كان الخطاب الذي ألقاه الملك محمّد السادس في الذكرى الـ49 لـ“المسيرة الخضراء” مناسبة كي يضع النقاط على الحروف بكل وضوح وكي يستوعب كلّ من يعنيه الأمر، بما في ذلك النظام الجزائري، الذي لم يأت على ذكره، وحتّى الأمم المتحدة، الواقع الذي لا مفرّ من التعاطي معه. كانت الرسالة المغربيّة في غاية الوضوح. فحواها أن لا عودة إلى الخلف، خصوصا بعدما بات واضحا أنّ قضية الصحراء لم تكن سوى قضيّة مفتعلة وحرب استنزاف يشنها الطرف الحقيقي في هذه القضيّة، وهو النظام الجزائري، على المغرب.
قطع الخطاب الطريق على أي أوهام يروج لها المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا الذي يعرف، ربّما في كل ّ شيء، باستثناء قضية الصحراء المغربيّة وطبيعتها. ليس سرّا أن دي ميستورا لم يلمع في أي من المهمات التي أوكلتها إليه الأمانة العامة للأمم المتحدة، خصوصا عندما تولّى ملف لبنان حيث بدا سائحا أكثر من أن يكون صاحب مهمّة سياسية وإنسانية في الوقت ذاته.
ركّز محمّد السادس، بغاية الدقّة، على نقاط محدّدة بدءا بتشديده على “الطابع السلمي” الذي اتسمت به تلك المسيرة الشعبية التي مكنت المغرب من استعادة أقاليمه الصحراوية فور انسحاب المستعمر الإسباني منها في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1975.
قال ملك المغرب في هذا المجال إنّ “المسيرة الخضراء” كانت “مسيرة سلمية وشعبية، مكّنت من استرجاع الصحراء المغربية، وعززت ارتباط سكانها بالوطن الأم. منذ ذلك الوقت، تمكن المغرب من ترسيخ واقع ملموس وحقيقة لا رجعة فيها قائمة على الحق والشرعية والالتزام بالمسؤولية”.
أشار إلى أن ذلك يتجلى من خلال الآتي:
“أولا: تشبث أبنائنا في الصحراء بمغربيتهم، وتعلقهم بمقدسات الوطن، في إطار روابط البيعة، القائمة عبر التاريخ، بين سكان الصحراء وملوك المغرب.
ثانيا: النهضة التنموية، والأمن والاستقرار، الذي تنعم به الصحراء المغربية.
ثالثا: الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء، والدعم الواسع لمبادرة الحكم الذاتي.
وبموازاة مع هذا الوضع الشرعي والطبيعي، هناك مع الأسف، عالم آخر، منفصل عن الحقيقة، ما زال يعيش على أوهام الماضي، ويتشبث بأطروحات تجاوزها الزمن.
فهناك من يطالب بالاستفتاء، رغم تخلي الأمم المتحدة عنه، واستحالة تطبيقه، وفي نفس الوقت يرفض السماح بإحصاء المحتجزين بمخيمات تندوف، ويأخذهم كرهائن، في ظروف يرثى لها، من الذل والإهانة والحرمان من أبسط الحقوق.
وهناك من يستغل قضية الصحراء، للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي.
لهؤلاء نقول: نحن لا نرفض ذلك؛ والمغرب كما يعرف الجميع، اقترح مبادرة دولية، لتسهيل ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي، في إطار الشراكة والتعاون، وتحقيق التقدم المشترك، لكل شعوب المنطقة.
وهناك من يستغل قضية الصحراء، ليغطي على مشاكله الداخلية الكثيرة. وهناك كذلك من يريد الانحراف بالجوانب القانونية، لخدمة أهداف سياسية ضيقة.
لهؤلاء أيضا نقول: إن الشراكات والالتزامات القانونية للمغرب، لن تكون أبدا على حساب وحدته الترابية، وسيادته الوطنية.
لقد حان الوقت لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها، وتوضح الفرق الكبير بين العالم الحقيقي والشرعي، الذي يمثله المغرب في صحرائه، وبين عالم متجمد، بعيد عن الواقع وتطوراته”.
كما في خطابه في مناسبة “عيد العرش” أواخر تموز – يوليو الماضي، حرص محمّد السادس على تأكيد ضرورة التحلي بالحذر عن طريق تحلي أبناء الشعب المغربي بالوحدة والوطنية، لذلك قال: “إنّ المرحلة التي تمر فيها قضية وحدتنا الترابية تتطلب استمرار تضافر جميع الجهود”. نعم، هناك حاجة إلى تكامل في العمق بين أبناء الشعب المغربي الموجودين في المغرب وأولئك المنتشرين في كلّ أنحاء العالم. من هذا المنطلق، تحدث عن مؤسسة جديدة تتولى “تدبير الآلية الوطنيّة لتعبئة كفاءات المغاربة المقيمين في الخارج”.
كان الخطاب الملكي في الذكرى التاسعة والأربعين لـ“المسيرة الخضراء” علامة فارقة ومناسبة لتوضيح نقاط لم تكن أصلا في حاجة إلى توضيح. لم يسمّ الملك محمّد السادس الجزائر في أي مقطع من الخطاب، لكنّه أوضح مرّة أخرى، وإن بطريقة غير مباشرة، أنّ من مصلحة الجميع في شمال أفريقيا وغير شمال أفريقيا التطلع إلى المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي ومحاولة الترويج لشعار “حق الشعوب في تقرير مصيرها”. مثل هذا الشعار شعار حق يراد به باطل. لو استطاع الصحراويون الموجودون في معسكرات تندوف، في الأراضي الجزائريّة، الحصول على حريتهم، لكان أول ما فعلوه يتمثل في العودة إلى الصحراء المغربية حيث يعيشون بصفة كونهم مواطنين مغاربة يتمتع كلّ منهم بحقوقه الكاملة مثل أي مواطن آخر في المملكة.
لم يوفّر العاهل المغربي الأمم المتحدة بقوله “لقد حان الوقت لتتحمل الأمم المتحدة مسؤوليتها”. في النهاية، لم تعد مسرحية تلطي النظام الجزائري بما يسمّى جبهة “بوليساريو” تنطلي على أحد. ثمّة حاجة أكثر من أي وقت لتسمية الأشياء بأسمائها، بما في ذلك أن النظام الجزائري هو الطرف الذي يحرّض على المغرب وهو وراء المتاجرة بقضية الصحراء.
توافق الخطاب الجريء والواضح لمحمّد السادس مع الالتفاف الدولي والعربي حول المغرب ووحدته الترابيّة بدءا باعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء قبل أربع سنوات. كذلك، صار في وسع المغرب إسماع الآخرين ما يريد أن يقوله استنادا إلى التحول في الموقف الإسباني ثم في الموقف الفرنسي الذي أعاد تأكيده الرئيس إيمانويل ماكرون أثناء زيارته الأخيرة للرباط. لا يمكن أيضا تجاهل الموقف العربي العام بدءا بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة والمملكة الأردنية الهاشمية.
لا شيء ينجح مثل النجاح. النجاح مكّن من وضع النقاط على الحروف ونقل قضية الصحراء إلى مكان آخر لا مكان فيه لأي تردد أو تراجع عن النقاط التي سجلها المغرب في السنوات التي بدأت بانطلاق “المسيرة الخضراء” قبل تسعة وأربعين عاما!
خيرالله خيرالله
إعلامي لبناني