتهم عندما صارت ادعاءً يدّعيه الذي يسحقها بحذائه هو بنفسه.

كم أخطأوا عندما تظاهروا أياما وأسابيع وأشهرا ضد الفساد والطغيان والفشل الإداري، فغُلبوا وذهبت ريحهم.

وكم أخطأوا عندما سمحوا للطغمة العسكرية أن تحوّل بلادهم إلى مستنقع لتآمر قادتها على السلطة وعلى بعضهم البعض.

“الجزائريون أحرار”. قال الرئيس تبون ذات يوم. ولكن الجزائريين صاروا يعرفون أنه وأركان نظامه العسكري، سرقا من أيديهم شعلة الحق بالحياة كسائر البشر، لا الحرية وحدها، في دولة ما عاد بوسعها أن تكون دولة قانون وعدل ومساواة.

الدولة، تملك سلطة العنف. ولكنها تعقلنه. تؤطره بمنظومة من القيم والمعايير، لكي لا يفلت من عقاله، فينقلب وبالا عليها هي نفسها. وتحرص أن تجعل من تلك القيم والمعايير مرئية وظاهرة لكي يمتثل لها المواطنون، فتصبح هي القاعدة، فيتراجع العنف “المشروع” إلى الخلف، فلا يظهر وكأنه هو القاعدة.

خمس رصاصات، قالت ما قالت عن سلطة العنف. فضحت أخلاقها ومعاييرها، بمقدار ما فضحت شحنة الاحتقان التي يُغذّى بها خفر السواحل وخفر البر في المعسكرات التي تلقي بكلكلها على شعب لكي تظلم روح الحرية فيه، وتتبدد الكرامة، ويضيع الحق بالحياة.

خمس رصاصات في جسد شبه عار. إنها أبعد من جريمة. أبعد من ظلام دامس يغمر النفس، حتى أصبحت أبعد من الحاجة إلى سؤال ذلك “الخفر” الذي أطلقها: لماذا خمس رصاصات؟ ألم تكن طلقة واحدة تكفي؟

هذا مبلغ لم يبلغه أحد. وصلت الجزائر به الى القاع. أغرقت نفسها بما لا يمكن للعقل أن يستوعبه، أو أن تساق له مبررات.

تلك الرصاصات لم تكن رصاصات ذلك “الخفر”. إنها رصاصات نظامه المشحون، المتوتر، الغاضب من شيءٍ لو سألته ما هو؟ ما عرف الجواب حقا، ولتلعثم اللسان بالمبالغات والأوهام عن “المخاطر” و”التهديدات” و”المؤامرة” التي يحيكها المغرب. أوهام تلاحق أوهاما لكي تعرف أن المسألة في واقعها مسألة هوس مرضي، في بلد تتحكم به طغمة تطلق النار من قبل أن تعرف، هي نفسها، السبب.

ولم تكن الجزائر هكذا. ولكنها منذ أن أسقطت رئيسها المجاهد أحمد بن بيلا بانقلاب عسكري، وهي تدور على نفسها مثل الثور الأعمى حول ترعة الخوف من انقلاب ومؤامرة.

صارت المؤامرة هي الحاكم والمحكوم بالهواجس.

طاهر الزبيري، رئيس الأركان في ذلك الوقت، انقلب على بن بيلا في 19 يونيو 1965 ومنح السلطة لهواري بومدين. ثم لم ينتظر طويلا، حتى سعى الى إسقاط بومدين في مؤامرة أخرى في العام 1967. فسقطت تلك المؤامرة على رأسه.

الزبيري ظل يستنسخ نفسه ويستنسخ المؤامرة. جاء أحمد بن شريف من بعده. وجاء محمد بوخروبه من بعده. ومحمد العماري الذي قاد الانقلاب على الرئيس الشاذلي بن جديد، وعيّن نفسه وزيرا للدفاع. وبعد عشرة أشهر في السلطة اغتيل محمد بوضياف في 29 يونيو 1992 في مدينة عنابة. فتولى علي كافي السلطة في 2 يوليو 1992، فشغلها لمدة 16 شهرًا، حتى 30 يناير 1994، عندما أطاح به انقلاب عسكري بقيادة ليامين زروال، الذي عيّن أحمد قايد صالح رئيسا للأركان حتى العام 2004 عندما عينه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة (أحد المشاركين في الانقلاب على بن بيلا) ليكون نائبا لوزير الدفاع حتى وفاته في العام 2019. ربما لكي لا ينقلب عليه.

زبيري يرث زبيري. هذا هو ثلاثة أرباع التاريخ الجزائري المعاصر. مما أنشأ حالة من الهوس المؤامراتي هي التي ظلت تحكم الجزائر. وتتحكم بها. وتطلق النار من ظلام نفسٍ أطبق عليها الخوف. فلما أرادت تجسيده في شبح قابل للتجسيد، اتخذت من “مؤامرات” المغرب ذريعة له. كانت محاولة لتلبيس المرض شكلا يمكن حشد الاحتقان ضده. كانت عملا من أعمال تدوير الكراسي. حتى قدّمت الرصاصات الخمس الدليل على أنه احتقان يتسع لكي يطلق النار فورا، على سابح في البحر أو على ظل شجرة.

علي الصراف

كاتب عراقي

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.