الأستاذ حسوني قدور بن موسى
المحامي بهيأة وجدة
امتدت الحركة اليسارية الى الوطن العربي من الفلسفة الشيوعية التي شهدت عدة دورات للفعل الاجتماعي ذي الطابع الثوري أوالانقلابي وفي كل دورة تاريخية لهذا الفعل الاجتماعي كانت القوى الاجتماعية الفاعلة فيه تستظل برؤية ثورية صاغتها طموحات الملايين من المظلومين و المضطهدين والفقراء و الفلاجين و العمال و الطلبة في شتى أنحاء العالم نتيجة تأثيرالأفكارالطلائعية للمفكرين و الفلاسفة و المثقفين أمثال” فولتير” و هو رمز عالمي من رموز الحرية و التنوير و من أعظم المفكرين الذين دافعوا عن حقوق الانسان و كرامته و” جان جاك روسو” الفيلسوف السويسري الذي أثرت أفكاره الثورية في الثورة الفرنسية و في تطويرالاشتراكية والحقيقة أن هذا الانجاز الفكري و السياسي للثورات البورجوازية لم يلبث أن اصطدم بعد أقل من قرن من الزمان بوقائع وأوضاع جديدة فرضت من جديد رؤية جديدة تمثلت في ” المنيفاست الشيوعي” عام 1848 و ما عقبه من ثورات عمالية متكررة في مختلف الدول الأوروبية الصناعية و نجحت في استيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا القيصرية واقامة أول ديكتاتورية بروليتاريا في التاريخ الحديث تحت راية الماركسية اللينينية واستمرت في الزحف على الصين و بقية دول شرق أوروبا و أسيا مهددة كامل النظام الرأسمالي العالمي الا أن تناقضات النموذح الجديد من ناحية و حجم الصراع الضاري الذي دار بينه و بين الحلف الأمبريالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أودى به الى الانهيار والتفسخ، والحقيقة أن مشكلات هذا النموذح كانت محل جدل فكري واسع بين مختلف تيارات الحركة الشيوعية العالمية، فبينما أيدته دون تحفظ الأحزاب الشيوعية المنضمة الى (الكومنترن) و تعني الأممية الشيوعية و منها الأحزاب الشيوعية في الدول العربية فان هناك تنظيمات شيوعية أخرى كان لها بعض الملاحظات النقدية تجاه النموذج السوفياتي و فاعليته الانسانية وعلى عكس الحركة التروتسكية العالمية ( الأممية الرابعة) التي صاغت منذ كتابات “تروتسكي” النقدية و حتى “أرنست مندل ” رؤية نقدية متكاملة ازاء هذه التجربة التي وصفها أحيانا بالعمالية أوالبيروقراطية الاستبدادية الستالينية و توقعت انهيارها تحت معاول ثورة اشتراكية جديدة و لم يكن من المتوقع الانهيارالمروع بمثل هذه الصورة و لصالح اقامة نظام أكثر تخلفا انسانيا و حضاريا و هي ” الكمبرادورية” و تعني في المصطلح السياسي الطبقة البرجوازية المتحالفة مع رأس المال الأجنبي قصد الاستيلاء على السوق الوطنية و كذلك المافيا و قيادات المؤسسة العسكرية و ناهبو الشركات والمفسدون والسماسرة …
ان النتائج المترتبة عن هذا الوضع انعكست على الأحزاب الاشتراكية في الدول العربية و من بينها الأحزاب اليسارية في المغرب، وهناك عوامل عديدة كانت وراء فشل هذه الأحزاب نذكر منها بروز نظرية انتهازية دخيلة على الفكرالاشتراكي لتغليط المواطنين وهي نظرية “التغيير من الداخل ” و تعني قبول المشاركة في اللعبة السياسية مع أحزاب رأسمالية ليبرالية واسلامية معادية للفكرالاشتراكي قصد توزيع كعكة الانتخابات و بالتالي التخلي عن المبادئ الثورية الاشتراكية وهدم ما تم بناؤه منذ ما يقرب من 70 عاما واعادة بناء هياكل الأحزاب الاشتراكية من جديد و مراجعة فلسفتها و نظرياتها و مناهجها السياسية و بهذا أسقطت هذه الأحزاب من قاموسها السياسي فكرة الصراع مع النظام الرأسمالي الليبرالي المتوحش، فوصلنا الى مهزلة طلب الاتحاد الاشتراكي المشاركة في حكومة يقودها حزب ليبرالي رأسمالي، وهكذا تحولت الأحزاب الاشتراكية الى بقرة حلوب يستطيع ” الزعماء ” بواسطتها جمع الثروات و الاستحواذ على الأراضي الفلاحية و شراء العقارات وانهت هذه الأحزاب المهمة التي وجدت من أجلها و هي الدفاع عن حقوق و كرامة المواطنين و توزيع ثروات البلاد بطريقة عادلة ، و بهذا الانهيارالمتسارع والمتوالي للأحزاب الاشتراكية بدا و كأن التاريخ قد توقف عند الرأسمالية المتوحشة و كأنها راية المفسدين الأن و مستقبلا و الى الأبد و تبخرت طموحات و أمال الشعب المغربي و برزت ظاهرة هيمنة و سيطرة و تربع قوة سياسية وحيدة على شؤون المغاربة و مقدراتهم و هي ظاهرة رجال المال أو ما يسمى” الشكارة ” و تعني شراء الأصوات عن طريق المال الحرام في الانتخابات المهنية و الجماعية و البرلمانية حيث لا أحد يستطيع التصدي لهذه الظاهرة الكريهة المتعفنة والمخيفة التي قد تعصف بجميع أمال و طموحات المغاربة و تؤدي بهم الى الهلاك والانهيارالكامل خاصة أن بلادنا تتعرض حاليا لهجمات شرسة خارجية معادية لوحدتنا الترابية لا يمكن التصدي لها الا عن طريق وجود مؤسسات منتخبة بطريقة ديمقراطية وأحزاب سياسية جماهيرية قوية و نظام قضائي مستقل نزيه وعادل و شعب كريم عزيز النفس لا يمد يده للصدقات حتى يكون قادرا على مواجهة العدوان الخارجي ، و تثبت لنا التجارب أن الدولة الضعيفة التي لا تتوفر على مؤسسات شرعية و ليس لها أحزاب سياسية جماهيرية ديمقراطية قوية لا تقدرعلى مواجهة المخاطر والتحديات الخارجية لأن مؤسساتها هشة قد تنهار بسرعة مثل حائط الرمال عند وقوع الصدمات الخارجية، كل هذه التراكمات والعوامل خلقت نوعا من خيبة الأمل و الاحباط في نفوس المواطنين خاصة الشباب الذين ينشدون التغيير، أما المفسدون الذين يتقاتلون بالسلاج على مجرد كرسي في البرلمان أو منصب حكومي و حب الشهرة الزائفة فلا يمكن لهؤلاء أن يعتمد عليهم المغرب في أوقات الشدة و الأزمات، فالتجارب شاهدة على أنه في الدول العربية التي اندلعت فيها الحروب و الأزمات مثل سوريا و لبنان و العراق و اليمن فان المفسدين فروا هاربين من البلاد الى دول أوروبية حيث يتمتعون هناك بالأموال الطائلة المودعة في البنوك التي سرقوها من شعوبهم و تركوا الفقراء و المساكين و الضعفاء يواجهون لوحدهم مخاطر الحرب و الدمار والمجاعة و المرض، ان التجارب السياسية تؤكد أن أي تغيير سياسي بصوره المختلفة الثورية أو الديمقراطية ينبغي أن تتوافر فيه ثلاثة عوامل أساسية متكاملة وهي : وجود مناخ سياسي اجتماعي يدفع الى التغيير و وجود قوى سياسية وطنية راغبة في التغيير و قادرة عليه و كذلك وجود برنامج وطني يحوز القبول العام و يشكل أساسا لتكتل اجتماعي و سياسي واسع النظاق و ابعاد المفسدين من الساحة السياسية، لكن الفجوة أصبحت اليوم كبيرة بين الأحزاب السياسية على اختلاف اتجاهاتها و بين المواطنين فنفضت الجماهيرالشعبية يدها من هذه الأحزاب الانتهازية التي تفتح أبواب في فترة الانتخابات و بعد حصولها على الغنيمة الانتخابية تدير وجهها للشباب الذي يحتاج الى تأطير سياسي و ثقافي واجتماعي و لهذا كانت نسبة المشاركة في انتخابات 8 شتنبر جد ضعيفة لا تعبر عن رأي أغلبية المواطنين …