الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب:حينما يتحرش التطرف بالفقر!

admin
كتاب واراء
admin21 مارس 2023آخر تحديث : منذ سنتين
الأستاذ عبد اللطيف مجدوب يكتب:حينما يتحرش التطرف بالفقر!

 عبد اللطيف مجدوب

أقصوصة تدور رحاها حول البحيري؛ العطار الذي يقطن بحارة؛ تصبح وتمسي على وقع صخب وصياح رواد “التدويخة”، ستعرف فصلا آخر أكثر دموية حينما يأبى ابنه فريد الانغماس في أجواء الحي، فتتلقفه أيادي ظلاميين لتنشئته وشحنه بقيم تكفير الواقع..

بيئة تعتاش على العنف

أخذ يتمطى في فراشه؛ ونوبة من التثاؤب تغالبه بين الحين والآخر، فيما كان غوغاء رهط من أبناء الحي يتسرب إليه من النافذة؛ تخالطه من بعيد نداءات صلاة الفجر، وقبل أن يهمّ بالخطو خارج الغرفة، راجع حفنة من الأوراق المالية من فئة 20دهـ، موضبا إياها في لفات ثلاث.

استوى داخل عربة بيجو؛ عفراء اللون خدوشة الأجنحة والعجلات؛ تعبق منها روائح توابل عطِنة، ألِف أن ينتظر قرابة العشر دقائق حتى يأخذ محركها في الارتجاج، كلما ضغط على الدواسة أصدر دويا مبحوحا ومصحوبا بقذفات أدخنة فاحمة، ولتوّه أخذ يتفحص بنظرات ثاقبة رقعة السماء وهي تحتشد بأكوام سحب سوداء؛ تبددها بين الفينة والأخرى رياح عاصفة قارسة.

عرج وهو في طريقه إلى السوق الأسبوعية على مبنى متهالك؛ تتراقص به ألواح قصديرية في مهب الريح، فنادى في اتجاه كوة غائرة بجدار:

– “آلبويحياوي.. آلبويحياوي.. أرا منتمّا شي بيدو..”.

– وجه شاحب، كان يرمقه مادا يديه ليستلم لفة من الأوراق مقابل برميل من الوقود بحجم عشرة لترات.. ثم اختفى مشيّعا له بكلمات تحذيرية: “رد بالك آلبويحياوي..! راهم عاد دازو منّهنا”.

ولّع سيجارته فافوريط، وعبّ منها نفسا عميقا قبل أن يردفه بتمتمة بين شفتين غليظتين:

– أولاد.. شْحال كترو هدا ليّامات.. يالله عيشو غينتما…!” .

ألِف طريقا متعرجا بين تلال صخرية، ما زالت بقايا سحب تجثم على قممها.. كان مزدحما بالسوقة والمسافرين، ويرى في اصطفاف العربات ولزوم الحيطة إشارة على وجود رجال الدرك، ولهفهم على ترصد جانح أو متنطع. قبل وصوله إلى حاجز المراقبة، أخذ يتفرس وجوه دركيين هناك، فتقطّبت قسمات وجهه وهو يستعد للتوقف، رمقه وجه بدين بنظرات صاعقة، سرعان ما انطفأت بمجرد أن امتدت إليه يد مقبوضة، فأومأ إليه بالعبور، وهو يلسعه بهذه الكلمات:

– “مازال مهْداك الله آلبحيري.. تزوّل علينا هدا الدخاخن..؟!”.

ضغط على الدواسة، ليتحول المكان إلى موجة دخان مترنحة، ثم صوّب فتيلة أخرى بين شفتيه، كان يجد فيها ملاذه أو بالأحرى محاوِره الباطني:

– “ما أتعس الحياة بين هؤلاء؛ ينحرونك صباحاً ليعودوا إلى سلخك مساء. الله كبير..”.

كانت السوق قابعة وسط سفوح جبال أطلسية، تخترقها أغوار لأودية جافة، تحولت مع مرور الزمن إلى مرابض للخيام وباعة الماشية؛ تؤمها قبائل من كل الأنحاء.

ولج البحيري إلى خيمة، وجلس القرفصاء إلى جوار السفّاج عمّي موحا.. فنادى بأعلى صوته:

– “جوجْ ازْلايف دلبيصارا..زلّاݣا دشفنج مع برّاد شبري ..آطلاقنا دغيا”. وما إن فرغ من تناول فطوره المعتاد حتى همّ بمغادرة الخيمة وسط جموع غفيرة وأخلاط بشرية؛ تضيق بهم مسالك الخيام ومرابض البهائم والعربات، فناداه أحدهم من بعيد:

– “آلبحيري.. سأدركك عند رحْبتك” (يقصد القيطون).

اللبنة الأولى للاستمالة

تحلقوا هم الثلاثة في ركن خلفي من “القيطون”، شرع كبيرهم يبربر:

– “مهمة شرفية إضافية؛ ترى الجماعة أنك أهل للاضطلاع بها، هي لا تخرج عن إبلاغ رسائلنا إلى كل الأعضاء..”.

أخذ نفسا عميقا من سيجارته ليتلوه بجرعة شاي ساخنة ، طأطأ برأسه مليا إلى الأرض قبل أن يرد باقتضاب:

– ” يجعل الله خيرا”،

قالها ثم انتفض واقفا يريد عزل سلعته عن قطرات المطر الذي شرع يغزو منطقة الوادي، فيما كان السوقة يهرولون ويتصايحون.

عاد إلى داخل “القيطون” ليتّقي السيول الماطرة، كان يمعن نظره في برك الوحل وذهنه شارد، منشغل بابنه الكبير فريد الذي كان يرفض دوما اصطحابه إلى الأسواق بعد فشله في متابعة الدراسة، لم يكن يخيفه أكثر من أن يصبح يوما مروجا للقرقوبي بين أبناء الحي. رنّ هاتفه، وإذا بأحد جيران الحي يخبره بلهث بأن عراكا نشب بين ابنه وأحد أفراد الشلة، أخذ البحيري يتحرى مصير ابنه فرد عليه:

– “إنه في حالة فرار بعد أن طعن خصمه في الصدر..!”

أخرج لفافة وجعل يتحايل على توليعها في هبوب الرياح، اسودت الدنيا بين ناظريه ولم يكن يدري مصيره ولا الجهة التي سيكون قصدها، امتلكته نوبة من الوساوس والتخمينات حول حياته؛ إذا ما صارت هدفا لهؤلاء “القراقبيّا”، كما كان يدعوهم ويلح على ابنه تحاشيهم:

– “إياك والقراقبيا!..”.

انقضاض اليأس

على غير عادته، تسلل إلى غرفته بالطابق العلوي، فأومأت إليه زوجته بأن يخفض صوته ليلّا يعلم بوجوده أحد:

– “.. منذ ساعات، كثفوا مراقبتهم وأخذوا يتحسسون حركاتنا لعلهم يجدون فريد..”. عفت نفسه الطعام، فأمر بإحضار القهوة وشرب لفافات “الفافوريت”؛ الواحدة تلو الأخرى! لم يبرح منزله على مدى يومين، وفي ساعة متأخرة من الليل سمع بجلبة في الدرج، وإذا بالباب يطرق بشدة، فصعق من فراشه وأخذ يردد بصراخ:

– “آشْكون.. آشْكون…؟!”

– “البوليس.. البوليس”.

أوقد المصباح وفتح الباب، اقتحموه وألقوا عليه القبض وسط صراخ أبنائه، قادوه إلى الخارج، ومن ثم إلى مركز التحقيق والاستنطاق، كان يرتجف ويتوسل لهم بالسماح له بتدخين سيجارة، دوّنوا أقواله.. بأنه لا يملك أية معلومات عن ابنه ولا الجهة التي قد يكون فرّ إليها، ثم أمروا بالإفراج عنه على ذمة التحقيق، وإبلاغ الشرطة بكل ما يتصل بابنه.

تدهورت أحواله، وبات الحي بين ناظريه يشكل كابوسا مؤرقا، وزاد أن أصيب بضمور شديد، في أعقاب أن امتدت أيادي فاعلين إلى عربته بيجو ليضرموا النار فيها ويحولوها إلى أثر بعد عين، هيكل قضبان حديدية مهترئة فاحمة؛ كان يطل عليها من كوة غرفته فيعتصره ألم مضن؛ يسرح به إلى الأسواق وحواجز الدرك وبراميل الوقود وصيحات البويحياوي..!

قبضة التطرف

وفيما هو شبه نائم؛ ذات ليلة؛ إذا بهاتفه يرن، كلما حاول إقفاله عاوده ثانية فثالثة.. كان يخشى أن يباغته مكروه، ولم تعد له حيلة للتخلص من بلابله، فتح الهاتف… وأخذ يصيخ السمع بكل جوارحه، فتلقى وشوشة وبصوت ندي:

– “.. آلبحيري.. آلبحيري.. أنا الشخص الذي اجتمع بك في القيطون… الأسبوع الماضي”.

فرد عليه بصوت مكلوم: “.. وماذا تريد مني.. بعد أن..”، فقاطعه هذه المرة بصوت شجي:

– “نعلم.. نعلم.. هوّن عليك.. لدينا محل بغرفتين؛ نرى من الأجدر بك أن تغير السكنى وإلا انقضّت عليك مخالب ذئاب لا ترحم…!”.

أشعل سيجارته.. وأخذ يعب منها بشراهة، محاولا باليد الأخرى تجفيف عرق كان يتفصّد به جبينه وهو غارق في التأمل:

– “لكن… كيف لي أن أبرح المكان وعيون الذئاب تترصّد رائحتي ؟!”.

– “لقد رتبنا كل شيء.. ستخرج ملثما في صفة امرأة.. وهناك آخرون سيتولون ترحيلك..”.

– “متى سأكون في انتظاركم..؟”.

– “حوالي الواحدة بعد منتصف الليل من يوم الغد، دع هاتفك مفتوحا”.

انزوى البحيري بركن داخل حجرته ينظر إلى ما حوله؛ زوجته وطفلته ذات الخمس سنوات.. وفي الغرفة المجاورة أكياس بلاستيكية يؤثث بها حوافي الحيطان، تبعث منها روائح نفاثة.

البحيري داخل التنظيم

تورّمت جفونه ولم يطاوعه سلطان النوم أن يذهب ولو في غفوة قصيرة، لشدة انشغاله بمصيره ومصير أهله، فظل طوال الليل يضرب أخماسا في أسداس، ويترقب حلول الساعة… ومازال كذلك مشدودا إلى هواجسه إذا بنقرات خفيفة على الباب؛ جاءت متزامنة مع رنات هاتفه:

– “آلبحيري.. هيّا استعد للخروج، ستلتحق بك زوجتك وطفلتك بعد حين..”.

فتح لهم الباب وإذا به يرمق؛ في غبش نور شمعة؛ وجوها ملتحية؛ أومأت له بأن عربة في انتظارهم. تسربل بعباءة أتت من أم رأسه إلى أخمص قدميه، ربط بعصابة على رأسه ليشدها ببرقع، كانت عيناه عبره تجد صعوبة في تلمس خطواته.

وجد في الباب الخارجي شخصا رافقه إلى العربة بمعية زوجته وطفلته، نظرات الجميع كانت مريبة، وفيما كان يبحث عن ولاعته إذا بيد من الخلف توله له السيجارة، فالتقت أعينهما وأومأ إلى السائق بالانطلاق، إلا أن شخصا على بعد بضعة أمتار كان يتابع بنظرات مغرضة تعبئة العربة، فتقدم إلى السائق وهو يهم بإدارة المحرك:

– “.. انتظر.. انتظر.. مالك المنزل يريد استخلاص أجره لسبعة أشهر..”.

نزل السائق، وتفقد جيوبه متظاهرا بأنه يبحث له عن عمولة، فلم يجد سوى ورقة من فئة مائة درهم، ناوله إياها معتقدا أنها كافية لإشباع شهيته إلى القرقوبي، لكن بمجرد أن استلمها سحب خنجرا وهمّ بطعنه.. إلا أن السائق كان أسرع منه في جرد سكين من نطاقه ورماه به ليصيبه في عنقه، ومن ثمة ارتمى إلى داخل العربة، وغادر المكان على وقع صيحات وصراخ وولولة من بعض أبناء الحي:

-“إرهابي .. إرهابي قاتل.. أبلغوا الشرطة.. عن إرهابي.. قا ..”

التفت السائق إلى البحيري بجواره، وقد دفن رأسه بين يديه:

– “لا عليك.. حافظ على هدوئك، ولا تزح عنك العباءة حتى لا يشتبه أحدهم في أمرنا..”.

البحيري مغمغما: “لكن.. لكن لماذا لجأت إلى إراقة…”

قاطعه السائق في فورة غضب:

– “ماذا كنت تخمن لو لم ندافع عن أنفسنا.. هلا رأيت نصل السيف الذي استله من تلابيبه ؟!”.

مخالب التطرف

بمنطقة جبلية نائية شبه خلاء أسفل سفح ينتهي بمغارة معتمة، انتصبت ثلاث خيمات متجاورة، وفي ركن هناك بدت دراجة نارية حمراء بمقعدين، وبالقرب من باب المغارة توارى خلفها جرف مكسو بالحشيش، ينتهي بساحة ضيقة؛ اتخذ منها رهط من الفتيان ميدانا للتدريب على الرماية بالحراب الدقيقة السامة، يتوسطهم شخص غليظ البنية ذو بشرة سوداء، لا ينفك عن الزعيق كلما لاحظ أحدهم أخطأ الهدف، كان من بينهم فريد ابن البحيري بصدرية بنّية ذات حمالتين مشدودتين إلى نطاق محشو بالرصاص..!

فجأة يتوقف زعيق الأسوَد على وقع رنات هاتف لاسلكي:

– “آلو.. آلو.. نعم.. نعم.. لقد تحسن أداؤه، يمكن الاعتماد عليه الآن في تنفيذ المهمات”.

– “لا..لا .. هم حاليا خاضعون لشحذ المعنويات، لقد أصبحوا يزدرون كل أفعال الكفرة، ويميلون إلى عمليات انتقامية، حتى ولو كلفتهم حياتهم..”.

– “أي.. نعم.. لديهم استعداد ملحوظ للانقضاض على الخصوم..فقط ..”.

يقاطعه بصوت أجش:

– “قريبا.. ستتوصلون بالذخيرة الكافية.. وتعيين مكان العملية وتوقيتها.. أقفل”.

نهاية تراجيدية

غدا البحيري؛ في غضون بضعة أشهر؛ مكلفا بالاتصال بأعضاء التنظيم السري، لم يكن قد تعرف بعد على سحناتهم أو وجوههم، فقط يدير أرقامهم ثم يبلغهم بقرارات التموضعات وعمليات اقتحام شبابيك الأداء، وابتياع الذخيرة وتسلمها… دأب على هذا الحال لمدة، كانت كافية ليتذكر نبرة كل صوت على الهاتف مقرون باسم صاحبها، بيد أن ابنه لم يبرح باله، فقد كان منشغلا به؛ في غدوه ورواحه؛ كلما أثار موضوعه مع قاطني المسكن دعوه إلى الاطمئنان وأن “الجماعة” فقط تتحين التوقيت المناسب ليلتئم شمله.

وفي ساعة متقدمة من ليلة الجمعة، تلقى البحيري مكالمة بلغة؛ لمس فيها إلحاحا غريبا لم يألفه من قبل:

– “سجّل لديك هذه الأرقام، قم فورا بالاتصال بأصحابها وأبلغهم بالنزوح إلى حظيرة الحافلات؛ تابعة لفندق السلام وسط المدينة”.

أخذ يتنفس لاهثا، وهو يتلقى ويسجل رقما إثر آخر… كانت عبارة عن ثلاثة أرقام جديدة؛ لم يألفها من قبل، فاحتار في أمرهم وامتلكه إحساس غريب بخلية تترصد تنفيذ عملية ما، فكان أن توجه من فوره إلى باحة الفندق، وتسلق جدارا هناك ليربض خلفه، وحواسه كلها موجهة صوب الباحة، ومن ثم إلى جمهرة من السياح ينتظرون الصعود إلى الحافلة، كان يتفحص وجوه السابلة العابرين الراجلين منهم والمتسكعين والشاردين…، مضت قرابة الساعة دون أن يكون في المشهد ما يلفت انتباهه، لكن ما إن تراجع إلى الخلف يريد مغادرة المكان حتى لاحظ من زاوية ضيقة دراجة حمراء تحل بالمكان؛ تقل على متنها شخصين أحدهما كان يتمنطق بحزام أسود، ولشدّ ما أخذته الصدمة وهو يمعن النظر في هذا الشخص، فأطلق من فوق صرخات مدوية تحولت إليها أنظار الجميع:

– “فريد.. فريد.. فريد.. لا.. لا هذا أبوك يدعوك إلى العدول… لا.. تفعل.. فريد.. أنا..”.

لم يتمّها حتى باغتته رمية أصابته في عنقه فخرّ من فوق إلى الأسفل فاقدا للحركة. ضجّ المكان بصيحات الاستغاثة.. فيما أطلق الدراجي ساقيه للريح وسط حشود بين باك ومغمى عليه، كانوا مذهولين لوقع الصدمة.

يسدل الستار على

خطا خطوات متثاقلة باتجاه جثة البحيري، انحنى وجعل يتفرس وجهها والدموع لا تفتر تنهمر على خديه، أغمضه، ثم انهال عليه بلثمات باكية، ردّد بحشرجة متقطعة: “أي.. أبي.. أبي.. اسمح لي.. أبي.. لن أدعك تسافر لوحدك..”، قالها ثم نهض واقفا ونكص على عقبيه ، يجيل نظره في رقعة السماء، وما هي إلا لحظات رهيبة حتى فك حزامه فانفجرت عبوات أردته أشلاء…!!

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.