نزار بولحية
حتى رئيس مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط، لم يتورع عن القول في أكتوبر 2021 ردا على سؤال وجهته له في ذلك الوقت وكالة الأنباء الإسبانية إن: «اسرائيل تؤيد المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية بالنزاع ـ الصحراوي». فماذا بقي بعدها إذن؟ ألم يعد باستطاعة من هبّ ودبّ أن يردد، أسوة بما يفعله قادة الغرب والشرق معا من أنه «من الضروري تحقيق حل سياسي واقعي وعملي ودائم ومقبول من الطرفين على أساس التوافق»، وأنه لا بد كذلك من أن يتم «دعم عمل المبعوث الأممي إلى الصحراء وتشجيع جميع الأطراف والشركاء الدوليين على العمل من أجل عملية سياسية متجددة في الصحراء»؟ فهل تغني مثل تلك الأقوال من شيء؟ وهل تحرك ولو سنتمترا واحدا من الوقائع على الأرض؟ لا جدال اليوم في أن الخمسة الكبار أي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، منقسمون حول أكثر من ملف، لكنهم متفقون مع ذلك، وكما يبدو على أن المشكل الصحراوي ينبغي أن لا يحل غدا.
انسداد قنوات الحوار بين الجزائر والمغرب لا يطيل أمد التوصل إلى تسوية نهائية فقط، بل يوسع هامش مناورة القوى الكبرى ويجعلها تضع يدها بشكل تام على الملف
ومن الواضح تماما أن الإحاطات والتقارير والنقاشات والمفاوضات والجلسات والتوصيات والقرارات التي أصدروها في ما له علاقة بالموضوع، لم تكن سوى ستار مخملي ودبلوماسي لاتفاقهم الضمني على ذلك. لكن ما نهاية التمديد والتمطيط الأممي لتلك القضية؟ وإلى متى تستمر الأمم المتحدة في إيهام المغاربة والجزائريين بأنها تسعى فعلا للبحث عن حل؟ من الواضح أن هناك من يرتاح لذلك الوضع، أي بقاء النزاع مفتوحا، لكن من الواضح أيضا أن العلة تكمن في جهة أخرى. فمن بدأت حركة تحرر من الاستعمار الإسباني، صارت الآن أكبر عقبة أمام الجارتين المغاربيتين وحاجزا يمنعهما من فتح باب للحوار. وعلى امتداد أكثر من أربعة عقود ظل الأمر أشبه بلعبة أضداد غريبة ومدمرة، فكلما أشار تقرير أممي إلى جبهة البوليساريو على أنها طرف في النزاع، شعر الجزائريون بالارتياح وتنفسوا الصعداء، وتمنوا أن يمضي أصحابه أبعد من ذلك وينصوا على أنها الطرف الوحيد في مواجهة الرباط، فيما انتاب المغاربة شعور بالضيم مما قد يعتبرونه نفاقا أمميا ولياً لما يرونها حقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي أنهم في صراع لا مع البوليساريو، بل مع الجزائر نفسها. لكن لنتصور فقط ما الذي يمكن أن يحصل إن أعلم ستيفان ديمستورا هذه المرة مجلس الأمن في الإحاطة التي يعتزم عرضها عليه في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، أنه وبعد كل المشاورات والجولات التي قام بها في المنطقة، بات مقتنعا تمام الاقتناع بأن الصحراء مغربية، وأن الحل النهائي للمشكل يكمن في منح الصحراويين حكما ذاتيا ضمن السيادة المغربية. لن تقوم الدنيا وتقعد ساعتها فقط، ولن يشكك البعض في حياده ونزاهته ويطالب بإقالته فورا من منصبه كمبعوث شخصي للأمين العام مكلف بالملف الصحراوي، بل إن جزءا من السردية والخرافة التي بنيت على امتداد عشرات السنوات سيتداعى وينهار، وهذا بالطبع ما لا تريده أو ترغب فيه عدة قوى إقليمية ودولية. ولأجل أن يبدو الخيار الأكثر أمانا أمام الدبلوماسي السويدي المخضرم هو الاستسلام لذلك الواقع، إن أراد حقا الاستمرار في منصبه، وبالتالي فإن ما سيفعله في تلك الحالة هو أن يقدم إحاطة معومة وفضفاضة يقرأها كل طرف من الأطراف بشكل إيجابي، ولا تختلف كثيرا عن الإحاطات التي أصدرها في السابق. لقد شرع قبل أيام في ما وصفها المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة بـ»المشاورات غير الرسمية» التي من المفترض أن تشمل ممثلين عن المغرب والبوليساريو والجزائر وموريتانيا، بحضور ما تسمى «مجموعة أصدقاء الصحراء» بما فيها إسبانيا والولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة وفرنسا، والغرض منها حسب ستيفان دوجاريك، مناقشة الدروس المستفادة في العملية السياسية لتعميق دراسة المواقف ومواصلة البحث عن صيغ مقبولة للطرفين، لدفع العملية السياسية نحو الأمام»، على حد تأكيده. لكن أليس الأولى بطرفي المشكل أي المغرب والجزائر أن يناقشا وحدهما الدروس المستفادة من صراعهما الطويل الذي استنزف كل طاقاتهما وثرواتهما وإمكانياتهما؟ ربما يقول قائل كيف يحصل ذلك والمكان الوحيد الذي يمكن أن يجتمعا فيه ويتحادثا الآن، إن قبلت الجزائر بالطبع حضور جولة جديدة من مفاوضات الطاولات المستديرة، هو الأمم المتحدة؟ إن هذا هو بالفعل جوهر المشكل، فانسداد قنوات الحوار بين الجارتين لا يطيل أمد التوصل إلى تسوية نهائية فقط، بل يوسع وبالأساس من هامش مناورة القوى الكبرى ويجعلها تضع يدها بشكل تام على الملف.ألم يكن بوسع الأمريكيين والفرنسيين والصينيين والروس والبريطانيين، لو أرادوا حقا حل مشكلة الصحراء أن يضغطوا على البلدين لدفعهما للجلوس إلى طاولة الحوار والاتفاق على حل المشكل بشكل ثنائي؟ إن تصرفات الدول الخمس تدل على أن لا واحدة منها تسعى إلى ذلك والسبب بسيط وهو، أنهم لا يريدون الحسم في الملف وغلقه بشكل نهائي. لقد ظلوا ومنذ التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار مطلع التسعينيات يوازنون في مواقفهم بين حرصهم على أن لا تندلع المواجهات المسلحة من جديد، لأن ذلك قد يهدد أو يمس بمصالحهم في المنطقة، ورغبتهم في إبقاء الأوضاع كما هي عليه، لكن من دون الإعلان رسميا عن ذلك. ومع أنهم يعلمون جيدا أن المغرب هو من يسيطر الآن فعليا على الصحراء، فإنهم يفضلون المساومات والمناورات والوقوف في معظم الأحيان في المنطقة الرمادية، ويضعون في حساباتهم ما الذي يمكن أن يكسبوه أو يخسروه من وراء أي موقف أو قرار، أو حتى تصريح عابر. لقد ظن كثيرون في ديسمبر 2020 أن الموقف الأمريكي بالاعتراف بمغربية الصحراء سيكون منعرجا حاسما في الوصول إلى تسوية نهائية للمشكل، لكن الإدارة الأمريكية الحالية التي لم تتراجع عن اعتراف سابقتها، لم تضغط بقوة لدفع مجلس الأمن إلى تبني ذلك الموقف، بل لم تسع حتى للخروج بموقف موحد مع حليفتيها فرنسا وبريطانيا، يصب في ذلك الاتجاه و اكتفت كلما أثير الموضوع بالتعبير عن تمسكها بالإعلان السابق. أما الصينيون والروس الذين لا يعترفون كباقي الدول الكبرى بجمهورية البوليساريو المعلنة من جانب واحد، فهم يحاولون الإيحاء بأنهم يميلون لوجهة النظر الجزائرية، لكنهم يتعاملون بكثير من الحذر والبراغماتية، وينظرون لا فقط لعلاقاتهم الاستراتيجية الوثيقة بالجزائر، بل أيضا لمصالحهم مع الرباط، وهذا ما يجعلهم مترددين في الحسم، وراغبين في إطالة أمد النزاع لأكثر وقت ممكن، لكن الأهم هو أن المغرب ينظر بإيجابية إلى ما يعتبره حيادا روسيا وصينيا في المسألة، وربما تجعله التطورات الدولية الأخيرة وتداعيات الحرب المستمرة في أوكرانيا والخوف الغربي من توغل روسي في الشمال الافريقي يضغط على حلفائه الغربيين لأجل الدفع بقوة نحو إصدار مجلس الأمن لقرار ينص على أن الحكم الذاتي للصحراء هو الحل النهائي والتوافقي والمناسب للمشكل. لكن هل إن حسابات هؤلاء ستجيز لهم ذلك؟ في الظرف الحالي يبدو الأمر صعبا، لكن الرباط تعرف جيدا أنه لن يكون غدا مستحيلا.
كاتب وصحافي من تونس