يوم 6 نوفمبر 1975، استعادت فيه جغرافية المغرب تاريخها. فيه انتصر التاريخ لجغرافية الوطن المغربي. إنّه يوم انطلاق المسيرة الشعبية المغربية لاسترجاع الأقاليم الصحراوية من الاستعمار الإسباني، والتي أبدعها وقادها العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني وسجّلها في تاريخ المغرب باسم “المسيرة الخضراء”.
هو أيضا يوم عربي مَجيد، لأنَّ تلك المسيرة، ركَّبها الملك الحسن الثاني على إيقاع الحُلم الوحْدَوي العربي، وهو الذي كان مُوَجِّها لكفاح المغاربة من أجل الاستقلال. تحقيق وحدة الوطن المغربي، هو انتصارٌ للرّفض العربي للتجزئة، وردْع لمد التفتيت وتكاثر الدُّوَيْلات في الجغرافية العربية. وكان التآمُر الانفصالي يحدق بالمغرب، ليكون امتدادا للاستعمار، وإنْباتا لدُوَيْلَة غير قابلة للحياة إلا بالإسْناد الخارجي الاستعماري، وضِدًّا على الآمال والطموحات الاستقلالية والتنموية للمغرب وفي المنطقة عامة.
في تلك السنوات، كانت الدولة الإسبانية مشلولة بالاحتضار الطويل لرئيسها الجنرال فرانكو. والوجود الاستعماري الإسباني في الأقاليم الصحراوية المغربية تتقطّع أنفاسه، مُتَأثِّرا بالمدِّ الاستقلالي لأفريقيا. وقد انخرطت “البِنْية الفَرَنْكوية” في الدولة الإسبانية، تحضيرا لإعلان دُوَيْلة في الصحراء تابعة لمدريد. وقد بدأ التحضير بإجراء إحصاء للسكان في المنطقة سنة 1974 حصرهم في 74000 فقط، مُسْتَثْنيا مئات الآلاف من الصحراويين المغاربة الذين لجأوا إلى شمال المغرب، عبر عقود من الضَّغْط الاستعماري الإسباني
الملك الحسن الثاني أوقف تلك المؤامرة بلمْعة من قائد مُتبصِّر ومُتمرّس على النظر الإستراتيجي. اللمعة كانت تلك المسيرة الشعبية التي استنهضت تدخُّل كل الشعب المغربي في الشأن السياسي الوطني، وقد مثَّله في فعلها الملموس ثلاثمئة وخمسون ألفا من مواطني كل أقاليم المغرب وجهاته.
مسيرة سلمية استبقت المؤامرة التي رمَت إلى فرض أمر واقع انفصالي، وفرضت إقرار الحقّ الوطني المغربي في إنجاز وحدة الأرض والشعب المغربيين. وقد أحْرجت سِلْميَّتها وشعبيتها الجيش الإسباني، الذي زَمْجر مُهدِّدا بإطلاق نيرانه ضد حُشودها، كما أوْرد هنري كيسنجر في مذكراته، وقد مارس زيارته المكوكية، الشهيرة، بين الرباط ومدريد خلال أيام التوتُّر تلك.
وقد وجد ولي العهد آنذاك الملك خوان كارلوس في ما بعد، في سلمية المسيرة ما ساعده على إقناع الجيش بالتراجُع عن عدوانيته، حيث اجتمع في العيون بضُبَّاط الحكم الاستعماري، ثلاثة أيام قبل انطلاق المسيرة. كانت أيام عبور المنطقة بكاملها، وقضية الصحراء في قلبها، لممَرِّ “التيار العالي”.
وكان الحسن الثاني يُراقب، هادئا، ذلك العُبور، مُطْمَئنّا لنجاح المسيرة في تجْسير استعادة المغرب لأقاليمه المستعمَرة بالانسيابية التي تَصوّرها. وأرَّخت لها اتفاقية مدريد، وهي شهادة الأمم المتحدة على تحقيق المسيرة الخضراء لغايتها الوطنية.
سياسيا، المسيرة الخضراء احتاجت لفصلين آخرين لاستكمال إنجاحها. وقد اجتازتهما، مرّة أخرى، بعبقرية الملك الحسن الثاني. الأول منهما، انتفاضة سكان وادي الذهب في أغسطس 1979 للانضمام إلى الوطن الأصل. وقد كانت تلك الانتفاضة قبيل أيام من تحرك بوليساريو للسَّطو على الإقليم من الإدارة الموريتانية، وقد تُوِّجت تلك الانتفاضة بالزيارة الملكية التاريخية لمدينة الداخلة، وتنظيف المنطقة من آثار الانفصال والانفصاليين.
والفعل الثاني، هو إعلان الملك الحسن الثاني سنة 1981 بالعاصمة الكينية نيروبي، عن قبول المناشدة الدولية لإجراء الاستفتاء في الأقاليم الصحراوية. مكّن ذلك القبول من تقويم الانتماء الصحراوي المغربي على النحو الذي يشمل كل المنتسبين للأقاليم الصحراوية، عبر المسلسل الطويل من عملية تحديد هُوّية القائمة الاستفتائية.
العملية التي دامت أزيد من عقد، واستهلكت العديد من مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة، إلى أن اقْتنع جيمس بيكر، المشرف الأخير على محاولة التعرُّف على من له حق المشاركة في الاستفتاء، وهو الوزير السابق للخارجية الأميركية، بأن إجراء الاستفتاء مُستحيل. “وتَكَرّم” باقتراح تقسيم الصحراء المغربية، بين المغرب وبوليساريو، كما يُفكِّر أيّ أميركي لا يُقيم اعتبارًا للوطنية ولا للحق الوطني.
الاقتراح تجاوبت معه الجزائر وبوليساريو. ورفضه بشدة المغرب. ومن يومها لم تعد الأمم المتحدة إلى مقترح الاستفتاء. شطبَتْه من قاموسها، وإلى اليوم. وبذلك استكملت المسيرة إحكام السيادة المغربية على الأقاليم المسترجعة. وفتحت المجال للحل السياسي. وفرضته مَبْحثا دوليا ولا مسعى آخر سواه.
التحوُّل النوعي في البعد السياسي للمسيرة الخضراء، سيُحدثُه الملك محمد السادس بعد سنوات من الحفر في مسالك الحل السياسي التي أتْعَبت الأمم المتحدة، في موائد مُباحثات متعددة الأشكال، وفي عدة مدن أميركية وسويسرية، أفشلها كلُّها الانغلاق الجزائري على أيّ مقترح حل.
سيُبادر الملك محمد السادس بمقترح الحكم الذاتي سنة 2007، الذي أطْلق للحل السياسي، الواقعي، الدائم والمتوافق عليه، ممرا ملكيا نقل النزاع من المُراوحة في العناد إلى الإمكان في الاجتهاد.
وقاد الملك محمد السادس التمرين الدولي على مقاربة المقترح السلمي المغربي لأزيد من عقد، حتى تدفق مضمونه في القناعة الدولية بحل المنازعة الجزائرية في الحق المغربي من خلال مُفرداته وروحه، وأضحت قرارات مجلس الأمن الأممي تنطق بمضمونه وتقرُّ بجديته وبصدقيته منذ حوالي ست سنوات وإلى القرار الأخير 2703 لأكتوبر الماضي.
سياسيا ودوليا، اليوم، مسيرة 6 نوفمبر 1975، محصَّنة وفي أساس مرجعية التعاطي الدولي مع قضية الصحراء المغربية، لأنها اكتسبت ديناميكية ذاتية وطنية، بها تجدد حيويتها، وقد لقّحتها القيادة الحكيمة للملكين الراحل الحسن الثاني، والملك محمد السادس على نفَس وطني واحد، مبدع ومتمتع بتبصر إستراتيجي مستمد من وطنية عريقة وأصيلة في الدولة المغربية، ويُجذِّرها ويُعمِّقها في النسيج الوطني المغربي.
التدخل الشعبي، الذي كان ميزتها، بعد عشرين سنة من الصراع على الحكم بعد الاستقلال، استدعاه الملك الحسن الثاني للتدخل المباشر في الفعل السياسي الوطني.
نجَح ذلك التدخل، وعلى مساره تجدَّد النظام السياسي المغربي، بتدرُّج، بمنعطفات وحتى بكَبوَات وبغير قليل من التوتُّرات، وتواصل ضخّ المعمار السياسي المغربي بالحيوية الديمقراطية. بدأناها بالحديث عن الهامش الديمقراطي، نهاية سبعينات القرن الماضي، ثم تلمّسنا عناصر تفيد بأننا في مسار مسلسل ديمقراطي إلى اليوم حيث الديمقراطية اختيار إستراتيجي، مبدئي بل ووجودي للدولة المغربية، كما أرادها ملك المغرب وقائد جُهدِه الإصلاحي الملك محمد السادس.
وفي المركز من كل هذا التطور، المشاركة الشعبية لمواطنينا في الأقاليم الصحراوية، في كل الاستحقاقات الانتخابية وفي كل الاختيارات التنموية، تلك الخاصّة بتلك الأقاليم وتلك التي تهُمّ عموم الوطن المغربي.
ولم تنجح تنمية الأقاليم الصحراوية، إلى حدّ الإبهار بها، إلا لأنها ثمرة من الاختبار الديمقراطي في كل أبعاده، المعنوية والمادية، والمندمجة في المسار التنموي الوطني. ولهذا، المسيرة التي حدثت يوم 6 نوفمبر 1975 كانت من القوّة التاريخية أنها أنتجت مغربا جديدا، ويواصل تجدده إلى اليوم.
طالع السعود الأطلسي
كاتب مغربي