فؤاد بوعلي
منذ أن تناقلت وسائل الإعلام العربية والدولية صورة السيدة اللبنانية التي عانقت الرئيس الفرنسي في شوارع بيروت المنكوبة شاكية ظلم حكام لبنان وراجية منه إنقاذ اللبنانيين من الوضع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي، تناسلت التأويلات تعبيرا عن هول الصدمة. الصدمة من الحالة التي وصلها المواطن العربي في علاقته بالدولة الوطنية والتي عبرت عنها بشكل جلي العريضة الموقعة من قبل العشرات تدعو إلى عودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان. هذا الحنين الذي عبّر عنه الإعلامي ميشل كيك وهو يقدم وصفا لزيارة ماكرون كأنها زيارة فاتح ومنقذ، وليست زيارة رئيس دولة أجنبية: “يكفيك ويكفينا فخرا ماكرون أنك سمعت غضب الموجعين في الشارع، نزلت إلى أحيائهم المتضررة، حضنتهم وقبلتهم حتى لو من فوق الكمامة ولم تخف على حياتك من خطر الكورونا، فهي ليست أهم من قهر شعب بكامله..”.
فكيف وصلنا إلى هذا الدرك؟ ومن المسؤول عن تحول المزاج الشعبي من الدفاع عن الوطن إلى الارتهان في فلك المستعمر القديم الجديد؟ وهل استنفدت الدولة الوطنية أدوارها؟
تثار، منذ مدة طويلة، في منتديات السياسة والفكر، مسألة اللجوء إلى الوصاية على بعض الدول “لحماية شعوبها من اضطهاد حكامها، أو تخليصها من أتون الحروب الأهلية والصراعات العرقية. وقد ذهب البعض إلى الدعوة إلى عودة الاستعمار على ما يحمل من سلبيات؛ لأنه يبقى أقل شراً مما يحصل في بعض هذه الدول من انتهاك مستمر للحقوق المدنية والسياسة”. فما حدث في العديد من الدول الإفريقية والعربية يقدم دعما واقعيا لهذا الطرح، حيث الضحايا في صراع الأطراف الداخلية يفوق ما سقط في الحروب مع الخارج؛ فالضحايا في صراع الفرقاء في أفغانستان والعراق والصومال ورواندا فاق بالأرقام سنوات الغزو الكولونيالي لهذه الدول. وقد استندت الدول الاستعمارية على هذا المعطى لتبرير تدخلاتها المختلفة في شؤون الدول. وبالطبع، كانت المواجهة ضد هذا الغزو شعبية وسياسية يشارك فيها الشعب بكل مكوناته، والدولة من خلال مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية؛ لكن الصدمة اللبنانية نبهتنا إلى صورة مخالفة حيث الشعب، وإن فرضنا قلة عدد الموقعين على العريضة، فقد الثقة في الدولة ونخبها واعتاض عنها بالآخر المستعمر. فأمام هول الواقع المرير الذي يعيشه المواطن، وضيق ذات اليد، والحصار الفكري والسياسي على المجتمع، وهيمنة طبقة تجمع بين السلطتين السياسية والاقتصادية مسوقة لعموم الشعب أوهاما حول السيادة والوطنية والمقاومة والوحدة وغيرها، لم يعد أمام المواطن إلا البحث عن الملجأ. أكثر من نصف قرن كان كافيا لتختل الموازين وتغير البوصلة وجهتها.
لا ينبغي أن نلوم الشعوب على خطايا الساسة، وغير مقبول استعمال مفاهيم التخوين للحديث عن الحالة الراهنة، أو نصب المشانق للمستنجدين بالآخر. فالسيادة الوطنية هي عنوان للانتماء المشترك بين القائد والمواطن، وليست خطابا موجها إلى الأخير لإجباره على الطاعة وتنفيذ الأوامر؛ لكن الأكيد أن خطاب الانتماء الوطني الذي حرف عن مقصوده ليس جديدا بل هو صناعة عبر مسارات متعددة خلقت جيلا ينظر إلى المستعمر نظرة تبجيل ويقدم الذات من خلال تشوهاتها المختلفة. فالارتماء في حضن المستعمر ليس خيارا مجتمعيا بل هو خيار الدولة القطرية ونخبها.
فمنذ الاستقلال، حين كانت الشعوب تراهن على المزايلة عن الاستعمار فكرا وسلوكا وتربية، كانت الحكومات المتتالية تتنافس في تجسير العودة إلى اللحظة الكولونيالية فكريا وسياسيا واقتصاديا. فمن يقدم خيرات الوطن الاقتصادية للشركات الأجنبية وفق نمط “تخارجي” لا يعترف بالقدرات الذاتية للوطن، ومن يفرض الفرنسة على التعليم والثقافة ويجعل المدارس الوطنية ملحقة بالمركز الباريسي، ومن يسلم الوطن إلى حزب فرنسا المتسيد للقرار السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي، ومن يراهن على تمزيق اللحمة المجتمعية تحت دعاوى التعددية الإثنية واللغوية والدينية حتى غدونا دولا متفرقة وجدانيا وإن جمعتنا ورقة التعريف الوطنية، ومن يقدم أبناءنا هدية للمؤسسات الجامعية الأجنبية وحين العودة يكونون محملين بقليل من التقنية وكثير من قيم الولاء للمركز… ومن يراهن على الآخر لضمان وجوده… لا يحق له أن يصدم من هول انفجار بيروت الذي فضح نتوءات الذات. لذا، لا تلوموا الشعوب على ارتمائها في أحضان المستعمر، فلكل بداية نتيجة.