سالم الكتبي
“الجهاد اللامركزي” مصطلح أطلقه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في توصيفه لحالة تنظيمات الإرهاب وخطورتها في الوقت الراهن، وهو توصيف ليس مبتكراً ولا جديداً لأن الإرهاب قد تحول منذ سنوات طويلة مضت إلى “مظلة” تعمل تحتها عشرات التنظيمات التي تتقاتل حيناً وتتنافس حيناً وتصطف وراء أهداف ومصالح ضيقة أحيان أخرى، ولكنها جميعاً تعمل ضد سيادة الدول وتقوض الأمن والاستقرار العالمي.
“الجهاد اللامركزي” يرتبط أيضاً بممارسات “الذئاب المنفردة”، التي انتشرت في السنوات الأخيرة في كثير من الدول، حيث يقوم بعض الأفراد الذين يتم تجنيدهم افتراضياً بتنفيذ عمليات إرهابية محدودة بوسائل وقدرات بسيطة ومن دون تنسيق مباشر أو تلقى تعليمات محددة من تنظيمات الإرهاب، ولكن عمليات هذه “الذئاب المنفردة” تخدم استراتيجيات تنظيمات الإرهاب بقدر أكبر من الهجمات المنظمة التي تشنها عناصر هذه التنظيمات في ساحات القتال بدول مثل سوريا وليبيا والعراق وغيرها، فهي عمليات تنفذ في قلب مدن وعواصم كبرى وتنال من هيبة الدول وأجهزتها الأمنية وتنشر قدراً كبيراً من الذعر والهلع والخوف بين الشعوب.
“الجهاد اللامركزي” يرتبط أيضاً بالفكرة أو الأساس الفكري للظاهرة الإرهابية، حيث بات هناك رأسين للإرهاب في العالم هما “القاعدة” و “داعش” وكل منهما يمتلك رؤية مختلفة عن الآخر في ممارسة الإرهاب، وكل منهما لديه أتباعه ومتعاطفون ومناصرون وفروع تنظيمية في دول مختلفة، من خلال “البيعة” التي تضمن الحد الأدنى من الولاء التنظيمي للفروع بالإطار الفكري والتخطيطي للتنظيم الأم.
الحقيقة أن “الجهاد اللامركزي” أخطر بمراحل من الجهاد المنظم الذي يعمل تحت مظلة تنظيم واحد، فأي تنظيم إرهابي، كبير أو صغير يحتاج أربع عناصر محددة هي قيادة ومقاتلون وموارد وأيديولوجية، والعنصر الخامس الخاص بالأرض لا يمثل ضرورة ملحة لمعظم التنظيمات سواء لأن بإمكانها العمل سراً، أو لأن الكثير منها يعمل وفق تكتيك حروب العصابات التي لا تحتاج إلى ساحات عمليات وتدريب ظاهرة بل يمكن التخفي والتنقل والترحال بين مناطق مختلفة.
فكرة الأرض برزت بشكل كبير مع تنظيم “داعش” من خلال ماعرف بأرض الخلافة المزعومة، التي سيطر عليها التنظيم واعتبر أنها “دولة” بحكم وجود أرض وموارد وبشر، ولكن هذه ليست المقومات الأساسية لبناء الدول، فالحكم بالأكراه ومن دون عقد اجتماعي توافقي لا يمكن اعتباره دولة مهما توافرت الموارد أو تكاثر الاتباع!
وقد توقع تقرير صادر عن جهاز مراقبة تابع لوزارة الدفاع الأمريكية تقول أن تنظيم “داعش” قادر على أن يعاود نشاطه في سوريا خلال ستة إلى 13 شهراً ما لم تستمر الضغوط العسكرية وجهود الملاحقة ضد عناصر التنظيم، وهذا صحيح إلى حد كبير في مجمله بغض النظر عن المدة الزمنية المحددة للعودة، والأرجح أيضاً أن ينتقل فلول التنظيم إلى دول وساحات قتال أخرى تتسم بغياب الدول وانتشار الفوضى والأمن للسيطرة عليها وتنفيذ منطق التنظيم في الحكم وفق نظرية “إدارة التوحش” التي اتخذ منها البغدادي أساساً لحكمه المزعوم في العراق وسوريا خلال السنوات الفائتة.
مرحلة “الجهاد اللامركزي” تعني إمكانية انتشار خطر الإرهاب وتوسعه عالمياً وهذا بحد ذاته قائم إلى حد كبير سواء من حيث الانتشار النسبي المحدود لأفكاره او تنظيماته التي تفشت في أجزاء من افريقيا والمنطقة العربية، ومع ذلك فالحقيقة أن هناك انحسار في خطر الإرهاب خلال السنوات الأخيرة، في ظل الضربات القوية التي تلقاها في دول ومناطق مختلفة، ولكن الإشكالية في بقاء جذوره وأساسه الفكري فضلاً عن أن استمرار الأزمات والصراعات في مناطق ودول مختلفة يسهم في تغذية التطرف والإرهاب.
المفترض إذا ألا تتوقف جهود مكافحة الإرهاب على الضربات العسكرية والأمنية، بل يجب أن تتوجه أيضاً إلى عاملين مهمين أولهما تجفيف منابع التمويل واتباع الحزم والصرامة مع الدول والأنظمة التي تقوم بتمويل تنظيمات الإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر أو تمتلك أي علاقات من أي نوع مع هذه التنظيمات سواء تمثلت هذه العلاقات في تجارة عبر وسطاء او شراء نفط أو غير ذلك من أساليب التمويل التي توفر الاوكسجين للإرهاب وتمنحه القدرة على البقاء والاستمرار، والعامل الثاني هو انهاء النزعات والصراعات والأزمات في مناطق ودول العالم المختلفة.
الجهاد اللامركزي مرحلة أخطر من سابقتها لأسباب عدة أولها أن تنظيمات موالية لداعش في افريقيا وغيرها باتت في حل من “البيعة” بعد انفراط عقد التنظيم الأم وانهيار دولته المزعومة، وبالتالي فإن هذه التنظيمات ستسعى إلى بناء أدوار أكبر وتنمو لديها تطلعات وطموحات في خلافة التنظيم عالمياً، لاسيما وقد رأت هذه التنظيمات أن “داعش” كان يسيطر على مساحات أرض تعادل مساحة المملكة المتحدة على سبيل المثال، ويحصل على إيرادات مختلفة قدرتها بعض المصادر البحثية بنحو مليار دولار سنوياً!