الأستاذ عبد اللطيف مجدوب : من نوادر عمي المختار حفار الآبار..

admin
كتاب واراء
admin14 فبراير 2022آخر تحديث : منذ سنتين
الأستاذ عبد اللطيف مجدوب : من نوادر عمي المختار حفار الآبار..

عبد اللطيف مجدوب

… كان نحيفا ذا وجه ناتئ الوجنتين وعينين غائرتين بحاجبين كثتين، إذا أقبل عليك من بعيد خلته شبحا يتربص بك الدوائر؛ اشتهر عند أهل الحي بلقب “الجنّ البيّار” لحرفيته فوق العادة في حفر الآبار وسبر أغوارها، قلما كان يعرف للراحة معنى سوى إذا آوى لفراشه ليلا لينام أربع ساعات أو أقل لشدة ارتباطاته بمواعيد حفر؛ تضطره أحيانا للغياب عن منزله أسابيع كاملة.

وفي لقاء خاص أفردني به بغية الحفر في ذاكرته والتنقيب عما علق بها من ذكريات ونوادر عن آبار تجاوزت الخمس مائة؛ منذ تعاطيه لحرفة “التبيّارت” وهو ابن الثلاثين سنة =.

استوى على أريكة مهلهلة متقادمة مغشاة بقطع جلود ماعز ذات ألوان معفرة ضاربة إلى البني الترابي، وقبل أن يخوض في الحديث تلمّض بشفتيه وثبّت بينها لفافة عشبة كيف؛ ولعها وعبأ منها نفسا عميقا؛ لم أدر بعد أين انزاح دخانها، ولم يلبث أن طفق يقول:

النادرة الأولى: سوق للجن

جرت عادتي في بداية كل مشوار أن أشرع في ترسيم الثلاثة أمتار الأولى عند الفجر، لتتوالى الأشغال مع مساعدين بقية النهار.

حفرت عمقا بمقدار متر؛ على ضوء قنديل باهت؛ وفجأة سأصعق حينما لاحظت وميضا يشع بين رجلي؛ بدا كما لو كان لسائل أخذ ينزف بين الأتربة، انتابتني دهشة سرعان ما تحولت إلى هول ورعب حينما تراءى لي؛ على ضوء فنار رأسي؛ سائل أحمر قان! خرجت من الحفرة وناديت أحد مساعدي من داخل خيمة منصوبة هناك: “آلعربي..! آلعربي..”، فالتحق بي ثم نزل إلى الحفرة، فلم يجد أثرا لأي سائل هناك، على أن تستأنف أشغال الحفر والتجويف، وفي الليلة الموالية، وعلى عمق 15 خمسة عشر مترا، سمعنا صيحات حادة صادرة من جوف البئر؛ شبيهة إلى حد كبير بمواء هر يتضوع ألما، نعم مواء.. في مواء؛ كان يتردد صداها داخل التجويف العمودي للبئر، ولما سلطنا الأضواء الكاشفة على الحفرة، اختفى الصوت ولذنا بخيمتنا ننتظر ضوء النهار.

صمت عمي المختار قليلاً قبل أن يستطرد: عدلت نهائيا عن الاستمرار في أشغال الحفر.. حينما علمنا من أحد شيوخ القبيلة بأن المكان عرف اختفاء أناس كثيرين، ويقال بأنه سوق ليلية تقصده فيالق الجن كل يوم أحد للتبضع!

النادرة الثانية: الصحراوي البوهالي

التحق بي عامل بوعلي الصحراوي؛ اتخذت منه ساعدي الأيمن لحرفيته النادرة في التعرف إلى مستويات أعماق المياه الجوفية والأمكنة الأنسب للحفر والتنقيب عن الماء، وكم كان يحلو له الاشتغال في الأعماق بواسطة الجرافة اليدوية، كان صبورا على تحمل درجات الرطوبة وقلة الهواء. ذات ليلة خرج من البئر منشرح الأسارير يردد: “نحن فقط على بعد متر أو مترين من الوصول إلى الماء، لقد سمعت منذ قليل هديرا اصطكت له مسامعي مع ارتدادات تحت أرجلي..”.

لكن (.. توقف عمي المختار يكفكف دموعه).. لما عاد إلى قاع البئر وجاء الصباح استيقظنا على أصوات خرير مياه تفور من فوهة الجب.. لتنساب على حافته سواقي وبركا… عين ضخمة بقطر متر ونصف وعمق يزيد عن ستين مترا… استبشر أهل القرية بواقعة العين، وأخذوا يتدفقون ويتدافعون للوقوف على شفيرها والاستسقاء منها. أما المسكين الصحراوي فلم نعثر له على أثر سوى فردة حذائه اليمنى؛ طوّحت بها المياه إلى خارج العين، وقيل لنا فيما بعد إن أحدهم عثر عليه حاسي الرأس حافي القدمين متسكعا في أحد أزقة مدينة فاس؛ لا يلوي على شيء، يرميه الأطفال بعبارة: “.. الصحراوي البوهالي.. الصحراوي البوهالي!”.

النادرة الثالثة: مياه قاتلة!

ومما زال عالقا بذهني؛ أستحضره بين الفينة والأخرى؛ حادث حفر بئر بعمق يزيد عن سبعين مترا، فكلما أقبلنا على مزيد من الحفر وتجريف التربة كلما احتدت رائحة خاصة كانت تنبعث من حواشي التجاويف الصخرية؛ لا هي برائحة معدنية ولا سائلية.. ومخافة من اصطدامنا بنهر جوفي قمنا باستدعاء خبير في سبر الأغوار والتعدين، وأحضرنا له عينة من تلك التربة النيئة، لكن لم يبد أية ملاحظة واعتبر الأمر طبيعيا، طالما أن التكوين الجيولوجي للمنطقة لا يحمل أية مؤشرات استثنائية، كان لدي ثلاث مساعدين، أحدهما يعمل بالحفارة اليدوية والثاني يتولى كشط جنبات البئر وتعبئة قفاف الأتربة، أما الثالث فكان واقفا على فوهة البئر ممسكا بالبكرة والأسطوانة، يلبي حاجيات العاملين في التجويف..

احتدّت الرائحة، وكانت قنينة الأوكسجين لدى الحفار الأرضي على وشك النفاد، فأخذ يطرق المجرفة ويهز الحبال طالبا النجدة، بيد أن العامل المكلف بالبكرة لم يكن ساعتها حاضرا، تعالت الصيحات والصراخات الواحدة تلو أخرى.. مترددة داخل تجاويف البئر لمدة تزيد عن ربع ساعة، وصدفة التحقت بموقع الحفر لكي أقف على الأشغال وكيف تجري، كما هي عادتي، فاستبدت بي الدهشة حينما لم أجد العامل المكلف بالبكرة، ناديت بمكبر الصوت على العاملين فلم أكن أتلقى سوى صوتي يرتجع إلي، اتصلت حينها بوحدة الإغاثة التابعة لمندوبية الطاقة والمعادن.

انتظرت بمعية صاحب البئر والعامل الثالث قرابة نصف ساعة، بدأ الأمل خلالها يضمحل مع كل لحظة ترقب قبل أن تلتحق بنا وحدة إسعاف مع دركي. نصبوا دلاءهم وأنزلوا رجلين منهما إلى قاع البئر تحت أضواء كاشفة.. غابا عنا زهاء خمس دقائق قبل أن يصعدا، يحملان عبر حبال معدنية سميكة العاملين، أحدهما كان قد فارق الحياة والثاني كان في شبه غيبوبة.

اقتادونا جميعا لأقرب مركز للدرك، أجروا معنا تحقيقات مكثفة؛ قضت بأن أودعوني السجن لمدة ثلاثة أشهر مع أداء غرامة مالية أداها صاحب البئر بدعوى تستره على قرار قديم كان أبوه قد تلقاه من السلطات المحلية، يقضي بعدم السماح بحفر بئر في منطقة تربتها معدنية لا تصلح مياهها للشرب.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.