عبد اللطيف مجدوب
بيئة القصة
القصة مستوحاة من شريط سينمائي بعنوان “إجراءات استثنائية” Extraordinary Measures، تقوم وقائعها على أحداث حقيقية؛ تضمنها كتاب “العلاج” للكاتبة جيتا أناند، Geeta Anand. تدور حول باحث في علم الأنزيمات، لجأت إليه أسرة مكلومة، جراء إصابة ولديها، حاول الباحث تخطي حواجز كثيرة لإنتاج الدواء؛ رغم جشع شركات تصنيع وتسويق الأدوية، كما جازف الأب بكل ممتلكاته، وخاطر بحياة ولديه لتجريب العقار، في ظروف جد عصيبة وتراجيدية!
كان يقضي سحابة يومه منزوياً في ركن من منزله الريفي المشرف على ساحل صخري؛ أشعث الشعر؛ حاد الناظرين؛ مهلهل اللباس، لا يفتر عن تصفح رزم أوراق وملفات، يستتبعها بخربشة معادلات رياضية معقدة على سبورة تفاعلية هناك، يعيد تركيبها بين الحين والآخر، وكلما استشعر لغزاً أو عنصراً نشازاً بينها وبين أخرى معروضة على شاشة حاسوبه، سارع إلى توليع غليونه، وأشاح بنظره عنها صوب شرفة المنزل، ومن خلالها؛ يأخذ في تأمل أمواج البحر وهي تتكسر على الصخور.
كان قد اشتهر؛ بين زملائه في معهد الأبحاث الطبية بالبروفيسور م. إدواردو المشاغب، لمناهضته جل الدراسات في حقل طب الأنزيمات، والتشكيك في نتائجها، ما حمل مجلس الإدارة على فصله عن مزاولة نشاطه بالمعهد… وبينما كان ذات يوم غارقاً في تأملاته؛ تحت وقع صخب موسيقى السامبا الأثيرة لديه؛ انتهت إلى مسامعه طرقات حادة على الباب، مصحوبة بنداء صارخ:
“إدواردو… إدواردو..!”
فتح الباب في وجه شخص؛ قرأ في عينيه لمحة استغاثة، فبادره:
“من تكون، حتى تقتحم خلوتي بهذا الشكل..؟”
أخذ الرجل يبتلع ريقه، لاهثاً قبل أن يرد:
“سيدي؛ سيدي.. إدواردو.. أدرِكني.. لدي ولدان في عمر الزهور، يعاني كل منهما من مرض غامض؛ أفقدهما بالتدريج حركية أطرافهما السفلى مع صعوبة الإمساك بالأشياء…”
قاطعه إدواردو بلهجة حادة، حتى احمرت أوداجه:
“..أولاً.. كان عليك الاتصال بي هاتفياً، بدلاً من أن تكلف نفسك عناء اجتياز هذه المسافة الشاقة، ثانياً.. أنا لست طبيباً معالجاً، فأنا باحث..”
بدا الرجل في حالة يأس، كمن يحاول أن يكظم غيظه وخيبة أمله:
“..لكن يا مستر إدواردو.. أطباء عديدون وصفوا لي هذه الأعراض بأنها متصلة بأنزيمات نادرة في الأسواق، وغير مضمونة الفعالية، وأشاروا علي بلقائك..”
التفت إليه بنظرات غامضة، ثم أمسك بمقبض الباب:
“الزيارة انتهت، لدي برنامج مكثف، وليس لدي ما أفيدك به، ونصيحتي أن تتعهد أبناءك بالرعاية السياحية.”
حوار يائس بين أبوين
كان الأب يشتغل عضواً في شركة تسويق المعدات الطبية؛ تغطي أسواق أمريكا وأوروبا، لا يكف عن الترحال الجوي، جائبا أكابر الحواضر والمدن، إلا أن نشاطه هذا خف كثيراً، بعد أن علم بمرض ولديه، فاستعاض عنها بالتنقل بين المنتزهات، أملاً في تحسن حالتيهما، بينما زوجته لم تكن لتكف عن اتصالاتها عبثاً بأطباء خبراء، ولو أنها تحاول رسم ابتسامة ذابلة على محياها، كلما دنت من نقالتيهما، فجعلت تنادي زوجها بلادلو:
“..بلادلو..! ألم يتصل بعد صاحبك الأحمق إدواردو؟”
“..كلا.. كيف..؟ لقد طردني من منزله.. لا أعتقد بوجود بشرى؛ يمكن أن تأتينا من ذلك الأخرق..”
بينما كانت الأم منهمكة في إعداد شراب المانجو والبامو المفضل لدى أبنائهما، إذا بها بغتة، تسمع أنين ابنتها الكبرى:
“..ماما.. ماما..! يدي.. اليسرى.. تخدرت.. أصابعي.. لا أطيق تحريكها… ماما..”
هرولت إليها، وأمسكت بيدها محاولة تمسيدها بلطف.. بينما كان قلبها يعتصر ألماً، ولم تقوَ على إخفاء دموعها، فحانت منها التفاتة إلى زوجها، وكأنها تبحث عن مواساة لها:
“..أرأيت..؟! ..حتى اليد اليسرى.. أليس بموت شرع يدب إليها.. رباه!”
في حين كان زوجها منشغلاً باتصال هاتفي، جعله؛ لوقت طويل؛ يمشي ذهاباً وجيئة في الحديقة.
أمل في أفق غامض
أسفرت محادثته الطويلة مع إحدى كبريات شركات تصنيع أدوية الأنزيمات عن استعداد هذه الأخيرة لتبني أي بحث يقود إلى تطوير العلاج بالأنزيمات Enzymotherapy، وأن هناك نقصاً في الأنزيم الخلوي المسؤول عن توليد الطاقة لدى الإنسان، وبعد تردد طويل، اتصل بالبروفيسور إدواردو، مؤملاً استدراجه إلى عالم “البزنس” Business:
“..آلو.. البروفيسور إدواردو.. سعيد بلقائك، لكن رجاءً، اصغِ إليَّ وامنحني قليلاً من وقتك…”
إدواردو يولع غليونه، وينفث منه نفساً عميقاً:
“..ما حملك على الاتصال برجل بعيد عن انشغالاتك..؟!”
“لا.. لدي عرض جد مهم… يتعلق الأمر بأنزيم خلوي؛ تشكو الأسواق الصيدلانية من ندرته…”
قاطعه إدواردو بلهجة استعلائية:
“… لا أريد أن أجازف، وأقذف بثمرة جهود سنوات من البحث إلى مختبرات غير مؤهلة..”
“هناك ضمانات بأن تكون أنت من يتولى الإشراف على هذا المختبر، وتتبع مراحل التصنيع…”
إدواردو، منتشياً بعد صمت قصير:
“..لكن مقابل ماذا..؟ فأنا أعلم بجشع شركات تصنيع الأدوية وألاعيبها في الأسواق..”
“لا أقول لك بكم أنت مستعد لبيع براءة اختراعك.. لكن دعنا أولاً نجرب، ولدي اليقين بأن الشركات ستتهافت عليك، آنئذ، لك الحق في تحديد المقابل..”
إدواردو وتجهيز المختبر
بأمل كبير، كان يحدوه ليل نهار في إنقاذ ابنيه، أقدم بلادلو على قرض مبلغ كبير، والاستدانة من كل أفراد عائلته، كفاتورة لتجهيز مختبر، بغاية تصنيع الأنزيم المنشود، كما قام برهن منزله، في حال عجزه عن الأداء، وهكذا تولى إدواردو اقتناء كل أدوات ومعدات المختبر، بطاقم عشرين عاملاً في كيمياء السوائل؛ كان يطوف عليهم، وهم منكبون على أنابيبهم وحواسيبهم، يحثهم على مضاعفة الجهود ليكون الأنزيم جاهزاً في غضون ثلاثة أشهر… لكن؛ ولعطب ما في أجهزة التوليد الكهربائي جراء صاعقة رعدية ضربت المنطقة؛ توقفت السوائل في الأنابيب، فجُن جنون إدواردو وراح يصرخ في الظلام:
“… كيف… مجهود شهرين سيحترق؟! ..إلهي.. إنها كارثة… فإذا لم يتجدد الأوكسجين داخلها خلال نصف ساعة سيُدمّر كل شيء.. ونخسر قرابة المليار دولار.. وسينتهي مصيرنا في الزنازن..”
فاستقل بعضهم سياراتهم، تحت سيول جارفة من الأمطار؛ في اتجاه مركز للتسوق.. فعثروا على مولد كهربائي؛ بطاقة جد عالية؛ ومضوا به عائدين، وقد تركوا ساعاتهم رهينة لحين تسديد ثمنه، ولحسن حظ إدواردو، إذ لم يستفق من هول الصدمة حتى وجد الأضواء عادت إلى المختبر، وقد استأنفت السوائل حركتها داخل الأنابيب بعد أن شارفت على التخثر والتجمد.
لجنة تصنيع الأدوية
من بروتوكولات منح براءة أي اختراع أو ابتكار دواء، أن يمر صاحبه أمام لجنة؛ تضم في عضويتها ممثلين عن المعهد العالمي لتصنيع الأدوية ومركز التسويق ومندوبين داخل منظمة الأمم المتحدة للصحة العالمية، وهكذا ضربوا لإدواردو موعداً للحضور أمام لجنة مختصة في تصنيع الأدوية، منهم؛ من كان يعرفه مسبقاً كباحث عنيد، ومنهم من اتصل به؛ في الخفاء؛ للدفاع عن “أنزيمه” لقاء التنازل له حصة في السوق الدولية.
استهل رئيس اللجنة أشغالها؛ في كلمة مقتضبة؛ بالإشادة بعمل اللجنة في ضمان فعالية الأدوية وتسويقها، ثم ختم كلمته متوجهاً إلى إدواردو:
“الدكتور إدواردو؛ هل أنت واثق من عملك هذا؟ إنك تعلم أنه في حالة تبنيه؛ سيتوجه إلى ملايين المرضى في أنحاء العالم، وشهرة اللجنة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بمدى فعاليته..”
إدواردو؛ بنظرات ناقمة وصوت متهدج:
“..لقد اشتغلت عليه طوال عشر سنوات، فكيف لا أكون واثقاً من عملي..؟!”
أحد أفراد اللجنة، يهم باستعمال نظارته الطبية، ويتفحص كومة أوراق أمامه:
“..لدي سؤال محدد، من أين ستستخرج هذا الإنزيم، أو بعبارة أوضح، ما هي العناصر التي ستعتمدها في استخلاص دوائك؟”
“طبعاً من عناصر حيوية؛ متوفرة في أكباد الحيوانات..”
أحدهم، مقاطعاً:
“..بروفيسور إدواردو، إذا سلمنا بطول خبرتك كباحث ومنتج لهذا العقار، فمن أدْرانا بسلامة أو مرض هذه الحيوانات، حتى نوظف أكبادها..؟!”
في هذه الأثناء، لم يطق صبراً، فانفجر في أفراد المجلس غاضباً:
“..أنا لا أبحث عن شراء براءة، ولا أحلم بالمجد والشهرة والمال.. بقدر ما أبحث عن إنقاذ أرواح بشرية.. فأنا زاهد في عملكم، وأعلم مسبقاً أن ابتكاري لهذا العقار سيخلق منافسة شرسة في الأسواق، لكن البقاء للأقوى والأنفع، وليس البقاء لمن يدفع أكثر…”
ثم لملم أوراقه وغادر القاعة.
تجربة محفوفة بالمخاطر
للتو، وبعد مغادرته لمقر اللجنة، وجد في انتظاره عند سيارته المهترئة بلادلو، فسارع هذا الأخير إلى محاولة مؤازرته وثنيه عن عدم تعاقده مع لجنة التصنيع، ولكن؛ وعلى حين غرة؛ سيفاجؤه بالقول:
“..البروفيسور! إنك تعلم أني أنفقت كل شيء أملكه في سبيل حياة ولدي، وفي هذا المسعى؛ فأنا مستعد لأضعهما معاً تحت محك تجربة أنزيمك… حتى ولو تعذر العثور على كائنات مماثلة كفئران اختبار..!”
البروفيسور، ما زال في حالة غليان، جراء وقائع أشغال لجنة التصنيع، فاستقل سيارته وأقلع بسرعة جنونية، مخلفاً وراءه هذه الكلمات:
“..أوغاد.. وحوش.. لا همّ لهم سوى الربح…!”
يسدل ستار القصة على
قاعة فسيحة تضم سريرين متجاورين، جيء بنقالة كل طفل فاستقل كل بسريره، ظهر البروفيسور إدواردو بلباس طبي معقم، أعطى إشارة إلى مساعد له بربط أنابيب ووصلها بصمام تجاه محقنة؛ مثبتة بعناية على ساعد كل طفل… بينما بدا؛ في الجهة الخلفية وراء ستار زجاجي عازل؛ يقف الأبوان، وقد تسمرت أنظارهما على الطفلين، يتابعان بقلق شديد حركة كل منهما.
تحرك السائل في الأنابيب ببطء، وشرع تحقينه في الأوردة، كان الطفلان خلالها في حالة شبه غفوة… ثم تحولت إلى سكون مريع… لكن ما لبثت أن استحالت إلى دغدغة فضحك.. وقهقهة… وفي ذهول باد سأل الأب:
“رباه… ماذا أرى… هل هي مقدمة لمغادرة الحياة…؟!”
خرج إليه البروفيسور إدواردو، فربَت على كتفه:
“…أتعلم معنى هذه القهقهات..؟ ..إنه مفعول الإنزيم الذي وصل إلى مرحلة تنشيط الأنسجة الكبدية، وتوليد الطاقة… لننتظر قليلاً؛ حال استنفادهما للإنزيم السائل وفصلهما عن الأنابيب؛ ونتحقق أكثر..”
ولصدمة المفاجأة؛ وتحت ضغط حالة الترقب؛ أخذت الدموع تنساب بغزارة على خدي كل من الأب والأم، وهما يعاينان باندهاش منقطع النظير عودة حركة أطرافهما بعد أن كان المرض قد شلهما… وأصبح في مقدور كل منهما التخلي عن النقالة والمشي.. لتحتضنهما أيادي أبويهما، وتغمر الجميع دموع الحياة!