نزار بولحية
مات
بوتفليقة، لكن الجزائريين وإن اختلفوا حوله لن ينسوا أبداً إنه ولد في المغرب. ومن
المفارقات أن من صرخوا يوما: «بوتفليقة يا المروكي» أي أيها المغربي، لم يدركوا ما
قد يعنيه ذلك، فليس معروفا بعد ما الذي جعل آلاف الحناجر التي هتفت عاليا قبل
عامين ضد ترشحه لعهدة رئاسية خامسة، تُسقط وفي خضم الشعارات العظيمة التي رددتها،
وعلى الضد منها تماما، هتافا عنصريا مقيتا وغير مبرر، أو مفهوم بالمرة. فهل كانت
الحشود تعي ساعتها جيدا ما قالته؟ أم أنها كانت، ولو لوقت قصير خارج الوعي تماما،
وتحت تأثير جهة، لم تدخر جهدا في استغلال غضبها وحماسها لتوجيهها ولأغراض تخصها
إلى الإقدام على رفع مثل تلك الشعارات المقيتة والمشينة؟
إن المشكل كما أقر به الجزائريون أنفسهم كان الشخص ونظامه، أو ما اختصروه في تسمية
«العصابة» لا في البلد الجار، أو في ارتباط الرئيس المقعد به في مرحلة من المراحل.
غير أن الصورة التي قدمها البعض، وربما عن حسن نية، هي أن ولادة بوتفليقة في
المغرب خدشت شيئا ما من وطنيته، وجعلت انتماءه للجزائر مشكوكا فيه، وعلى أي حال
فهو لم يكن الشخصية الأولى، أو الوحيدة من بين الشخصيات الجزائرية التي ولدت، أو
عاشت فترات طويلة من حياتها، فيما يعرف الآن بـ»الجارة الغربية». لكن إن كان الأمر
قد أثار في ذروة الحراك الشعبي الجزائري بعض الحساسية، فهل يمكن أن يتواصل أو
يستمر إلى ما لانهاية له؟ أم أنه سيكون من الممكن جدا أن يتكرر النموذج نفسه في
المستقبل القريب، ويخرج من صلب الأجيال الجديدة رئيس جزائري، دفعته الأقدار لأن
يولد، أو يعيش جزءا كبيرا من حياته في المغرب، ومن دون أن يحدث ذلك صخبا أو ضجة أو
صدمة داخل أي من الدوائر الشعبية أو الرسمية؟
ربما يبدو الأمر، وفي ظل التدهور المتسارع والمخيف في علاقة البلدين، وسعي كل واحد
منهما لأن يثبت، وبأي طريقة كانت، قدرته عن الاستغناء عن الآخر مثيرا لقدر من
السخرية. ولعل البعض يرى في مجرد التفكير في ذلك نوعا من التآمر الخفي على
الجزائر، في وقت يروج فيه نظامها بأن كل ما يأتي من جارته الغربية هو شر محض، لكن
العاهل المغربي، ورغم علمه بكل ذلك، فقد أراد ومن خلال البرقية التي أرسلها السبت
الماضي إلى الرئيس الجزائري، للتعزية في وفاة سلفه، أن يكرر ما فعله سابقا، أي أن
يرمي حجرا في المياه الراكدة بين الجارتين، حين استحضر في برقيته ما وصفها
بـ»الروابط الخاصة التي كانت تجمع الفقيد بالمغرب، سواء خلال فترة النشأة والدراسة
بمدينة وجدة، أو في مرحلة النضال من أجل استقلال الجزائر الشقيقة» لكن ما الذي
أراده من وراء ذلك؟ هل كان يلمح إلى تنصل الراحل من تلك الأواصر في سنوات حكمه،
وعدم سعيه بالقدر المطلوب للحفاظ عليها أو تمتينها؟ أم أنه كان يريد أن يلفت
انتباه القيادة الجزائرية الحالية إلى أنه لن يكون من الممكن لأحد أن يعاكس
الأقدار التي جعلت البلدين، كما وصفهما في يوليو الماضي، في خطابه في ذكرى الجلوس
على العرش «أكثر من دولتين جارتين توأمين متكاملين»؟ بغض النظر عن أن ملابسات صعود
عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة ثم انسحابه، أو إجباره على الانسحاب منها بعد
عقدين كاملين، تبقى واحدة من ألغاز الجزائر الحديثة، مثلما أن تفاصيل اختفائه ثم
موته ستظل كذلك مجهولة، فإن ما جرى في جنازته ظهر الأحد الماضي، كان لافتا ولو من
جانب واحد على الأقل. فعلى عكس ما حصل مع الشاذلي بن جديد مثلا، ومع رؤساء
جزائريين آخرين في وفاتهم، لم يحضر لا ملك ولا أمير ولا رئيس عربي أو أجنبي مراسم
الجنازة الرسمية التي نظمتها السلطات تحت إشراف الرئيس تبون، رغم أن أهم ما كان
يميز الراحل هو ليس فقط إنه كان رئيسا للجزائر، بل إنه قاد ولعقود طويلة دفة
الدبلوماسية الجزائرية، إلى أن صار اسمه في فترة ما مقترنا بها بشكل كبير. ولعل
ذلك عكس الحرج الذي شعرت به القيادة الجزائرية من أن يضعها قدوم موفدين من الخارج
للعزاء، في مأزق سياسي وإنساني كبير. فما الذي كان سيحدث مثلا لو أن العاهل
المغربي أرسل في تلك المناسبة ولي عهده، أو أخاه الأمير رشيد للتعزية في وفاة
بوتفليقة بعد أسابيع قليلة من قرار الجزائر قطع علاقتها الدبلوماسية مع المغرب؟ ثم
هل كان من الممكن أن يكون حضور تلك الجنازة فرصة لبعض الوسطاء، حتى يقربوا بين
البلدين ويدفعوا نحو إعادة العلاقات بينهما؟ من المخاطرة حقا الجزم بما كان سيحصل
حينها بالفعل.
غير أن واحدة من الغرائب التي حصلت في السياق نفسه، هو انه وعلى الطرف المقابل أيضا، فإن زعيم البوليساريو الذي كان يقضي رسميا فترة نقاهة بالجزائر لم يحضر جنازة الرئيس الراحل، بل فضل مغادرة العاصمة الجزائرية والعودة إلى مخيمات تندوف ساعات قليلة بعد إعلان خبر الوفاة، مكتفيا بإرسال برقية تعزية للرئيس الجزائري. ومع أن المغاربة باتوا يدركون أن احتضان بلدهم لمعظم القيادات التي وصلت للسلطة في جارتهم، قبل حصولها على استقلالها، لم يجعل هؤلاء يأخذون ذلك بالاعتبار خلال فترات حكمهم، فإن الإساءة الكبرى التي شعروا بها لم تكن في أن بوتفليقة مثلا لم يملك القوة، أو الإرادة لما تولى السلطة في أن يراجع القرار الذي أخذه سلفه بغلق الحدود الجزائرية المغربية، بل في أن بعض الجزائريين الصقوا به أيام الغضب على قراره التمسك بالحكم صفة «المروكي» وكأنه كان من المعرة أن ينتمي أو يقيم في فترة من فترات حياته بالمغرب. ولا يتعلق الأمر بمجرد هتافات، أو شعارات رفعها البعض في وقت محدد، بل في الأثر النفسي الذي قد يتركه ذلك مع باقي التراكمات الأخرى على الأجيال الشابة في البلدين، وهي التي لم تعش مرحلة النضال المشترك للتحرر من هيمنة الاستعمار الفرنسي، ولم تدرك قيمة الدور الذي لعبه جيران الجزائر، وفي مقدمتهم المغرب وتونس لإسناد كفاح الجزائريين من أجل التحرر، ودور الجزائريين أيضا في دعم جيرانهم في تلك الفترة والوقوف معهم في جبهة واحدة. ولأنه سيكون من الصعب جدا أن نعرف بشكل علمي، أو أن نقيس بشكل دقيق مشاعر الجزائريين تجاه المغاربة، أو مشاعر المغاربة نحو الجزائريين، فإنه لن يكون معروفا أيضا إن كان الجزائريون سيستمرون في المستقبل في النظر لمن ولد منهم أو عاش في المغرب، وارتقى سدة السلطة باستنقاص، مثلما فعلوا في فترة ما مع بوتفليقة أم لا؟ لكن المؤكد هو أن العلاقة بين البلدين باتت بحاجة أكيدة لا لمراجعة رسمية محدودة، بل لمراجعات شعبية عميقة تقطع الطريق نهائيا على كل من يريد ضرب الجزائري بالمغربي والمغربي بالجزائري.
كاتب وصحافي من تونس