لا ريب في أن النفس أسدى خدمات جمة للبشرية، لفهم طبيعتها، وتقلباتها، وهاجسها، وسلوكلياتها، ومكنوناتها، ما ظهر منها وما بطن .. من خلال اجتهادات عدد من العملاء الذين برعوا في هذا العلم، خاصة سيجموند فرويد الذي وضع أسس التحليل النفسي ليكشف عن المناطق المعتمة في شخصية الإنسان وتفكيره، وقبله غوستاف لوبون، ثم تروتر، ومن جماعته انشق ألفريد أدلر الذي برع في التأسي علم نفس الفرد وتفسير الطبيعة البشرية. وهو مدمار طرقه الباحث جون ديوي في كتابه “الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني” .. وسوف نعرض هنا لأهم كتب ألفريد أدلر الموسوم ب”فهم الطبيعة البشرية” كجزء من مشروعه الكبير لدراسة سلوك الفرد ضمن مقاربة نفسية تحليلة …
- المؤلف ..
Alfred Adler. 1870-1937 في رودولفسهايم، بالقرب من فيينا عاصمة النمسا. ينحدر من أصول يهودية طبيب ومعالج نفساني. مؤسس علم النفس الفردي. من أهم أعماله:
- Le tempérament nerveux. Éléments d’une psychologie individuelle
- Application à la psychothérapie
- Connaissance de l’homme. Étude de caractérologie individuelle, trad. de l’allemand par Jacques Marty, Paris, Payot, 2004.
- L’éducation des enfants, Paris, Payot, 2000.
- L’enfant caractériel à l’école, trad. de l’allemand et préfacé par Herbert Schaffer, Paris, Payot, 2002.
- Le sens de la vie. Étude de psychologie individuelle, trad. de l’allemand par Herbert Schaffer, Paris, Payot, 2002.
- Le tempérament nerveux. Éléments d’une psychologie individuelle et applications à la psychothérapie, Paris, Payot, 1970 (Über den nervösen Charakter, Bergmann, Wiesbaden 1912, et Über den nervösen Charakter, (zweite vermehrte Auflage), Bergmann, Wiesbaden 1919)
- La psychologie de la vie, L’Harmattan, 2006, (ISBN 2-296-01801-7)
- Un idéal pour la vie, L’Harmattan, 2002, (ISBN 2-7475-2114-1)
يعتبر أدلر من مؤسسي علم النفس الحديث إلى جانب سيغموند فرويد وكارل جوستاف جونج. تعارضت أفكاره مع فرويد بلغ حد تبادل الاتهامات والنعوت المشينة. أسس جماعة “علم النفس الفردي” سنة 1912. استغل عمله كطبيب بالمستشفى العسكري، خلال الحرب العالمية الأولى، لدراسة الأمراض النفسية والعصبية، الشيء الذي أثمر غزارة في الإنتاج. انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية هربا من حكم هتلر.
- الكتاب
الطبيعة البشرية، Understanding Human Nature
يعتبر كتاب “فهم الطبيعة البشرية” تنظيرا في فرع علم النفس الفردي، يتناول فيه، وفق طرح مخالف لسيغموند فرويد، مفاهيم، النقص والتفوق، والذكريات، والحب، والزواج، والأحلام، والجنس … وهو منهج يعتد به بين الطلاب والباحثين وعامة الناس.
تقع نسخته الإنجليزية في 302 صفحة من الحجم المتوسط. الصادرة عن Martino Fine Books; Translation édition (4 octobre 2010). صدر أول مرة سنة 1927. وهو محاولة للتعريف بعلم النفس الفردي والعلاقات اليومية التي تنظم الحياة الشخصية. فيوضح كيف أن السلوك الخاطئ للأفراد داخل المجتمع تكون له انعكاسات سلبية تؤدي لعدم الانسجام الاجتماعي، وبالتالي لابد أن يعي الأفراد اخطاءهم لتجاوزها وتصحيحها. لأن من شأن هذه الأخطاء التسبب في أخطار بليغة، مكلفة ومؤسفة. لهذا يرى أدلر أنه لابد من فهم الطبيعة البشرية.
ترجمه للغة العربية عادل نجيب بشرى عن المركز القومي للترجمة، العدد 846/2. الطبعة الثانية، 2009. القاهرة. 285 صفحة. موزع بين جزئين:
- أساسيات نمو وتطور الشخصية
- علم دراسة الشخصية
- الإنسان السليم في خدمة البشرية ..
يرى المؤلف أنه يتوجب إيلاء الأسبقية لتكوين الفرد ليكون إنسانا سليما معافى اجتماعيا، له استعداد لخدمة البشرية ومد يد العون لمن هو في حاجة إليه. هذه الفئة تعاني من الأعطاب النفسية، منها الرغبة في السلطة والهيمنة، وهي تعويض عن القصور الاجتماعي، باعتبار أنه هناك اتجاهين أساسيين يحكمان في الظواهر الاجتماعية ويؤثران على النشاط البشري، هما الشعور الاجتماعي والسعي الفردي للسلطة والسيطرة. إنها الإخفاقات الاجتماعية التي تعزى لتأثيرات البيئية المتعلقة بالتنشئة، في سن الرضاعة والطفولة المبكرة. نحن نختلف في النزعات السلوكية تمامًا كما نختلف في البنية المادية. يمكن ملاحظة ذلك في شخصيات الأطفال المختلفين من نفس الوالدين البيولوجيين بعد فترة وجيزة من الولادة، قبل أن تتاح للثقافة فرصة لإحداث تأثيرها. لا شك إذن في الدور القوي للبئية في تطور شخصية الفرد، الشيء الذي يضعنا أما إلغاء دور الشخصية الموروثة.
كل البشر ملزمون بالتكيف مع بيئتهم الاجتماعية، وبالنسبة لأولئك الذين لا يفعلون ذلك، فإنهم يسعون للحصول على تعويض من خلال القوة والسيطرة. إن القوة الحقيقية هي صحة النفس، هذا ما يؤكده أدلر، حيث يرى أن الفجوة الكبيرة التي يمكن ان تكون بين الناس تكمن في التربية التي تلقاها كل واحد. أما الأمراض النفسية فتعود جلها للخوف.
نتساءل عن نجاعة هذا النهج؟ نهج أدلر العلاجي، لأنه ما داما علاجيا فهو مفروض، وبالتالي فهو يقصي الطبيعة الفردية. لأنه ليس بالضرورة أن أكون اجتماعيا بشكل مفرط مقارنة مع الآخرين، لابد من هامش للاختلاف، خاصة على مستوى ثقافة المجتمع.
هكذا يعيد أدلر المشاكل التي يمكن أن يعاني منها الفرد مرتبطة بمرحلة الطفولة. طبعا هذا أمر مردود عليه، لأنه يمكن أن تكون طفولتنا سليمة، والقادم من العمر يتأثر بالبيئة، والمحيط، والعلاقات، والتعليم، لأن الطفل لم يكن مجرما، أو عالما، أو … إلا بعد أن كبر وتعلم، او عانى الجهل والتشرد، والعطالة. أما الطفولة والتربية، فهي ترسبات يحملها معه، ترافقه، وقد تؤثر على سلوكه، ويمكن أيضا التغلب عليها. بمعنى أن النقص في التربية لا يمكن أن يبقى عذرا.
- السلوك الخاطئ للفرد وأثره على حياته الاجتماعية ..
يقدم أدلر النفس كونها قوة ليست مستقلة بذاتها بقدر ما هي في حاجة لمشكلات توجهها، والإنسان بطبعه لا يرضخ لمتطلبات المجتمع فلا يسمح لها بالتمادي للتأثير فيه، لأن الظروف الجماعية المشتركة ليست دائمة، وهي معقدة، بل هي في تحول مستمر، لهذا فإن العلاقات مجتمعية تحجب الرؤية عن النفس لمشكلاتها بسبب هذه العلاقات المعقدة. وبالتالي فالحياة الجماعية المشتركة ضرورية، يجب التعامل معها كحقيقة مطلقة، اعتبارا للمعطى الاقتصادي، او التركيب الطبقي المادي كما أسماه كارل ماركس، غذ هو الأساس الذي يحدد التوجه الأيديولوجي للمجتمع من حيث التفكير والسلوك … الإنسان في حاجة ماسة للمجتمع والحياة الجماعية عبر روابط مختلفة، منها الين والعبادة، والقوانين، والأعراف. هكذا تقوم العلاقات الإنسانية، فيعم الشعور بالأمان والتكيف مع المحيط، رغم أن البشر دائما يتشكل في وعيهم شعور بعدم الأمان، لهذا يسعون للبحث عن سبل أفضل للتكيف مع الحياة على كوكب الأرض.
هكذا تتحول الحياة الجماعية المشتركة إلى غريزة عند البشر، وهذا أمر إيجابي، لأنه عمل على تقوية العقل البشري وتسخيره لحماية الجنس البشري من الانقراض. فالكائنات البشرية ضعيفة جسديا، والذكاء البشري هو الذي مكنها من التكيف مع البيئة التي تعيش فيها بأمان. هذا تفوق العقلي هو الذي يفصل البشر عن باقي الكائنات. فالشعور بالدونية الجسدية يحفز الإنسان على استعمال قدراته العقلية وتطويرها من خلال الحياة الجماعية المشتركة.
هكذا يتولد الشعور الاجتماعي Social feeling، فيتم تحديد القوانين التي تلزم الجميع بالانضباط لها. المجتمع هو الذي يحدد الصالح والشرير. الصالح هو صاحب المنجزات الكبيرة، لهذا يقر له المجتمع بالصلاح، بمعنى ان معيار إفادة البشرية هو القاعدة التي تموضع الشخص، وبهذا تكون المقارنة بين البشر وفق صورة مثالية.
- قيود المجتمع ..
هذا المجتمع الذي نعيش فيه، ونحتمي بجماعته، ونحن جزء منه لا نستغني عنه، يفرض علينا شروطا وقوانين هي واجبات وقيود تؤثر في حياتنا وتوجهنا. إنه مجتمع قام على شراكة بين رجل وامرأة. بمعنى أن هناك حضورا للعلاقات البشرية كتلك التي تقوم بين الجيران، ومساعدة الآخرين، والدفاع عنهم، والعلاقات الشخصية، فتتم تنشئة الأطفال على وفق هذا النموذج أو التصور، فهم يعتمدون على هذا المجتمع لتستمر حياتهم رغم ما يتعرضون له من كبت لغرائزهم.
هكذا يكبر الأطفال وهم يبحثون عن القوة والثقة بالنفس والشجاعة، ومنهم من يحافظ على ضعفه ليستفيد من خدمات البالغين. أما العقبات التي يواجهها من شأنها تشويه الشعور الاجتماعي لدى الطفل، وهي عيوب تشكل البيئة الاجتماعية للطفل، إضافة إلى الإعاقة الجسدية والنفسية والتي لا تسمح للطفل بمواجهة مشكلات الحياة اليومية، ثم وجود تلك العلاقات غير الطبيعية بين البشر، منها العلاقة السلبية للإنسان بالبيئة، والميز العنصري، والظروف العائلية.
يبدو الطفل مشبعا بالعلاقات الاجتماعية حيث يشعر بالحاجة للحنان والتعاطف، وهو شعور فطري، حسب المؤلف، لهذا نراه يتقرب من البالغين، عكس ما ذهب إليه سيجموند فريود الذي يرى أن حب الطفل يكون موجها محو جسده، وهو سعي شهواني. فالشعور الاجتماعي يبقى مع الفرد طوال حياته، وقد يمتد للإنساني، ويشمل الحيوانات والنباتات والجماد .. هذا ما توصل إليه الكاتب بفضل عدد من الدراسات، وهو بذلك يحاول تفنيد نظريات فرود في هذا الصدد ليثبت أن الفرد كائن اجتماعي لا يحكمه السلوك الشهواني الموجه نحو الذات، وبالتالي فإن هذا الشعور الاجتماعي يخول لنا، حسب المؤلف، فهم السلوك البشري.
هكذا يتطور الطفل على المستوى النفسي، إذ يحدد هدفا شخصيا ينحو في اتجاه القدرة على التغيير، فنجد يصل درجة الثراء الروحي، وحرية الحركة، وبالتالي الاستغناء على مساعدة الآخرين، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته.
تعتبر الحواس الخمس هي الأساس في علاقة الطفل بالعالم المحيط، لأنه من خلالها يكتشف العالم ويتعرف عليه، ويحدد موقفه منها، خاصة حاسة البصر التي تواجه البيئة المحيطة بها، أي تواجه العالم المرئي. .يبقى الجانب النفسي هو المحدد الرئيس لكل أنشطة الفرد الذي هو أيضا يؤثر في اختياراته، وعلى الصورة التي يشكلها عن العالم. شخصية الطفل “شخصية بصرية”، وهناك من الناس من يكون صورة عن العالم بفضل السمع، وهو فهم لا يكون مطابقا للواقع، وبالتالي فكل شخص يشكل العالم بصورة تتناسب مع نمط حياته. ثم يأتي الخيال الذي يميز كل فرد عن غيره، حيث القدرة الفائقة على الإدراك الحسي بشكل مستقل عن الوجود، أي عن المادة المسببة لهذا الإدراك الحسي للماضي وللمدركات الجديدة.
- الأحلام الجامحة والنفس الخلاقة ..
استحضار الذكريات، والتفكير فيها، والتركيز عليها، ما هو إلا جزء من النشاط الخلاق للنفس، تهدف للتنبؤ وإصدار الأحكام المسبقة. هذه هي الحلام الجامحة، أو أحلام اليقظة، وهي تتعلق بالمستقبل، وتكون في الطفولة، فالمؤلف يرى أن النفس تنمو وتتطور كلما كان لها هدف محدد في الحياة، وبعمل على تطوير حياته انطلاقا من الحياة الجماعية المشتركة لأجل التفوق على الآخرين.
يضيف المؤلف أنه من الأحلام الجامحة عند الأطفال، أن يتخيلوا أنهم لا ينتمون إلى أسرهم، بل ينتمون لأسر أخرى غنية أرستوقراطية، ينتظرون عودتها لتبحث عنهم وتستعيدهم .. إنه التفكير في وضع العظمة …
إن الأحلام تساعد على فهم الطبيعة البشرية، والأحلام العادية لا تختلف عن أحلام اليقظة، فكلاهما يتعامل مع المستقبل لتحقيق أهداف محددة، والسعي للطمأنينة والأمن، والتفوق، وبالتالي القدرة على “رؤية التفاصيل الحاضرة والمستقبلية لمشكلات فرد ما وحياته العاطفية”. فالنفس يمكنها تخمين ما سيحدث في المستقبل، وهذا ما يعرف بالبصيرة، بحيث أن كل كائن قادر على الحركة بإمكانه التكيف مع البيئة المحيطة به، والتعاطف مع من حوله، والعيش وسط الجماعة، وبالتالي فإن امتلاك بصيرة لا يعني التنبؤ بالمستقبل، فالبصيرة هي استمرار الوجود. هكذا، يستطرد المؤلف، يحدث التعاطف بين الأفراد بفضل الإحساس بمشاعر الغير، او الآخر، لهذا نجد الدراما أكثر التعبيرات الفنية عن هذا التعاطف. ثم هناك المشاركة الوجدانية. قد نشعر بفرح وأحزان لآخرين، فيصبح الوضع مشاركة وجدانية، يقول المؤلف، لدرجة يمكن معها أن تصدر عنا حركات لاإرادية للدفاع عن النفس رغم عدم وجود أي خطر يتهددنا، مثلا نشعر يشعر بعض الناس بالخوف عند مشاهدة عامل النظافة ينظف زجاجا واجهة بناية شاهقة، أو عند السياقة، يقوم بعض الركاب بالضغط على مكبح وهمي تحسبا لحادثة، او عندما يفقد المحاضر قدرته على الاستمرار وتضيع منه الأفكار يشعر الحاضرون بالخجل وبالارتباك نيابة عنه.
هكذا تصبح المشاركة الوجدانية ذات قيمة ي حياتنا، ومصدر قوة، تمثل موروثا إنسانيا، وبالتالي فإن المشاركة الوجدانية ذات بعد كوني، باعتبار هذه الخاصية جزء من البناء الإنساني، حيث تعطينا الإحساس بخبرات الغير. هذه المشاركة الوجدانية تختلف من شخص لآخر، مثل الشعور الاجتماعي. هذا الشعور الاجتماعي هو الذي ينمي لدينا تلك القدرة على تقبل التأثيرات الخارجية من الآخرين. هذا الوضع هو تلك القدرة على احترام حقوق الآخرين دون أذيتهم.
يرى المؤلف أن الطفل الذي يعاني الحرمان والكبت في بيئته الأسرية أو في المدرسة، تكون ردود فعله ضعيفة ولا يتفاعل بإيجابية مع من حوله، فتلجأ الأسرة والمدرسة لضغط عليه كي تستعيد هذه المؤسسات سلطتها عليه، فتخضعه للطاعة التي تعد سلبية تجاه المجتمع، هي طاعة عمياء، لأنه يتلقى الأوامر وينفذها، الشيء الذي يجعله غير قادر على التصرف باستقلالية، أو التفكير بحرية. هذه الشخصية تنمو بشكل خطير لأنها مؤهلة لتنفيذ الأوامر التي قد تكون عن القانون.
سولك الهيمنة هذا هو نفسه الذي تشتغل به العصابات من أجل السيطرة على الآخرين، لأن الفرد الواحد من العصابة ينفذ أوامر الزعيم، وهو ذو شخصية استسلامية، أما الذي يصدر الأوامر فهو بعيد عن مسرح الأحداث … (يتبع).
د. محمد حماس
(باحث في التاريخ والتراث. المملكة المغربية)