يبدو كتاب “الحياة النفسية للسلطة” لجوديث بتلر، عاديا، من حيث موضوعه المطروق، إلا أن قراءته تجعلنا نقف على محاولة مختلف لفهم ظاهرة إخضاع الذات للسلطة، وانقلاب الإرادة على ذاتها، وعلاقتها بالتنظيم الاجتماعي، مرتكزة في تحليلها على من سبقها من الفلاسفة والمفكرين، من أمثال هيغل، ونيتشه، وفوكو، والتوسير، وسيغموند فرويد .. وهي تقف كثيرا عند المقاربة النفسية ومفهوم الحرية، والأبعاد النفسية لسلطة، ودور الميلانخوليا في استحداث الذوات، حسب التحلي النفسي لفرويد.
مهما تخلص العبد من سلطة السيد، سوف تبقى تلك القوانين التي فرضها عليه السيد قائمة في نفسه وتطبع شخصيته. ربما ينقم على نفسه كلما شعر بأنه تحرر، لأن “وعيه الشقي” هو الذي يحكمه، حسب هيغل الذي السيد يعمل من خلال جسد غيره، وبذلك يقوم بطمس هوية العبد الذي ينجز كل الأشغال …
الكاتب
جوديث بتلر Judith Butler. ولدت العام 1956م، في 4 فبراير، بكليفلاند، أوهايو، من أسرة مجرية وروسيةيهودية أرثوذكسية، لتختار فيما بعد العقيدة اليهودية المحافظة، ثم اليهودية الإصلاحية التحقت منذ طفولتها بالمدرسة العبرية وتشبعت بالأخلاق اليهودية.
حصلت على جائزة تيودور أدورنو في غشت 2012، لكن سرعان ما لقي منحها لهذه الجائزة معارضة شرسة من طرف الأكاديميين الألمان، ومجلس اليهود الألمان، هذا الأخير نعت Judith Butler بالفاسدة أخلاقيا، بسبب مواقفها المعادية لإسرائيل.
تعتبر أعمال بتلر ذات قيمة فلسفية كبيرة. وصفت إسرائيل بشتى نعوت العنف. ودعت لمقاطعة إسرائيل من داخل أكاديمية بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان له دور كبير في فضح ممارسات الصهاينة خلال أسبوع “أبارتايد إسرائيل” بمدينة فرانكفورت سنة 2011م. ودافعت في المقابل عن حق الفلسطينيين واللبنانيين لحماية أرضهم والفاع عنها. وهي ترى أنه لابد من الفصل بين ما تسميه “الدولة العبرية” من جهة واليهودية كثقافة وديانة من جهة أخرى. هذا الطرح فيه إيمان بوجود كيان إسرائلي. في سياق هذا الكلام، لابد من التوضيح أن كل يهودي، خاصة الفئة المثقة، تنبذ العنف ضد الفلسطينيين، لكن في نفس الوقت تقر بوجود دولة إسرائيل. هذا الطرح في نظرنا ينم عن تفكير صهيوني ليس إلا، فيه مراوغة ودس، وتمويه. لأن اليهودية ديانة سماوية، ليست هوية أو شخصية، وبالتالي لا مجال لحديث عن كيان أو دولة عبرية. إنها بدعة المنظمة الصهيونية العالمية التي ابتدعها تيودور هرتزل، وأرست دعائمها بريطانيا عبر وعد بلفور، ثم دعمتها عصبة الأمم، وما تلى ذلك من اشتغال للوكالة اليهودية بأرض فلسطين …
هكذا تم ترسيخ فكر مغلوط عبر عقود، يقوم على المزج بين اليهودية والصهيونية، فينبري بعض اليهود، الحاملين للفكر الصهيوني المقنع، بمحاولة لعب دور الإخوة والذئب ويوسف. أما الجناخ الأمريكي المحافظ فقد جنح، منذ البداية، للدمج بينهما. بهذا صنعت أمريكا خيارا لكبان مزعوم دورا في المنظومة الدولية، ومن حق إسرائيل الرد بقسوة على كل من يعارض “حقها” في الوجود. لأنه كل من يعادي إسرائيل فهو حتما عدو لليهود. نفس المسار انتهجته أوروبا. البداية دينية لهدف احتلال أرض فلسطين.
Judith Butler فيلسوفة أمريكية، أستاذة في قسم الأدب المقارن والبلاغة في جامعة كاليفورنيا. دكتوراة الفلسفة من جامعة يل عام 1984م. نشرت أطروحتها بعنوان “موضوعات الرغبة: تأثيرات هگلي على فرنسا القرن العشرين”. تشتغل في مجال الفلسفة النسوية، أو النظرية النسوية التي تدعو للمساواة بين الجنسين من خلال الوقوف عند الأدوار التي يضطلع بها الرجل والمرأة اجتماعيا وسياسيا، وتناولتها باعتماد عدد من المناهج، الاجتماعي والنفسي بالخصوص، والاقتصادي … حيث تقوم النظرية على عدم المساواة بين الجنسين، وبالتالي تحليل هذا الاختلاف، وما تولد عنه من تمييز وقهر للمرأة … كما اهتمت المؤلفة في كتاباتها، بالنظرية السياسية، والتي تهتم بالحرية والعدالة والحقوق، وما تقوم به الحكومات من انتهاكات واحترام للحقوق وتطبيق سليم للقانون … فضافة لمشكل الهوية والعرق والعقيدة ..
من مؤلفاتها:
- مشكلة النوع: النسوية وتدير الهوية (1990)
- الأجسام التي تهم: حول الحدود الحوارية لل”جنس” (1993)
- Excitable Speech: A Politics of the Performative (1997)
المترجمة
نور حريري، كاتبة سورية. مستقرة في برلين. مهندسة وكاتبة ومترجمة. ماجستير في الدراسات الأنغلوفونية والفلسفة.
الكتاب
The Psychic Life of Power: Theories in Subjection .. 228 صفجة. الطبعة الأولى 1997م .. الحياة النفسية للسلطة نظريات في الإخضاع. لصاحبته جوديث بتلر. ترجمة نور حريري. الكتاب عبارة عن دراسة فلسفية. يقع في 236 صفحة من الحجم المتوسط. الطبعة الأولى 2021م، عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع. دمشق. يتوزع الكتاب بين ستة فصول:
- ارتباطات متعنة، إخضاع جسدي .. إعادة قراءة الوعي الشقي لهيغل
- دوائر الضمير المثقل بالذنب نيتشه وفرويد
- الإخضاع، المقاومة، وإعادة التدليل .. بين فرويد وفوكو
- الضمير يصيرنا جميعا ذواتا .. الإخضاع الألتوسيري
- الميلانخوليا الجندرية/ التماهي المرفوض .. في حركة مستمرة .. تعليق آدم فيليبس على نص جوديث بتلر .. رد على تعليق آدم فيليبس ..
- بدايات نفسية .. الميلانخوليا، الازدواجية، الغضب ..
الكتاب بين أيدينا، في ترجمته العربية، عبارة عن دراسة في التليل النفسي الاجتماعي عن إخضاع الذات للسلطة، وما تمارسه الذات تجاه نفسها من إخضاع.
يعرض الكتاب لنشأة الحياة النفسية، تحكمها السلطة الاجتماعية، وتذكيها الروح التي تنتجها. الذات تناقض السلطة. يمكن اعتبار الذات هي الوعي، أو عملية الوعي التي تنظم هذا التناقض. تقدم الكاتب النفس كونها طاقة مصنعة. تلك النفس التي تنقلب على نفسها حيث تكون القوة داخلية، وتسعة الكاتبة للتنظير للتناقض القائم بين ما هو نفسي وما هو اجتماعي، مرتكزة على طرح ميشيل فوكو ونظريته في التحليل النفسي.
يصير الإنسان عبدا لمخاوفه كلما انثنى أمام قوة سلطة خارجية تتحكم فيه، تجرده من شخصيته وتقزم حريته، وبالتالي من كينونته، ومن إنسانيته، فيصبح تابعا، خاضعا، عبدا، إذ تنهزم ذاته وتتقبل التسلط بمحض إرادتها.
ترى الكاتبة بتلر في مؤلفها “الحياة النفسية للسلطة …”، أن الذات الخاضعة تقبل هذه السلطة، وتنغمس في عتمتها وبراثنها، باعتبار هذه السلطة شكلا نفسيا وهوية ذاتية لها تعمل على طمس ذات وهوية الفرد والجماعة.
هكذا يتم إخضاع الذات لسلطة خارجية، تضيف بتلر، كما أورد ذلك العديد من الفلاسفة وعلماء النفس، منهم سيغموند فرويد، وهيغل، وألتوسير … حيث يتم الحديث عن تلك العلاقة بين العبد والسيد، أو الشيخ والمريد، كما أورد ذلك الأنثروبولوجي المغربي عبد الله الحمودي في كتابه “الشيخ والمريد”. العبد الذي لا يحقق ذاته إلا عبر رضا السيد عليه، فيظل يشتغل ويشقى لأن السيد لن يرضى عليه وكل مرة يأمره بالمزيد إلى أن يتوفاه الأجل.
هكذا تثير بتلر الاستعداد النفسي للذات للخضوع لهذه السلطة. تضيف أن إخضاع الذات هذا يكون منذ الصغر، تذكيه التنشئة الاجتماعية، والتربية التي تجعل الطفل يخضع لمن يحب، حسب فوكو، هكذا يكبر وكل مرة يخضع لسلطة خارجية، فيكون مؤهلا للخضوع والتبعية. طبعا هذا الرأي ليس قاعدة، لأن التفكير البشري يؤمن باستقلالية الذات، والتمرد، والرفد، والاحتجاج … فالكاتبة تزعم أن السلطة سبقت الذات، وهي تستمد كينونتها في سيطرة الذات عليها، حيث تلعب العاطفة دورا أساسا في عملية الإخضاع هذه، فتسود الذات قبل السلطة، وتوسوس لها، وتمهد لخضوعها، وبالتالي فهي تعمل على قمعها وإعادة تشكيلها.
الذات بهذا المعنى، تصبح متواطئة مع السلطة، تورد بتلر، مستحضرة موقف كل من الفيلسوفين نيتشه وهيغل، وتعطي مثلا بالعبد الذي يسخر جسده لخدمة سيده، بمعنى أن الجسد هنا، يتعرض للقمع والسيطرة، تتحكم فيه السلطة، حيث يرى سيغموند فرويد أن الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير عند الفرد. فالضمير هو غريزة الحرية.
الشعور بالذنب، يضيف سيغموند فرويد، ينتج عند الشعور الاجتماعي بالخضوع للسلطة، حيث أن الأنا الاجتماعية تحوز جانبا مثاليا يحد من تجاوزات حالات الليبيدو الجنسي ضد سيطرة الأنا الاجتماعية التي ترفض مثل هذه السلوكيات.
أما الفيلسوف مشيل فوكو فيستعمل مصطلح “التذويت” للحديث عن الذات الخاضعة، ويضرب مثلا بالسجين الذي تتشكل هويته الذاتية كسجين، أي انطلاقا من وضعية الإخضاع التي هو يعيشها في حالته هذه، والتي يسميها فوكو “الإنتاج الخطابي للهويات”، والذي يحول الجميع إلى سجناء. لهذا ترى الكاتبة أننا كلنا سجناء، باعتبار أننا تخلينا عن الذات وتماهينا مع المجتمع.
تحليل فوكو وبتلر يحيلنا إلى ما ذهب إليه المفكر البريطاني Wilfred Trotter في كتابه “غرائز القطيع في السلم والحرب”، و«PSYCHOLOGIE COLLECTIVE ET ANALYSE DU MOI» لسيجموند فرويد .. و«PSYCHOLOGIE DES FOULES» لغوستاف لوبون .. هؤلاء يرون أن الجمهور قطيع طيع لا يستطيع الحياة بدون سيد، والجماهير تسعى خلف الوهم، ولا تطلب الحقيقة، لكن سرعان ما تنطفئ أحلام الجماهير أمام صدمة الواقع .. يكون القطيع طبيعيا أو صناعيا، مثل جمهور كرة القدم، او الجنود، أو المتظاهرين، وغيرهم. حيث يتخلى أفراد القطيع عن ذواتهم، ولا يتمكنون من استعادتها هذه الذات إلا بعيدا عن أي تأثير، خاصة تجاه القائد الذي يتولى توجيه القطيع، هذا الأخير ملزم بطاعة القائد وإن لم يكن يعرفه بشكل مباشر.
يمكن أن نصنع من الخيال قائدا يطيعه القطيع. فالذات مؤهلة لتقبل السلطة، ولا ترى مانعا في الخضوع لها وتتماهى ي ذلك، فتمارس عددا من الطقوس التي تبرهن على هذا الخضوع.
تضرب بتلر العديد من الأمثلة عن هذا الخضوع، منها المؤمن الذي يركع ويسجد للخالق، فتخلص لسؤال، هل هذه الطقوس كافية للبرهنة على حب الخالق والتقرب منه.
في تعليقنا على هذا الطرح نقول إن مفهوم الإيمان أوسع مما تتصوره أو تعتقد به بتلر، لأنه لا يمكن تفسير الإيمان على هذا النحو، فالصلوات عند المسلم ليست طقوس أو حركات بدنية، بل يتوجب تفسيرها من زاوية الإيمان الذي يرتبط بالروح والقلب، ثم العقل. الصلوات هي موعد يتجدد للقاء الخالق ومناجاتها ودعائه، الإيمان هو اعتقاد راسخ بالخالق ووحدانيته، وتفرده بالربوبية، أي أن الأمر يختلف من مسلم مؤمن حق إلى من يأخذ بظاهر الأشياء في غياب قناعات عقدية.
الطبيعة البشرية ترفض السلطة والتحكم في ذواتها، ومع ذلك فهي تفسح المجال لإمكانية الخضوع. هنا تقوم الازدواجية. فالذات بهذا المعنى مؤهلة للخضوع للسلطة، وفي نفس الآن هي التي تساهم في هذا الإخضاع.
يرى الفيلسوف الألماني، خلال حديثه عن الوعي الشقي، أن سلطة السيد تجاه العبد تبدو خارج ذات العبد، وتتسبب في معاناته، لكنها تصبح جزء مكونا لشخصيته، ولا تستقيم إلا من خلال خضوعه. حتى وإن تخلص من السيد، فإن شعوره بالانتماء للسيد لا يفارقه. فكلما تحرر من السيد يستبدله بسيد آخر بداخله.
يتحدث نيتشه عن الأخلاق كونها “حلة مرضية”، باعتبار أن تشكل الذات يأتي نتيجة الشعور بالذنب، لأن خضوع الذات إنما مرده للجانب العاطفي، لهذا القمع يؤلب الذات ضد نفسها.
تعرض الكاتبة ل”الميلانخوليا” التي هي حالة حزن يتماهى مع عوالم مفقودة، مثل الجنس، والحرية … ويرى فرويد أن “الميلانخوليا” تعمد لتوبيخ الذات، حيث يكون المريض مع ذاته، يوبخها ويوجه لها الاتهامات، ويغضب.
هكذا تؤكد بتلر على أن السلطة شرط لنشأة الفرد، واستمراره في الوجود، ولا يمكنه التخلص منها.
د. محمد حماس
باحث في التاريخ والتراث/ المملكة المغربية