- نزار بولحية
ما الاحتمال الأكثر واقعية والأقرب اليوم للتحقق؟ الصدام المباشر والوشيك بين الجارتين المغاربيتين؟ أم المصالحة القريبة بينهما؟ عديدون يضعون أيديهم على قلوبهم ويتخوفون من انجرار البلدين بين لحظة وأخرى إلى الحرب. غير أن قليلين فقط يثقون في أنه بالإمكان حدوث انفراج سريع في علاقاتهما. لكن ما الذي بقي فعلا بين الجزائر والرباط، بعد أن شلت أواصر القربى وتأثرت روابط الجيرة التي شدتهما الى بعضهما بعضا، ولم يعد لها، كما تدل على ذلك كل الوقائع والشواهد، أي أثر أو مفعول على الحاضر؟ ولعل السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا هو، هل فقد الأمل تماما ونهائيا في أن يكون الجزائريون والمغاربة يوما ما جيرانا عاديين وطبيعيين؟
من الواضح جدا أن الأواصر والروابط التي لطالما وحدتهم، لم تعد حاضرة في أذهانهم، على الأقل بالقوة التي كانت عليها من قبل، فقد باتوا يتصرفون وكأنهم خلقوا في الأصل ليكونوا غرماء أبديين، وليعيشوا على طرفي نقيض في كل شيء. وما دأبوا على فعله في معاركهم وخلافاتهم يشكل نموذجا فريدا من نوعه في الشمال الافريقي. وقد يعده البعض صورة من صور العبث السريالي، فقد تجاوزت صراعاتهم كل حد، ولم تعد تستثني أي مسألة أو موضوع، حتى لو كان طبق كسكس أو زي رياضي.
ومن المؤكد أن التسابق والتلاحق بينهما على إظهار تمايز واختلاف كل واحد منهما عن الآخر يحتدم بقوة، وهو لا يكاد يهدأ، أو يخمد ولو لبعض الوقت. لكن ما الذي يعنيه ذلك في النهاية؟ هل إنه مؤشر جدي على أن القطيعة بين الجارتين المغاربيتين باتت حتمية ومؤكدة، وأنها صارت قدرا لا مناص من التسليم به، ولا مفر من قبوله، وبالتالي فإن الحديث عن مصالحة ممكنة، أو محتملة بينهما صار أشبه بمطاردة السراب، أو محاولة الحرث في البحر؟ لا شك في أن كثيرا من الأصوات باتت تتعالى في السنوات الأخيرة بالخصوص وعلى الجانبين، ترويجا لمزايا ومحاسن الفرقة، إما تحت ذريعة أن هذا البلد لن يكون في حاجة إلى الآخر، أو بدعوى أنها تبقى أهون وأخف ضررا من أن يصلا ـ لا سمح الله ـ إلى ما هو أدهى وأمر منها، أي إلى الحرب. وما يقوله هؤلاء هو، إن الوقت قد تأخر جدا الآن، ولم يعد مناسبا لأي محاولة في الاتجاه المعاكس، وإنه لم يعد هناك من جدوى لأي مسعى لتقريب وجهات النظر بين من يقدمان دائما في وسائل الإعلام على أنهما عدوان لدودان، لأن البون بينهما قد كبر واتسع، بشكل بات معه من الصعب جدا، بل ربما حتى من المستحيل على أي عمل أن يفلح في الحد منه. كما أن كل واحد منهما لم يعد يتورع عن القول إنه لا ينتظر ولا يتوقع من جاره، إلا السوء والشر، وإن الأسلم له في تلك الحالة هو أن لا يفتح الباب له مطلقا، وأن يحكم سد كل المنافذ بوجهه، حتى يتجنب ما قد يلحقه من أذى، أو يصيبه من مكروه، إن هو أقدم على تطبيع العلاقات معه، أو أعاد فتح الحدود التي تفصله عنه. لكن ما دليلهم على ذلك؟ وما الذي يجعلهم يجزمون مسبقا باستحالة حدوث أي تغير نوعي، أو أي انعطاف حاد في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، في الشهور والسنوات المقبلة؟
سيكون من الإجحاف أن ينظر إلى تلك الأحكام القطعية، على أنها جاءت وليدة اللحظة، أو أنها صدرت نتيجة الإحباط واليأس، دون العودة إلى أسبابها الأصلية والعميقة، فهي لم تصدر بشكل عرضي ولم تظهر بمحض الصدفة، أو تنبت من فراغ، إنها تخفي ودون شك إرثا ثقيلا من الهواجس والمخاوف والشكوك العميقة بين الطرفين، بل حتى من الصراعات والعداوات المكشوفة والدفينة. وذلك الأمر لا يمكن بأي حال أن يتم تجاهله، أو التغاضي عنه، لكن هل سيكون من المنطقي والمقبول حقا أن يشكّل قسم صغير ومحدود من الماضي وسيلة منصفة للحكم بشكل مطلق وباتٍ على المستقبل كله؟ وهل يمكن لبعض المواقف، أو الأحداث التي مرت وانقضت أن تحدد مصير أجيال لم تعشها، ولم تعاصرها، بل إن كل ما عرفته عنها هو ما سمعته من حكوماتها من روايات رسمية؟ إن أولى ضحايا ذلك الوضع هم بالتأكيد شباب البلدين، الذين قد يمثل الأمر بالنسبة لهم أحجية صعبة الحل. فهم لا يفهمون أبدا كيف أن شعبين متجاورين ومتشابهين في كل شيء وقريبين من بعضهما بعضا بمثل تلك الدرجة، يمكن أن يكونا على ذلك القدر من التباعد والتنافر والتباغض، وهم لا يستطيعون أن يستوعبوا أيضا كيف يتعامل السياسيون في البلدين بروح عدائية مكشوفة، وكيف تنفث وسائل إعلامهم سموم الحقد والكراهية بينهم، ثم تتحدث بعدها عن تقديرها واحترامها لما تطلق عليه الشعب الشقيق للبلد الآخر. إن تلك الازدواجية المخاتلة والمقيتة تبدو في نظرهم غير مبررة وغير مفهومة بالمرة. فكيف يكون هناك شعبان شقيقان داخل دولتين تتصرفان وكأنهما عدوتان أبديتان؟ وما الذي تعنيه في تلك الحالة إذن كل روابط العرق أو الدين التي تجمعهما، أمام استفحال مظاهر العداء والازدراء والكراهية التي تفرقهما وتدق إسفينا حادا وعميقا بينهما؟ لقد سبق لوزير الخارجية الجزائري أن قال قبل ما يقرب من أربع سنوات من الآن، حين قررت بلاده ومن جانب واحد قطع علاقتها الدبلوماسية مع جارتها الغربية، إن القنصليات في البلدين ستظل مفتوحة، ما يعني عدم تأثر الشعبين بذلك القرار، لكن من كان المتضرر منه في النهاية؟ ومن ما زال يدفع غاليا ثمن غلق الحدود بين البلدين، بل حتى منع الطيران المدني المغربي من عبور الأجواء الجزائرية؟ ربما سيقول البعض إنها أحكام السياسة، أو أن منطق الدول هو الذي فرض ذلك.
من المؤكد أن كل واحد من الطرفين سيتهم الآخر بأنه هو من بدأ الإساءة إلى روابط الجيرة، لكن إلى متى يستمر الدوران في حلقة مفرغة؟ وهل ستساعد مثل تلك الاتهامات حقا على التسريع بالوصول إلى تسوية ما، أم أن كل ما تفعله هو أنها تطيل أمد المشكل؟ لقد دخل البلدان في دوامة كبرى ليس من السهل عليهما الخروج منها.. ولا شك أن إعادة الثقة بينهما باتت تصطدم بعدة عقبات، لكن هل إن رفع الراية البيضاء والتسليم بالأمر الواقع سيكون هو الحل؟ حتى الآن لم ترد الجزائر على أكثر من إشارة إيجابية أرسلتها نحوها الرباط، ولم تنجح محاولات الوساطة بينهما. فما الذي بقي إذن؟ هل انتظار حدوث معجزة تجعلهما ينتبهان إلى ما يجمعهما من روابط ووشائج؟ ربما يفعلها الجزائريون والمغاربة ويكذبون بذلك كل التوقعات. لكن الى أن يحصل ذلك هل ينبغي الصمت؟ هنا بيت القصيد.
* كاتب وصحافي من تونس